مصادر تراثية في شعر محمود درويش

 

 

 

 

– 1 –
كل الينابيع الثقافية أضحت تصب في شعرنا العربي المعاصر، وبالأخص في منجزات المبدعين الأصلاء الممتازين من شعراء جيلي الرواد والستينيات من القرن الماضي.
من هنا احتل موضوع التراث اهتماماً خاصاً لديهم أثناء انشغالهم بتأسيس كتابة جديدة ، لما للتراث من حضور حي ودائم في وجدان الأمة ، ولما يزخر به من قيم روحية وفكرية ووجدانية معينة، قادرة على رفد التجارب الشعرية المعاصرة بالكثير من الإمكانات مما يمنحها طاقات تعبيرية بالغة القيمة.
وقد طرح العديد من المبدعين والنقاد المعاصرين الموضوع من زوايا نظر مختلفة، لكنهم، في الأعم ، التقوا في تأكيدهم على ضرورة مراجعة قراءة التراث والاستفادة منه بالكيفيات المناسبة ، وذلك من خلال عدة طروحات ومواقف، خاصة أن التراث ككيان تاريخي لا يمكن وصفه بالتجانس ، إذ الأمر في حقيقته أقرب إلى وجود تراثات لا إلى تراث واحد.
ولعل من نافلة القول أن نؤكد هنا، على مستوى الإبداع الشعري، سطوع ظاهرة اتسمت بالجدة والتجذر والنمو والاتساع الغني، بدءاً من أواسط خمسينيات القرن الماضي، تلك هي ظاهرة التفتح التراثي الواضح في القصيدة العربية المعاصرة ، التي يمكن رصدها ودراستها والخروج منها بقضايا فكرية وجمالية شديدة التنوع والثراء.
وقد كان من الطبيعي أن يمر توظيف التراث بعناصره الفعالة المتعددة في شعرنا المعاصر عبر محطات متميزة ، إذ أن شاعرنا المعاصر لم يبدأ واعياً تماماً بمهمة توظيفه الموروث عموما لغرض توصيل تجربته وإضاءة مادته الشعرية، فقد احتاج إلى العديد من التجريب والمعاناة الشعرية، وقبل هذا علاقة القراءة المستوعبة والتمثل والاستلهام ، بالإضافة ، طبعا ، إلى انفتاحه المستمر على المنجزات الإبداعية والنقدية الأجنبية ، في إطار التفاعل معها بشكل يضمن استثمار المثاقفة الخلاقة.
وكما تعددت مواقف شعرائنا المعاصرين من التراث العربي خاصة والتراث الإنساني عامة، فقد تعددت المصادر التراثية التي استقى منها شعراؤنا العديد من العناصر، ما بين شخصيات وأحداث ونصوص وأمكنة وأزمنة وقوالب فنية ومعطيات بلاغية وموسيقية.
وقد تم هذا، عند شعرائنا، عبر مختلف الاستعمالات والتوظيفات، وعلى عدة مستويات من الاستدعاء، نتيجة لاختلاف ثقافاتهم، وانتماءاتهم الإيديولوجية، واختلاف الوضع السياسي والاجتماعي الذي عاش الشاعر في كنفه .
إننا نعتقد أن عودة شعرائنا المعاصرين إلى (( القيم الفنية الشعرية الموروثة ليست انكفاءة أو رجعة ، إنما هي إحياء لكل ما أوثر عن الماضي الشعري من معطيات فنية إيجابية، وهي تطوير لفن الشعر كما أنها إضاءة وتعميق لرؤية الشاعر وإحساسه بالاستمرار والتواصل الفني ، فالشاعر عندما يتوجه إلى معطيات موروثه الأدبي فإنه لا يعمد إلى الإفادة الجامدة التي تدخل في باب التكرار والتقليد، وإنما يهدف إلى إعادة صوغ تلك المعطيات بما يثري عمله الجديد ويجعله صالحا للتعبير عن قضاياه المعاصرة))(1).
ومن خلال هذا الفهم لاستدعاء وتوظيف القيم الموروثة، ما يمكن ملاحظته عند العديد من الشعراء المهمين الذين عمدوا إلى تأكيد صوت الماضي في منجزاتهم الشعرية.
إن شاعراً كبيراً ومنظراً شعرياً فذاً محدثاً مثل « ت. س. إليوت» يشترط للشاعر الحقيقي ميزة أساسية هي أن يُذكِّرنا عند قراءته بسابقيه وأن تقودنا إليه قراءة هؤلاء ، فكما أن الأجيال الأدبية تتوارث ميزات الأجيال السابقة عليها ، فإن الشاعر الحقيقي يحمل في ثنايا صوته امتداداً وإشارات من سابقيه ، وهي ليست بالضرورة منطبقة انطباقا ميكانيكيا على هذا أو ذاك من الشعراء بقدر تمثلها للتأثيرات المختمرة في شخصية الشاعر، فحضورها هنا يمثل حضور ماضي الشاعر واتساق خطه الشعري المُتجاوز.
وقد عبّر « إليوت» في العديد من كتاباته ، عن أهمية الربط بين نتاج الشاعر المعاصر بأسلافه الشعراء ، ودعوته لاستغلال موروثهم الشعري لإغناء قصيدته الحديثة به . فهو يعلن بأن «التراث الشعري من الماضي هو أغلى ممتلكات الشاعر التي يجب أن يحافظ عليها والتي يستمد منها جزءا من نفسه . ولكن الشاعر أيضا يُنمِّي هذا التراث بابتداعه لأسلوبه الفني الخاص ، ويكون سيد ما ابتدعه وخادمه في آن معا»(2).
ويقول في نفس الاتجاه «وليس من الغريب أن نجد أكثر الشعراء نشاطاً في مجال الإبداع هم
كذلك أكثرهم تأثراً بصوت الماضي» (3).
أما الشاعر ستيفن سبندر فيشبه شعر الماضي « بمثابة نهر هائل يروي الحياة كلها، لا يحتقر الضئيل الغض وإن كان يتجاهل التافه. لذلك يجب على الشاعر الحديث ألا يسد مجرى هذا النهر الكبير وإنما لابد له أن يحيا مرة ثانية» (4).
ويبدو أن هذه الظاهرة لم تقتصر علينا وحسب، ولا على تيار في الشعر الإنجليزي الحديث يمثله « إليوت» ، وإنما نجد ما يماثلها في عوالم إبداعية أخرى التفت أبناؤها إلى تراثهم يستوحون من منابع إلهامه.

– 2 –
إن في التفاتة محمود درويش إلى التراث واستفادته الخلاقة منه يلحقه بقافلة الشعراء العرب المعاصرين الذين وصلوا شعرهم الحديث بالموروث باعتباره أحد ينابيع الإبداع والإضافة.
فمما لا ريب فيه أن التراث العربي خاصة والإنساني عامة، ينطوي على صفحات مشرقة مليئة بالتجارب والخبرات الإنسانية العالية والعمق الفكري والأصلة. وهذا الجانب الثري والخصب من تراثنا هو ما يستحق البقاء والاهتمام. وهو ما يستحق أن نلتفت إليه ونربط بينه وبين واقعنا الحقيقي الذي نعيش فيه؛ ذلك أن الكثير من عناصره ما تزال تملك القدرة على مخاطبة عصرنا الحاضر والدخول معه في حوار عميق، لتكون محفزة على فهمه وإضاءة مسيرته.
إن استقراءنا، في هذا المجال، للمدونة الشعرية لمحمود درويش ، جعلنا نلاحظ أن حضور التراث لديه قد شكل ظاهرة بارزة جديرة بالالتفات إليها والوقوف عندها كذلك ، فتجلياتها لا تخفى على متتبع هذه المدونة، نظرا ، كما أسلفنا، لغنى التراث بالمضامين والدلالات والرموز المختلفة التي أسعفته، لا محالة، في التعبير عن تجاربه الشعرية الخاصة والعامة، وقد أصبح التراث لديه كذلك جزءاً من البناء الشعري ومكوناً أصيلا من مكونات قصائده ، الشيء الذي ساهم في الارتقاء بها ومنحها الحيوية والتوهج والأصالة .
وقد عمد شاعرنا في استدعائه للتراث إلى النهل من مصادره المتنوعة، وتوظيفه لعناصره بطرائق وقيم فنية وجمالية مختلفة. حيث انطوت إبداعاته الشعريـة، على العشـرات من القصـص المستقاة من الكتب الدينية / المقدسة ، والشخصيات التاريخية والشعرية والدينية والأسطورية.
ولا يغيب عن بالنا، هنا، بأن السعي إلى استلهام الموروث واستعارة معارفه وخبراته لتعميق مشخصات الحاضر ومداركه، يحتاج قبل كل شيء إلى خبرة عميقة بهذا الموروث ، وإحاطة بمشكلات الحاضر المعاش في آن معا. كما يحتاج إلى قدرة فائقة على عملية الاختيار، يتم وفقها انتقاء ما يكون مساعداً للمبدع على التعبير عن خولجه الوجدانية وقضاياه العامة.
ولعل محمود درويش ، في هذا الإطار، كان على وعي ، منذ البداية، بأن الثقافة العميقة المتنوعة لا غنى عنها إذا أراد أن يصل إلى الشعر العظيم.
فبالإضافة إلى موهبته الأصلية الفذة، فقد اهتم كثيراً ، كما أشار مراراً ، بدراسة الآداب القديمة والقمم الكلاسيكية العالمية ، ولا حق التيارات الأدبية والفنية المعاصرة ، واعتكف على قراءة الشعر العربي والأجنبي، قديمه وحديثه، حيث تفاعل مع نصوص وتجارب ومواقف العديد من المبدعين البارزين طيلة مسيرته الإبداعية .
وهذا ما يكشف عنه حضور البُعد الثقافي الفني في تجربة شاعرنا، والذي كان له الأثر البيِّن في تعميق تجربته الشعرية، وإغناء فضاءاتها الدلالية وقيمها الجمالية والتعبيرية.
وللتدليل على ما قدمناه ، نعرض هنا شبه جرد للعناصر التراثية، من أحداث وشخصيات ومقولات وأمكنة ونصوص، تلك التي استحضرها شاعرنا محمود درويش مُحملاً إياها ، إلى جانب ما عُرفت به، بدلالات وإيحاءات ورؤى جديدة ومعاصرة قابلة للتأويلات المختلفة، وموظفاً إياها في بناء قصائده بأنماط وطرائق متعددة من الأداء الفني، مما منح تلك القصائد طاقات تعبيرية جمة.
وقد اعتمد شاعرنا في استدعائه لتلك العناصر التراثية على العديد من المصادر، يمكن مبدئياً تصنيف أبرزها على الشكل الآتي :
أولا – الموروث الديني :
وقد تمثل هذا الموروث، بالأساس ، في الكتب الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية بما تزخر به من قصص وشخصيات وأقوال وأماكن وأحداث.
1 – الموروث الإسلامي :
حضور النص القرآني – آية الكرسي – سورة يوسف – واقعة سليمان مع الهدهد –
الاستغلال الشعري للعديد من الآيات – آيات قرآنية بشكل واضح – استخدام لفظة من آية أو جزء من آية تحمل فكرة معينة – استحضار أجواء بعض القصص القرآنية .
الإحالة على أحاديث نبوية – أقوال مأثورة للرسول – البراق – الإسراء والمعراج.
2 – الموروث المسيحي :
الإنجيل ـ مأساة المسيح ـ الصليب ـ قصة العشاء الأخير ـ شجرة الكرمة ـ دم المسيح ـ معجزات المسيح ـ عيد الخبز والسحابة ـ العذراء ـ أورشليم ـ أقوال وعبارات المسيح ـ الرغيف ـ النبيذ ـ الخطايا ـ المغفرة.
3 ـ الموروث اليهودي :
الفصل بين الصهيوني واليهودي ـ نصوص من العهد القديم ـ مزامير داود ـ بابل ـ القدس ـ التلمود ـ حائط المبكى ـ ألواح الوصايا ـ شخصيات يهودية من أنبياء وقديسين كان لها موقف تاريخي معارض لأعمال بني إسرائيل وأخطائهم في العهد القديم / موسى ـ حبقوق ـ أشعيا ـ أرميا … ـ قصة السبي ـ قصة الخروج ـ قصة التيه ـ سفر الجامعة ـ سفر التكوين ـ نشيد الأناشيد ـ مراثي أرميا ـ التوابيت ـ هيكل سليمان .
4 ـ شخصيات دينية :
محمد ـ خديجة ـ إسماعيل بن هاجر ـ آدم وحواء ـ أيوب ـ نوح ـ يعقوب ـ حبقوق ـ موسى ـ أشعيا ابن أموص ـ أرميا بن حلقيا ـ يوسف ـ لوط ـ بلقيس ـ زكرياء ـ قابيل ـ هابيل ـ مريم المجدلية ـ يسوع المسيح ـ مريم العذراء ـ الأب والإبن والروح القدس ـ يشوع بن نون ـ جلعاد ـ سليمان ـ امرأة لوط .
ثانيا ـ الموروث التاريخي :
1 ـ شخصيات تاريخية :
صلاح الدين الأيوبي ـ خالد بن الوليد ـ المغول ـ التتار ـ الهكسوس ـ فرعون ـ نيرون ـ ممالك الأفرنج ـ سبايا بابل ـ ثورة العبيد بقيادة سبارتكوس ـ ثورة الزنج ـ طارق بن زياد ـ الهندي الأحمر ـ الغزوات ـ عائشة ـ حادثة الإفك ـ الصليبيون ـ كسرى ـ قيصر ـ كريستوف كولمبوس ـ اليونان ـ الأسكندر ـ طوفان نوح ـ هولاكو ـ جنكيزخان ـ الروم ـ هرقل ـ النجاشي ـ الحسين بن علي ـ أميّة ـ ابن عباس ـ كافور ـ القرمطي ـ ابن خلدون ـ تيمورلنك.
2 ـ أماكن تاريخية وأشياؤها :
الأندلس ـ صور ـ روما ـ دمشق ـ بيروت ـ كفر قاسم ـ تل الزعتر ـ حطين ـ كربلاء ـ حيفا ـ يافا ـ بابل ـ سومر ـ يثرب ـ خيبر ـ القادسية ـ سمرقند ـ هيروشيما ـ أثينا ـ مصر ـ أريحا ـ خيمة الرب ـ هيكل سليمان ـ الجلجلة ـ سدوم ـ كنعان ـ أورشليم ـ قرطاج ـ غرناطة ـ الفسطاط ـ نيسابور ـ قشتالة ـ المسيسيبي .
ثالثا ـ شخصيات أدبية ـ فكرية ـ فنية :
امرؤ القيس ـ الأعشى ـ طرفة بن العبد ـ لبيد بن أبي ربيعة ـ جميل بثينة ـ مجنون ليلى ـ المتنبي ـ أبو فراس الحمداني ـ أبو العلاء المعري ـ تميم بن مقبل ـ أبو تمام ـ السهرودي ـ السياب ـ لوركا ـ ناظم حكمت ـ برتولت بريخت ـ بابلو نيرودا ـ نزار قباني ـ أمل دنقل ـ بول تسيلان ـ ريني شار ـ مايكوفسكي ـ أفلاطون ـ أفلوطين ـ زرادشت ـ سوفوكل ـ إسخيلوس ـ ابن سينا ـ ابن رشد ـ الإلياذة لـ « هومير « ـ هيلين ( بطلة الملحمة ) ـ صامويل بيكيت ـ الكوميديا الإلهية لـ « دنتي « ـ بيكاسو ـ دالي ـ فان كوخ ـ هيدغر .
رابعا ـ الموروث الأسطوري :
بعل / أدونيس / أوزريس ـ تموز ـ أوديسيوس ـ تيلماك ـ بينلوب ـ الفينيق ـ طروادة ـ أوديب ـ جلجامش ـ العنقاء ـ أنكيدو ـ السندباد ـ نرسييس ـ الأولمب ـ هوميروس ـ عشتار ـ إلكترا ـ هرقل ـ هيلين ـ الطوفان ـ زهرة النرجس ـ أسطورة البعث ـ أسطورة الصقر ـ أسطورة الوعل الذي يحمل الأرض على قرنه ـ إنانا / أنات / عناة .
إن ما يلفت النظر، كما لاحظنا، هو مدى غزارة هذه المعطيات والعناصر الثقافية/ التراثية العربية والإنسانية ، بأبعادها المتفاوتة، وأزمنتها المتعددة ، تلك التي وقف عندها شاعرنا ، وسعى، ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، إلى توظيفها بأشكال متنوعة، لتصبح من ضمن وسائله التعبيرية ، وقد حولت العديد من نصوصه الشعرية إلى بؤرة إشعاعات إيحائية دالة مما أغناها وأضفى عليها هالة فكرية وجمالية ، كما فتحت أمامها، من ثمة ، الولوج إلى مناطق جديدة للتعبير الشعري .

إحـالات :
د. محسن أطيمش : دير الملاك ـ منشورات وزارة الثقافة والإعلام بغداد ـ 1982، ص: 222.
إليزابيث درو : الشعر كيف نفهمه ونتذوقه ـ ترجمة : د. محمد إبراهيم الشوش ـ منشورات مكتبة مَنيمنة ، بيروت 1961 ، ص : 24.
م.ل. روزنتال : شعراء المدرسة الحديثة ، ترجمة : جميل الحسني ، المكتبة الأهلية ، بيروت 1963 ، ص :33.
ستيفن سبندر : الحياة والشاعر، ترجمة: د. مصطفى بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، ص: 104.


الكاتب : د. حسن الغُرفي

  

بتاريخ : 08/09/2023