معالم تاريخية تعيش “أرذل العمر” 05 : مآثر «الجديدة» تحتضر بسبب إهمال بعضه ظاهر والآخر «مستتر» 4

في كل منطقة من مناطق المغرب، تواصل عدد من البنايات والمآثر، التي تشكّل جزء مهما وأساسيا من الذاكرة الفردية والجماعية، الوقوف بشموخ، وإن كانت تعاني الإنهاك، بعدما فعل فيها الزمن فعلته، حتى صارت تعيش مرحلة “أرذل العمر”، وتنتظر وقوعها أرضا، لتختفي كما لو أنها لم تكن يوما، فتلاقي بذلك مصير العديد من المعالم التي تم طمسها سابقا، وحلّت محلّها بنايات مفتقدة لأي روح، كان الهدف من وراء تشييدها الربح المادي الخاص بالأساس؟
بنايات، تتوزع ما بين أسوار، وفنادق، ومركبّات، ودور للسينما، وقصبات، وغيرها… بعضها تم التدخل من أجل إنقاذها و “إنعاشها”، وأخرى تُركت لحالها إلى أن جاء “أجلها” ووريث الثرى، في حين تنتظر أخرى التفاتة فعلية من الجهات المختصة للحفاظ على هوّيتها، وإعادة الاعتبار إليها…

 

 

قصبة بولعوان تتهاوى في صمت وسر «طازوطا» لا يزال طي الكتمان

تعتبر قصبة بولعوان أو قصر السلطان «لكحل»، أحد أهم المراكز الأثرية المغربية، إلا أنها هي الأخرى عرفت إهمالا وتهميشا لا حدود له، حيث أضحت نموذجا صارخا لما تعانيه العشرات من المآثر التاريخية بالمغرب من إهمال. قصبة تعرضت أجزاء كبيرة من معالمها للإتلاف، علما بأنه كان بالإمكان تداركها من خلال فتح أوراش إصلاح تعيد الاعتبار لها، باستثناء بعض الإصلاحات الخجولة التي شملتها خلال فترة الثمانينيات، إضافة إلى بعض الترميمات التي سبق القيام بها باستعمال الإسمنت، ما أدى إلى طمس عدد من معالم هذا البناء التاريخي الذي يستوجب ترميمه أن يرتبط بخصائص معمارية وعمرانية من طرف مختصين في الهندسة المعمارية الأثرية.
ويؤكد عباس مهادي، الذي يحفظ عن ظهر قلب الكتابات المتواجدة بداخلها (النصر والتمكين، والفتح المبين للمولى إسماعيل المجاهد في سبيل رب العالمين، أيده الله و نصره على يد وصيفه بالله سعيد بلخياط عام 1122 هجرية الموافق لعام 1710 ميلادية.) أن مؤسس القصبة هو السلطان عبد المومن بن علي الموحدي، وقد سكنها كثير من الأشراف المحترفين لكسب الماشية والزراعة، كما عرفت أحداثا دامية خلال العهد الوطاسي حيث كانت خلال سنة 1514 مسرحا لمعركة بين المغاربة ومعتدين برتغاليين أتوا من مدينة أسفي وأزمور، الأمر الذي دفع سكان بولعوان إلى إخلائها نظرا لعدم إحساسهم بالأمان، فقام المولى إسماعيل والذي رغب في إقرار الأمن بالمنطقة في أواخر حكمه، بتشييد قصبة عسكرية لحراسة الطرق التي كانت تربط العاصمة مكناس بمختلف نواحي المملكة، على اعتبار موقعها الذي يتحكم في أحد الممرات الرئيسية بين مراكش وفاس على نهر أم الربيع.
ويجهل السبب الذي جعل القصبة مهجورة وخالية من السكان، غير أنه أعطى تفسيرا مرتبطا بمحاولة المولى إسماعيل تأبيد ذكرى وفاة زوجته المفضلة (حليمة) التي حزن لموتها حزنا شديدا، فأغلق القصبة ولم يعد إليها أبدا، وبعد سنوات من ذلك أمر بإخلائها نهائيا. وأضاف مهادي، أن الموقع الاستراتيجي للقصبة وتواجدها على الحدود المشتركة بين ثلاث قبائل كبرى هي دكالة، والشاوية والرحامنة، خول لها أن تكون مركزا للمراقبة، وإن اختفت أهميتها الاستراتيجية اليوم فإن أهميتها التاريخية مازالت شاهدة على عصر مجيد برع فيه الأجداد في تشييدها بكل مهارة. ولعل ما يميز القصبة هو سماكة جدرانها كما أن بها برجا كبيرا يناهز علوه العشرة أمتار، إضافة إلى مسجد، وقبة رجل صالح يدعى سيدي منصور، وبقايا مسبح في الأسفل. وكان وزير الثقافة الأسبق قد زارها رفقة وفد من الخبراء حيث تم تخصيص ميزانية إصلاحها إلا أن الأشغال ظلت تتعثر ولم يعرف بعد مصير ما تم تقريره بشأنها .

طازوطا .. سرّ لم يخرج إلى
العلن بعد …؟

تتعدد المواقع الأثرية والسياحية بمنطقة دكالة وتتنوع، كما تتعدد مظاهر الإهمال والإقصاء التي تتعرض لها مغارات الخنزيرة، التي لم يبق منها سوى الاسم، ومدينة الغربية بأعمدتها المزخرفة وأروقتها البديعة وآبارها وشهرة الصديكيين بها، التي دخلت تاريخ النسيان، والوليدية التي بناها السعديون واستكملها العلويون، تنحدر إلى مستنقع الإهمال ضدا على التاريخ والرموز، وبناءات الطازوطا المتفردة، التي لم تكشف بعد عن أسرارها ولم تحظ بعناية، وهي التي تصلح لاستثمار كبير، خاصة في المجال السياحي الذي أضحى مزدهرا بالجديدة ومناطقها، التي يبدو أن الزيارات التي تتم لحد الآن تظل مجرد سياحة خصوصية جدا، تقوم بها جهات غير معروفة، ومن بينهم أجانب، حيث لن تفيد البلاد ما لم يتم تطوير آليات التسويق وتأهيل التراث المحلي وتحسين البنيات التحتية.
إنه غيض من فيض لما تعرفه ذاكرة وطن بأكمله من إهمال لذكرياته الجميلة، بل إن بعضا من مسؤولينا يريدونها فقط مواسم لحصد كل جميل، وجدرانا للتشكي والبكاء، من غياب الوسائل المادية واللوجستيكية، في الوقت الذي تصرف مبالغ ضخمة على أشياء لن تعود بالنفع على مدننا وعلى ذاكرتنا.


الكاتب : مصطفى الناسي / إعداد: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 16/03/2024