مع المؤرخ عبد الأحد السبتي في اختراقاته المنهجية

 

الذاكرة الشفوية والتدوين التاريخي

 

لا شك أن تطور مناهج البحث التاريخي المعاصر، قد فتح المجال أمام تحقيق طفرات هائلة أمام نزوعات تجديد ذهنيات قراءة المتون، وتصنيف الشواهد، وتوسيع مفهوم الوثيقة لتتجاوز الشواهد المادية المباشرة إلى مجموع المخلفات الرمزية والمحكيات الشعبية والآثار اللامادية. لقد أضحى جليا، ابتعاد صنعة كتابة التاريخ عن قوالب التنميط التقليداني المفرط في إخلاصه لقدسية النص المدون والروايات المتناسلة والأحكام المتوارثة، في مقابل تجاوز سقف الثقافة «العالمة» بالانفتاح على «التاريخ الغائب»، تاريخ الهامش والمهمشين، وتاريخ الذهنيات، وتاريخ التمثلات الجماعية، والتاريخ من أسفل…
لقد شكلت مدارس «التاريخ الجديد» ثورة منهجية أعادت تقويم حصيلة تراكم الكتابات التاريخية، الكلاسيكية منها والمجددة، وأضحت مناحي التجديد رحبة مع تشعب مكتسبات المدرسة الوضعية، ومع الانفتاح على تاريخ البنيات الطويلة الممتدة في الزمن حسب ما أسست له مدرسة الحوليات وخاصة مع رائديها لوسيان فيفر وفرنان بروديل. وإذا كان تواري «الحدث» السياسي والعسكري سمة للارتدادات المرتبطة بهذه التطورات المنهجية، فإن «عودة الحدث» – مرة أخرى- شكل مدخلا للتأصيل لمعالم التحول في ذهنيات الاشتغال. تأسست نزوعات «عودة الحدث» على قاعدة توسيع مفهوم الوثيقة والانفتاح على مظان جديدة في الكتابة التاريخية، مثل الآداب والفنون والتراث الرمزي والمحكيات الشعبية…
ويعتبر الأستاذ عبد الأحد السبتي أحد أبرز رواد التاريخ الاجتماعي بالمغرب الراهن، ليس – فقط- بالنظر لاستيعابه للتحولات المنهجية العميقة التي مست الكتابة التاريخية، خاصة من ينابيعها الفرنسية والإنجليزية والألمانية، ولكن -أساسا- بالنظر لقدرته على اقتحام حقول ألغام قضايا «الظل» وأسئلة «الهامش» والتباسات «المنسي»، مثلما هو الحال مع دراساته المرجعية حول «المجتمع الحضري والسلطة في المغرب من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر» (2007)، أو مع دراسته حول «النفوذ وصراعاته في مجتمع فاس من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين» (2007)، أو مع دراسته المعنونة ب»بين الزطاط وقاطع الطريق-أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار» (2009)…
لم يركن الأستاذ عبد الأحد السبتي للأسئلة السهلة في التوثيق التاريخي المدرسي، ولم يطمئن لتقليعات المدارس الغربية المعاصرة، ولم يتمايل مع بريقها الأخاذ، لكنه -في المقابل- اختار الطريق الصعب في البحث وفي التنقيب، طريق التأمل الهادئ، والصارم، والفاحص، والمدقق،… ولكن كذلك، طريق التريث والصبر والأناة، قبل استخلاص الأحكام وقبل تلقيح الفرضيات، وقبل استثمار نتائج الجهد التنقيبي والتصنيفي في الدراسات التركيبية.
في إطار هذا التوجه العام، يندرج صدور كتاب «من عام الفيل إلى عام الماريكان- الذاكرة الشفوية والتدوين التاريخي»، وذلك خلال السنة الجارية (2022)، في ما مجموعه 548 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن العمل ثمرة جهد ممتد في الاشتغال على المادة الخام، وفي توليد الأسئلة المؤطرة للموضوع، وفي بلورة الفرضيات والخطاطات الموجهة للعمل. وقد غطى هذا الجهد مدة زمنية بلغت حوالي عشرين سنة من البحث ومن التجميع ومن التأمل، اشتغل فيها الأستاذ السبتي بشكل مسترسل رغم انقطاع حلقات هذا الاشتغال وتوقفه لفترات متراتبة، مما كان يعطي للمؤلف فرص تخصيب رؤاه وتصوراته. وقد أثمر هذا الجهد – في النهاية – عملا تأسيسيا في مجال تلقي المعرفة التاريخية ببلاد المغرب وبعموم البلدان العربية. ويلخص الأستاذ السبتي الخطوط العامة لعمله في كلمته التصديرية، قائلا: «أذكر عندما كنا نسأل جدة أمي عن سنة ولادتها كانت تجيبنا: سنة الثلجة الكبيرة. وهذا الكتاب يرصد تلك الأسماء التي يسمي الناس بها الأعوام- السنين بناء على ما يمر بهم من أحداث مؤثرة فيها. ولكنه – بالطبع- يتجاوز أحداث جدتنا الشخصية، ويذهب للأعوام الكبرى في تاريخنا. والأحداث الكبرى مثل الحروب والمجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية التي دخلت في الذاكرة الجمعية. هي أسماء ظلت في الذاكرة الشفوية، وأتت بعض كتب التاريخ على ذكرها باقتضاب، وذلك منذ بداية التدوين التاريخي في الإسلام، ولكنها وردت أيضا في السرديات الأدبية والصحفية والفنية. فمن العام الذي اصطحب فيه أبرهة الحبشي أفياله وذهب لهدم الكعبة، وحتى عام أرسل الرئيس المريكاني (كما تُلفظ في اللهجات المغاربية) روزفلت أساطيله لتنزل على الشواطئ المغاربية في طريقها لهدم برلين النازية، فاتحة معها زمن الثقافة المريكانية. هذا الكتاب -إذا- هو تدوين تاريخي مفصلي يرتكز على الذاكرة الشفوية، ويأخذ من أسماء الأعوام مفاتيح لكتابة أنثروبولوجية جديدة…».
وعلى هذا الأساس، وجد المؤلف نفسه ملزما بالعودة للتدقيق في المرجعيات المهيكلة لبحثه، وعلى رأسها مفهوم «الأعوام» في دلالته اللسانية المرتبطة بالأحداث التي وقع تخزينها في الذاكرة الجماعية، مثل عام البون، وعام الفيل، وعام الماريكان، وعام بوكليب،… وذلك في سياق أشمل لمفهوم الثقافة الشعبية، وهو المفهوم الذي عرف تحولات جوهرية انتقلت به من مرحلته الأولى حيث اتخذ صفة نخبوية ظلت تقصي الرواية الشفوية، إلى مرحلته الثانية التي اتخذت طابعا شعبويا أعاد الاعتبار للثقافة الشفوية باعتبارها أساس الثقافة الشعبية، وانتهاء بمرحلته الثالثة التي أصبح -فيها- المفهوم يكتسي بعدا اجتماعيا وتاريخيا ظل يربط الثقافة الشفوية بشبكة من العلاقات الدقيقة والمتداخلة مع تحولات المجتمع والسلطة والمتون المدونة والوثائق المادية والتراث الرمزي.
لقد أدرك المؤلف أهمية العودة لفحص رصيد الكتابات الروائية التي تستنطق مكنونات الذاكرة الجماعية، قبل تحويلها إلى بؤرة للخلق وللإبداع ولصيانة شتات نظيمة القيم والرموز والتمثلات، وهي النظيمة التي لا يمكن التوثيق لها ولا توظيفها ولا استغلالها في سياق الكتابة التاريخية التقليدانية المخلصة للمرجعيات العامة المتوارثة عن العهود الماضية. لذلك، نحا المؤلف نحو استثمار التراث الإبداعي، ونحو تطويعه في أفق إدماجه داخل نسق السرد التاريخي المهيكل بمفاهيم مرجعية مثل الزمن والأعوام، وبانصهار تحولات مجتمعية عامة داخل محطات فردانية يستغلها كل فرد من أفراد المجتمع لبلورة قراءته لتاريخه الشخصي، بعد أن تتحول الأحداث العامة إلى محطات شخصية يتم التأريخ من خلالها لأبرز معالم تحول حياة الفرد والجماعة. في هذا السياق، اهتم عبد الأحد السبتي بتفكيك الخطاب الإبداعي من خلال نماذج شفوية مثل قصائد الزجل والملحون وأغاني حسين السلاوي، إلى جانب توسيع دوائر الاشتغال بالنسبة للكتابات الروائية المعاصرة، عبر ربط سردياتها بسياقات الحكي وبشروطه التاريخية وبتوظيفاته لعطاء الذاكرة الجماعية كخيط رفيع يربط بين الوقائع والرموز والتمثلات والافتتان الذاتي بمعالم الجمال والتميز، مثلما هو الحال مع رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، ورواية «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري، ورواية «زمن الشاوية» لشعيب حليفي، ورواية «حرودة» للطاهر بن جلون، ورواية «الريح الشتوية» لمبارك ربيع، ورواية «لعبة النسيان» لمحمد برادة، ورواية «جارات أبي موسى» لأحمد التوفيق، ورواية «شجيرة حناء وقمر» لنفس المؤلف، ورواية «الماضي البسيط» لإدريس الشرايبي. وإلى جانب النصوص الإبداعية المشتغلة على «السيرة الاجتماعية» والمستثمرة لفعل التخييل، كان انفتاح المؤلف جريئا على محكيات الزمن الراهن، من خلال المواكبة الدقيقة لعطاء الصحافة الوطنية والعربية، ومن خلال الانفتاح على الشهادات والمرويات المرتبط بوقائع تنتمي للفترة الراهنة، مثل تداعيات انتفاضة الريف بشمال المغرب سنتي 1958 و1959، وتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في التعاطي مع ملفات سنوات الرصاص، وتداعيات الربيع العربي الذي انفجر منذ سنة 2011 ولاتزال ارتداداته قائمة إلى اليوم… وبطبيعة الحال، فقد استثمر المؤلف في كل نواحي هذا التجميع، زادا نظريا خصبا ومتنوعا، بأصوله العربية والعالمية، وبمصنفاته الكلاسيكية وباجتهاداته المنهجية والمعرفية المرتبطة بمجمل العلوم المتقاطعة مع صنعة كتابة التاريخ، مثل السوسيولوجيا والتاريخ واللسانيات والنقد الأدبي والأنثروبولوجيا وعلوم السياسة والاقتصاد.
اعتمد المؤلف في تصنيف مواد متنه على شبكة موضوعاتية من النصوص، تحيلنا على تجارب سابقة، خاصة في العمل المشترك الذي أنجزه بمعية حليمة فرحات حول «المدينة في العصر الوسيط- قضايا ووثائق من الغرب الإسلامي» (1994)، أو مع كتابه التنقيبي في الحركات الاحتجاجية بمغرب ما قبل الاستعمار من خلال نموذج مدينة فاس. ومعلوم أن هذه التقنية الدقيقة في تصنيف النصوص، تسمح بالجمع بين التوثيق والاستشكال لتفتح آفاقا واسعة أمام رحابة التأويل، وأمام الإمساك بالأسئلة المنفلتة من بين منطوق النص وخلفياته ورموزه، وهو النمط الذي أضحى يعرف اليوم ب»الكتابة بواسطة النصوص». وبطبيعة الحال، فإن هذا النمط أضحى يوظف أرصدة الحكي الشعبي المباشر، إلى جانب مجمل الكتابات الأدبية والأعمال الفنية، ثم المحكيات الشعبية، في أفق إدماج كل ذلك داخل نسق السرد العالم المحتفي ب»الحدث» في توظيفاته الفردانية من جهة، وفي قدرته على توليد نصوص على نصوص، وكتابات على كتابات، ومحكيات على محكيات. ولعقلنة توظيف هذا البعد، كان المؤلف حريصا على تقسيم أبعاد الزمن في إطار استلهام رباعي الأضلع. يقوم العنصر الأول على «الكرونوميتريا» أي قياس الزمن بواسطة وحدات وتقاويم، مثل التقويم القمري أوالتقويم الشمسي. ويقوم العنصر الثاني على «الكرونولوجيا» أي تنظيم الزمن بشكل خطي، ويقوم العنصر الثالث على «الكرونوغرافيا» أي وصف مضمون الزمن بالكتابات الإخبارية، في حين يقوم العنصر الرابع على «الكرونوزوفيا» أي العودة لربط العلاقة بين الوقائع وبين المسارات الجماعية اللاحمة لتفاصيل الماضي والحاضر والمستقبل.
باختصار، يتعلق الأمر بفورة إجرائية تساهم في استنفار الذاكرة المشتركة والمخيال الجماعي، قبل تطويعه وتحويله إلى مادة خام قابلة للتوظيف وللاستثمار. وبذلك ساهم الأستاذ عبد الأحد السبتي في وضع قواعد إجرائية ومرجعية لتأصيل البحث في مكنونات الذاكرة الشفوية في علاقتها بفعل التدوين التاريخي. ويبدو أن المجال يظل مشرعا وقابلا لتأويلات شتى، وقبل ذلك، لأشكال ولمداخل جديدة للبحث وللتفكيك. ولعل هذا ما اختزلته الكلمة التقييمية للمؤلف عندما قالت: «لقد انتابنا، عند الانتهاء من تأليف فصول هذا الكتاب، شعور قوي بأننا غامرنا بالتنقيب في أحداث تنتمي إلى حقب ومجالات متعددة، واضطررنا إلى العودة إلى بعض الأحداث والشخصيات أكثر من مرة، إلى درجة أن كل فصل من الكتاب قد يشكل في حد ذاته نواة لكتاب مستقل. ثم لاحظنا أننا ظللنا ننسج محكيات لا تنتهي، محكيات مختلقة حول الحدث نفسه، ومحكيات تتصل بعدد من التمثلات والمعتقدات، ومحكيات صغنا بها قراءتنا التي تحاول تفكيك البنية الداخلية للتمثلات، أو تحاول ربطها بسياقاتها التاريخية المتعددة. لعل ما أنقذنا من منزلق ضياع البوصلة داخل متاهة المحكيات، هو أننا خرجنا ببعض الخلاصات المؤقتة حول القضايا الثلاث التي انطلقنا منها، وهي الذاكرة والحدث والزمن…».
وبذلك، يتحول الموضوع الشفاهي إلى قاعدة للتأمل ولإعادة بناء السرديات المتمحورة حول «الحدث» وحول صانعي «الحدث» وحول نجاح الفرد والمجتمع في تحويل هذا «الحدث» إلى أساس للتقويم وللتوثيق، وقبل ذلك، للانتماء للزمن، زمن الماضي الممسك بخناق الحاضر، وزمن الماضي المنتج للرموز وللتمثلات وللمعتقدات وللذهنيات التي ترسم سقف التحول بالنسبة لعناصر الثابت والمتغير في علاقة الفرد بذاته وبالمجتمع وبالتاريخ وبالمستقبل.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 22/07/2022