مع برهان غليون من أجل علمانية إنسانية (6-6)

برهان غليون، مفكر سوري ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في جامعة السوربون بباريس. اختير رئيسًا لأوّل مجلس وطنيّ سوريّ جمع أطياف المعارضة السوريّة بعد انطلاق الثورة السوريّة في مارس 2011.
له مؤلّفات عديدة بالعربيّة والفرنسيّة. حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانيّة وأخرى في علم الاجتماع السياسيّ من جامعة السوربون في باريس.

 

لا يعني نقد العلمانية اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللادينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معا. ولا يتضمن هذا الفصل ولا ينبغي أن يتضمن أي مساس بشرعية اللادينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحق أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرا وتنظيما وصراعا لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح. إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللادينية والممارسة العلمانية معا. فالتستر وراء مبدأ العلمانية لم يضعف شروط تحقق الفكرة اللادينية فحسب، ولكنه حرمها أيضا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية، وقلل فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العلمانية الحقيقية، وما يعنيه من تخلي العلمانوية أو اللادينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تماما كتخلي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلا للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حق المؤمنين بالتمسك بإيمانهم والاعتراف بأصالة هذا الإيمان وشرعيته ولا جداليته هو شرط فرض حق اللامتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادل فيه أيضا.
وبالمثل، إن تحرير العلمانية من اللادينية، وإخراجها من الشرنقة العقيدية، هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية، ويصب في بناء جماعة سياسية سميت في العصر الحديث، امة دولة، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية، ساهم أكثر من أي إطار سابق في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحيائها.
وهذا هو أيضا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي الممثل بالسلطة الاستبدادية، والطغيان الفكري الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. وطالما بقي الاختلاط بين المعرفة والعقيدة، واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، فلن يكون هناك أمل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية، اللادينيين، والدينيين، الإسلاميين والعلمانيين، الأكثريات والأقليات، لصالح فئات سيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرر المجتمعات وتحلل عراها، واستخدام القوة المجردة والإرهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارضة والاحتجاج الضعيفة فيها.
تقف العلمانية في مقدمة المعركة من أجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة وأحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية.
هل يعني هذا أن صعود الحركات الإسلامية لا يهدد العلمانية أو أن العلمانية تستطيع أن تستوعب نمو الحركات الإسلامية. بالتأكيد تشكل الحركات الإسلامية تحديا تاريخيا لفكرة العلمانية وممارستها معا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلي عن روح العلمانية والقيم التي تبرر وجودها وتؤسس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي، ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد أو التفاهم لإنقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.
لهذا تستحق العلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بناءها، أي أن ننقدها. لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي، ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الإيديولوجية نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، من وراء العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك. فهي وحدها التي تقدم مفهوما دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم وأحكام وتوجهات تشكل اختيارا خاصا لفئة من المجتمع. العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.
في هذه الحرب الايديولوجية التي تدمر اليوم أسس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعا، أو تهدد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع، وسيلة لتطمين الأفراد على عقائدهم ووجودهم، وتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العلمانية تنبع مما تقدمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي توسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني، يزيل عنها كل السمات التي جعلت منها أداة لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات، ويقوض لا محالة أسس شرعيتها ومبرر وجودها.
باختصار، العلمانية من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية، أو مشرعة للقهر الجماعي، باسم حداثة ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانا سوى قرسطوية مقنعة ببهارج عصرية لا تخدع أحدا. فهي حداثة سالبة للإنسان ومعطله لضميره وعقله وجسده، ومستلبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معا.
ولذلك كما ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الإسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداءا لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم أو تشويه صورتهم لدى الرأي العام. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبقه نحن منذ الآن على أنفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا البعض الآخر، أو التشهير به، أو تخوينه أو تكفيره، ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها، ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى، وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك علمانية ولا حرية يمكن أن تعيش بغياب مفهوم الحد الأدنى من النسبية. وهذا هو أيضا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حد كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الإنسان، من وراء أفعال الإيمان والاختلافات العقائدية.
باختصار، كما يشكل فصل العلمانية عن اللادينية شرطا لإعادة مفهوم العلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكل تحرير العلمانية من توظيفاتها الإيديولوجية شرطا لتعميمها واستبطانها من قبل الجمهور وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية ثرية ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حد سواء.


بتاريخ : 15/06/2020