مغامرة «التجريب» في كتابات الدكتور محمد صولة

 

« جوهر كل جنس أدبي لا يتحقق ولا يتجلى بعمق إلا في تنوع متغيراته التي يبدعها الجنس، موضوع الاشتغال في أثناء تطوره التاريخي. «
ميخائيل باختين.

الدكتور محمد صولة، المهتم بعديد الأشكال الإبداعية، شعرا، قصة، مسرحا، سينما ورواية، و الذي توفق في إنجاز إصدارات عديدة فيها، خاض من خلال عمَلَيْه الروائيين : « تضاريس الهواء المر – أول التيه « (كجزء أول) سنة 2007؛ ثم: « صحراء جانوس – بين الما بين « (كجزء ثان) سنة 2013؛ مغامرة «التجريب» الصعبة، وحاول إقناعنا بقدرته على « اختراق الأزمنة و تفجير الجاهز في الجنس الروائي» على حد تعبير إسماعيل غزالي.
وبالعودة إلى جزأي الرواية، و اللذين صدرا معا عن المطبعة السريعة بالقنيطرة في طبعتيهما الأوليين، وقبل الخوض في توضيح مدى تمكن محمد صولة من إقناعنا أو عدمه في منجزه السردي، لنا أن نقف على عوالم النصين، المتباينة حينا، والمختلفة تمام الاختلاف حينا آخر. فعنصر الشخصية مثلا كفاعل رئيس في سيرورة الحكي، نجده غير ذي صلة – نظريا على الأقل- بين الروايتين. كما يبقى بينهما السارد/الكاتب، حاضرا لرواية الحدث، بل بؤرة السرد ككل. فشخصيات ك: الشجري، الحاج الهادي، ولد عائشة، أمي امباركة … التي أثثت فضاء الجزء الأول لا نعثر عليها و لا حتى على صداها في الجزء الثاني، إذ تبرز شخوص جديدة ك: الماتادوري، منصور، هدية، كوبكا، موماد السباعي … وغيرها، تؤدي أدوارا مختلفة و تتفاعل في وقائع لا ترتبط بسالفتها في الجزء السابق من المشروع الروائي.
وبالعودة إلى بعض تفاصيل الجزء الأول، فإننا نعثر على عتبتين اثنتين: إهداء مع مقولتين لأبي حيان التوحيدي، مضافتين إلى عناوين فرعية ( 25 عنوانا ) في 175 صفحة. يشكل كل عنوان جملة إسمية ، باستثناء النص/المقطع الرابع ( يحدث في الزمن كل شيء ) إذ المسند وقع جملة فعلية من فعل مضارع وفاعل ضميرا مستترا مع جار و مجرور يعودان و يرتبطان بالفعل ، فجاز بذلك تقديم الخبر عن المبتدأ « لوجود دلائل لفظية تقتضي تقدم الخبر وتأخر المبتدأ. « بينما المسند إليه (الخبر) فهو جملة إسمية من مبتدأ محذوف مقدر ومن مضاف إليه، يتمان فائدة ما سبق، وبذاك تأخر المبتدأ.
ما أسعى إلى توضيحه هنا، هو أن الجملة الفعلية الوحيدة/الاستثناء ضمن خمسة وعشرين عنوانا، تغدو هي نفسها جملة إسمية، وتكون كل العناوين الفرعية بالتالي جملا إسمية. وقد ذهب علماء البلاغة العربية إلى أن الجملة الإسمية تفيد الثبات والاستقرار، ماعدا إذا كان خبرها جملة فعلية، فتدل على الحدوث وعلى التجدد. .
وبتصفحنا للجزء الثاني: « صحراء جانوس – بين الما بين « فإننا لا نعثر على عناوين ، إنما تم استبدالها بأرقام ، ليصل العدد إلى أربعين «40» مقطعا نصيا، تتخللها شذرات، عبارة عن عتبات ومداخل ( رولان بارت، إبن شاهويه، جاك ديريدا، ابن عربي، نيتشة، أبوحيان التوحيدي، عبد الكبير الخطيبي ) مع نصوص شعرية لأربعة شعراء أصدقاء ( سعيد بن الهاني، عبد السلام لعبيسي، ناصر العلوي ومحمد صولة ) وتعريف بأهم أعماله و انشغالاته في مختلف دروب الابداع.
يأتي الجزء الثاني من الرواية في 222 صفحة، به سرود متولدة عبر مخيال حر متحرر من كل قيد. يعانق النص الشعري المتعدد، حيث يحتفي بمحمد مهدي الجواهري، معروف الرصافي، بدر شاكر السياب، عمر أبي ريشة وسعدي يوسف. و الملاحظ أن السرد قد تصدى لأجواء الوضع السياسي/الاجتماعي المتأزم في العراق، عراق تسعينات القرن العشرين، و ما عرفه من ويلات و مآس، تداعياتها لازالت مستمرة إلى الآن. و لذلك جاءت النصوص الشعرية مختارة بعناية لخدمة الغرض، ولشعراء عراقيين (أغلبهم) لهم منزلتهم ووقعهم. لكن الرواية ما تفتأ تعرج بالمتلقي بين الفينة و الأخرى على عوالم مختلفة ساعية إلى تشثيث الذهنية. ولنا نماذج أذكر منها: نيكيتا خروتشوف، تدخل القوات الأمريكية في لبنان، سقوط العراق، مذابح تيمورلنك، جائزة البولتزر، ملحمة جلجاميش، قضاء فترات جميلة في مهدية القنيطرة، الإقامة ببعض أحياء مدينة سيدي سليمان، محاضرات محمد عابد الجابري، جاك ديريدا، جلسات الاستماع العمومية لضحايا الانتهاكات الجسيمة في مغرب سنوات الرصاص …
يقول الهادي بوذيب: « التجريب مرتبط بخطاب الحداثة، حيث استعمال القدرات العقلية و إخضاعها لمنطق التجربة الحسية للكشف عن القوانين و الفرضيات المادية المستخلصة من لدن الوعي بالموضوع.» . و يضيف أيضا: « قدرة الممارسة العقلية في احتكاكها و تفاعلها المباشر مع التجربة المتاحة التي تنتجها علاقة الذات بالموضوع (…) فليس هناك قالب جاهز للرواية، الأشكال تموت بمجرد بروزها و قراءتها.» . يبدو أن محمد صولة قد أخضع نصه الروائي لنفس المنطق، على اعتبار أن الوعي ببعض أحداث عصره و تفاعله معها (العراق الحديث) دفعه إلى رصدها شعوريا، ثم محاولة فهم اشتباكاتها ( الوضع السياسي الداخلي و التدخل الأجنبي فيه، مع تدويل صراع المصالح على أرضه، ثم التفاعل الأدبي/الابداعي مع ذلك.) الشيء نفسه الذي وجهه إلى التنقيب التاريخي و ربط عناصره مع الحاضر، تفسيرا لذلك، وبهذا، حقق مفهوم الكتابة الروائية تبعا لكتابة خاصة نابعة من مقروئية موجهة.
أثناء الحديث عن التجريب في الرواية، نضطر لبيان تمظهرات ذلك، من خلال الجزأين، فالشخصيات غير رئيسية، والوصف مكثف واللغة متنوعة متعددة ومبتكرة حسب السياق السردي، كما أن الرؤية من الخارج هي أساس العملية الحكائية. فشخصيات الجزء الأول لا تتكرر بتاتا في اللاحق، كما أن بؤرة الحكي تختلف في العملين، ما جعل السياق السردي مختلفا، ثم احتفائية محمد صولة بالشعر في الجزء الثاني قابلتها تداعيات خطاب مسرحي سينمائي ضمني في الجزء السابق، وهذا ما اصطلح عليه الهادي بوذيب ب» حوارية الأنماط المعرفية.» .
إن حرية المبدع في التعامل مع منتوجه الروائي أثناء عملية التجريب، تطرح علينا أكثر من سؤال ونحن بصدد قراءة جزأي رواية محمد صولة:ما علاقة الجزء الثاني بالأول؟ و العكس صحيح؟ أين هي علائق الربط بين شخوص العملين؟هل من صلة واصلة بين سرود ومحكيات الرواية؟ أي تبئير يمكننا استنتاجه في الجزأين؟عن أي خطاب سيتم الحديث؟ما علاقة الفضاء الثاني بالأول؟ (الفضاءات)
تبدو الاجابة صعبة إلى حد ما، لاعتبار الخلخلة أو الرجة المعنوية التي تحدث لنا ونحن نتابع وقائع الجزءين، أو مسار ومآلات شخوص الجزء الأول، أومدى التعالق بين النصين ككل؟! إلا أن مقصدية «التجريب» وهدف محمد صولة في منجز روائي ينتج عبره تراكما في الباب، يتيح لنا الوقوف على مقدرة هائلة وخاصة يتمتع بها الكاتب، ترقى به إلى اعتباره أحد المساهمين الفعليين في حركية « التجريب « في الرواية العربية عموما والمغربية خصوصا، حيث تكمن الجمالية في القدرة على الكتابة، وطرح الأسئلة الجديدة وصياغة أشكال خطابية مولدة ومستحدثة، وليس في العناصر السابقة. فمثلما يرى جميل فتحي الهمامي أن: « الرواية لم تعد مختبرا للسرد، و الاعتماد على التمثيل و التأويل والخيال، ولكننا بتنا أمام ما اصطلح عليه ب: الكتابات البيضاء.»
فاللغة عند محمد صولة، مؤسسة على بحث مستمر ومسترسل عن الجديد، و المضامين غدت لحظة للانفلات، والشخوص قابلة لتقمص كل الأدوار، بينما الفضاء، فهو طلق بلا ضفاف وغير محدود، تهيم فيه جميع العناصر وتتشابك دون حذر، ثم إن الأصوات الداخلية في الرواية تتعدد وتنفتح دلاليا، مادام واقعها مفتوحا هو الآخر على بدايات و نهايات لا محددة !!
يتضح أن استخدام الذاكرة في الروايتين عبر الومضة الورائية أو تقنية الاسترجاع، سهل على الكاتب سير حكيه والاسترسال فيه ، إلا أنه بالمقابل خلق « فوضى منظمة «، وضعت المتلقي في سياق بحث مضن عن المعاني ومحاولة رصدها، ليصير في النهاية أمام بنية سردية مفككة، غير تقليدية، بل مستحدثة ومرتهنة إلى سعي حثيث من لدن الكاتب نحو الخروج من سيطرة فكرة واحدة و تقنيات بعينها إلى نوع من «الاختلاف» المتوافق حوله، و المؤدي إلى التماثل، مثلما ذهب إلى ذلك الناقد إبراهيم فتحي؛ يقول: « يجعل التجريب الرواية أكثر مرونة و قدرة على التطور وعلى نقد نفسها، كما يجدد لغتها ويدخل عليها تعدد الأصوات والانفتاح الدلالي والاحتكاك الحي بواقع متغير، وبحاضر مفتوح النهاية (…) فيواصل التفكير و التقييم دون حسم نهائي. « .
يكون قد تحقق بالتالي لمحمد صولة من خلال عَمَلَيْهِ « تجريبٌ عام « هادمٌ لسلطة البنية الحكائية النمطية، و «تجريبٌ لغوي « تسوده الفوضى الخلاقة، ثم « تجريبٌ معنوي « رافضٌ، مارقٌ، ومختلفٌ في تقنياته السردية.


الكاتب : دراسة: جواد المومني

  

بتاريخ : 10/03/2020