مقاربة «الداخل والخارج» للكاتب السعيد الحمولي

«الكاتب السعيد الحمولي، كاتب قديم من كتاب الثمانينيات. فإذا تأخر في نشر مجموعته الأولى إلى اليوم، فلأنه يحترم القارئ ويعيد تنقيح نصوصه وتهذيبها باستمرار.»
أحمد بوزفور**

 

تتكون مجموعة الداخل والخارج من ثلاثة عشرة نصا، أقصرها «فوق الجبين» يبلغ عدد صفحاته أربعة، من حجم الكتاب المتوسط، وأطولها «صاحبة الحايك»، يبلغ ثماني صفحات. يعتمد الحكي فيها على ضمير الغائب في سبعة نصوص، وعلى ضمير المتكلم في خمسة، وجمع بينهما معا في نص واحد، فيما تنوعت الفضاءات، التي جرت أطوار القص فيها، بين الحي الشعبي والقرية، اعتمادا في غالب الأحيان على ذاكرة وخيال الطفولة. والمقصود بالحي هنا، الذي ترعرع فيه جيل – وإن تقدم به العمر وتزوج وأنجب أبناء في الغالب بعيدا عن الدرب القديم – يظل مسكونا بذكريات هذا الأخير، بحلوها ومرها.. و الشيء نفسه يقال عن القرية، إذ في الدار البيضاء ومدن أخرى كبيرة، كان جل أطفالها في فترة زمنية سابقة، يقصدون خلال العطل الصيفية القرى، مرتع وأصل الآباء والأجداد.. ما كان يعاش هناك، أو جزء منه على الأقل، ينضاف لما سجلته الذاكرة عن حياة الدرب.
ومع ذلك فالحمولي هنا في « الداخل والخارج» لا يمتح نصوصه، كليا، من ذاكرة وخيال الطفل الذي كانه، لكن أيضا من خلال بعض الوقائع، التي يصادف حدوثها تواجده بالقرب منها، سواء هنا بأرض الوطن، أو هناك بضواحي موريال بكندا، حيث يستقر ويعيش.. وقد يكون المشهد غير ذي أهمية، ولا أحد اهتم أو انتبه إليه، لكن الكاتب إذ يقتنص بدايته، فهي فقط ما يعنيه، ليشكل بها قصة جديدة .
لن تنضبط كل قصص المجموعة لهذه القاعدة، أي الانصياع والامتثال الكلي للخيال، فالحديث عن الذات حاضر أيضا على شكل بوح، أو مونولوج من خلال نصين عن الغربة. وكذلك التجريب ، وإن على مستوى المضمون أو ما خلف النص، فقصص (الطريق- الدرهم الأحمر- الدوامة)، وإن حافظ الحمولي فيها، على لغته الخاصة ونمطه المعتاد في حكي وسرد الأحداث، بانسيابية و سلاسة، يبقى مضمون القصص السالفة الذكر، مفتوحا على تأويلات وقراءات شتى..
وأود العودة إلى مسألة انصياع وامتثال القاص لخياله، الذي يسافر به حيث يشاء، أثناء كل مشروع إبداعي، لأشير إلى مسألة تبدو لي من الأهمية بما كان، وهي مرتبطة بالمآل الذي آلت إليه جل نصوص المجموعة، التي نحن بصدد تناولها، وهي الحضور الطاغي لمجموعة من الظواهر، التي تناولتها النصوص، في سياقات مختلفة، كأن السعيد الحمولي ينبه أو ينتقد هذه الظواهر الاجتماعية ، بلغة بعيدة كل البعد عن التقريرية، وتخلق قاموسها الأدبي الخاص، الذي يزاوج أحيانا بين اللغة الفصيحة والاستعمال الدارج لها، خصوصا أثناء حوار الشخوص.
تأسيسا على ما ذكر، سنحاول الاقتراب من عوالم مجموعة « الداخل والخارج « من خلال ثلاثة عناوين، كل واحد منها مرتبط بفضاء معين.

اضطهاد الطفولة.. ووحده القوي يسود ويحكم
عنوان القصة الأولى، هو نفسه عنوان المجموعة، أي « الداخل والخارج»، وفيها يسرد الطفل «العربي»، ما يقاسيه من سوء معاملة وتحقير وتعنيف، من لدن أقرانه، بسبب السلوك المشين لوالدته بعد وفاة والده.. ولا يسلم من التجريح حتى وهو داخل فضاء المدرسة، إذ يقترب معلمه منه وهو في الساحة، ويربت على كتفه، ثم يطلب منه أن يخبر والدته بأنه سيزورها هذا المساء، وعندما ينتفض «العربي» ضد المعلم، يكون نصيبه عقابا مبرحا، بحجة عدم استظهار درس الدين كما يجب.. «في الداخل كان العربي يبكي تحت غطائه.. إنه محاصر من كل الجهات : الأطفال، أمه، نفسه، شيء أقوى من إرادته.. من الخارج، دخلت أمه ملطخة بالأصباغ، سمعها تناديه أزال الغطاء عن وجهه ولم يجبها. فكر أن يسبها، أن يرجمها.. فكر أن يقوم في الليل ويضغط على عنقها حتى تموت.. فكر.. وتذكر ألا عائل له غيرها، وأعاد الغطاء وبكى… « ص 11.
اضطهاد الطفولة ، نصادفه في نص آخر عنوانه «البحث عن مرزوق»، إذ يحاول الطفل مرزوق الهروب من واقعه المر، المتجلي في طرده من البيت من لدن زوج والدته، بعد وفاة والده.. عبر الاستنجاد بالخيال، فهو يواظب على مشاهدة حلقة الشيخ العلام، الذي يكرر كل يوم رواية «صاحب السيف الذهبي».. فمرزوق يتقمص شخصية بطل الحكاية ما أن يغادر الحلقة.. حتى وهو نائم بعتبة أحد المنازل، يتخيل نفسه متوسدا سيفه.. « مرزوق لا يحقد على البرد، لا يحقد على المطر، لا يخاف الليل، عندما يأتي ويجده وحيدا نائما فوق عتبة منزل.. مرزوق الوديع ينام متوسدا سيفه الصقيل..»ص 97.
قصتان أخريان اتخذتا من الحي الشعبي فضاء لأحداثهما، يتعلق الأمر بكل من «حتى ينتهي اللعب» و «صاحبة الحايك». تتناول الأولى ، ظاهرة القمار بين أبناء الدرب، الذين يتخذون لهم مكانا نائيا ومظلما في الغالب، بعيدا عن عيون السلطة، وعن عيون السكان كذلك، الذين لا يعلمون بالأمر إلا بعد حدوث شجار بين المقامرين. وفي هذه القصة يتبدى لنا بشكل جلي أن القوي هو من يسود ويحكم، وفق مزاجه الشخصي، فالـﮔنـﮔ الذي ابتسم له الحظ في ليلة قمار، أفرغ فيها جيوب كل الأصدقاء، رغم توسلات الشخش له لمواصلة اللعب.. وفي الليلة الموالية سيكون الحظ من نصيب الشخش، وعندما هم بمغادرة المكان، أرغمه الـﮔنـﮔ على مواصلة اللعب، وعندما رفض وجد نفسه في رمشة عين مرميا على الأرض يتخبط في دمائه، بعد هجمة مباغتة عليه من لدن الـﮔنـﮔ، على مرآى من كل المقامرين..
في القصة الثانية، يتطرق الكاتب عبر حكي مشوق، بضمير المتكلم، لظاهرة نفسية واجتماعية، غدا الكل يلاحظها بشكل جلي، في سلوكيات بعض الناس، الذين تتناقض أقوالهم وادعاءاتهم، مع ما يقومون به في الواقع، إذ يفاجأ الراوي بصوت أدعية عبر رنة هاتف صديقه، الذي يَخبره جيدا كشخص مهووس بالمال والنساء.. « كيف عرف هذا الدعاء طريقه إلى هذا الهاتف الخلوي، الذي لا يستعمل في جل أحواله إلا للأحاديث النسائية المجانية الماجنة؟، تتواصل أحيانا حتى حلول الفجر، كيف استطاع هذا الهاتف المسكين أن يستوعب الورع والفجور في نفس الٱن ؟ « ص 30..

امرأة بدون سند.. ورجل بدون عقل

أربعة نصوص من مجموعة « الداخل والخارج» اختار كاتبها القرية كفضاء لوقائعها وأحداثها. في قصة «حتى ترشد»، نصطدم بالوضع الدوني، الذي تحتله المرأة في القبيلة، عندما لا يكون لها سند (زوج، أب، أخ) ، تصبح لقمة سائغة، يعبث بها وبشرفها من يشاء، وإذا رفعت صوتها واحتجت، تكون صرختها كصيحة في واد..
لقد أعلنت حليمة أمام سكان القبيلة، أن الشيخ تعدى حدود الله، واعتدى على شرفها، لكن الشيخ تصدى لها في خطبة مطولة، جعلت الجميع يلتف حوله ويكذب ما ادعته حليمة، التي تغادر السوق رفقة ابنتها، عندما تنكر الكل لها.. ومع ذلك فالشيخ لم ينم ليلتها، قبل أن يرسل أحد أتباعه، الذي أخرس صوت حليمة إلى الأبد..
تناقض أفعال بعض الأشخاص مع أحوالهم وخطاباتهم، كما لمسناه في بطل قصة «صاحبة الحايك»، نصادفه مرة أخرى وإن بصيغة ومضمون مختلفين. ففي نص «أنغام تمزق الصمت»، البطل معلم يتنبى خطابات فجة، ويوجه انتقادات لاذعة وساخرة لمرؤوسيه، ويستهزئ من السارد ويسخر منه ويعتبره أميا، مرددا في وجهه عبارته في كل وقت وحين : «إن المجتمع في حاجة ماسة إلى التعليم الجيد « ص 23..
وعندما يقوم السارد بزيارة صديقه المعلم في قسمه، يجده جالسا على كرسي مكتبه، وفوق المكتب صينية عليها إبريق شاي وخبز وزبدة، ويقف بجوار مكتبه حارس المدرسة، مستمعا للمعلم يحكي عن بطولاته وعنترياته، وصراعاته واصطداماته مع المفتش ومع موظفي النيابة، والتلاميذ يتصايحون ويتعاركون كأنهم في مكان آخر غير حجرة الدرس..
في قصة «الفاطمي»، نحن أمام ثيمة أخرى، فقدان العقل أو الحمق، الفاطمي بطل القصة مخبول، يقوم بأشغال مشينة في أراضي وممتلكات والده، التي تنعم بها والدته بمعية أختها وزوج أختها وابن أختها عبد الرحيم، الذي ينعت ابن صاحب الملك والأرض بالأحمق والأهوج، ثم ابنة أختها التي اقتحم الفاطمي خيمة عرسها، وعند انتهاء الشيخة يامنة من وصلتها الغنائية، أخذ مكانها وشرع يصفق ويرقص فرحا، وهو يغني:
« الله الله يا الزينة يا بنت الخالة الله الله فالزريبة كلت البيصارة الله الله يا الزينة يا بنت الخالة عريسك كيدار فالزريبة لابس دربالة» ص 19..
هذا المقطع الغنائي الراقص، قسم الضيوف الحاضرين إلى مجموعتين، تتكون الأولى من العروس وزوجها، وبقية الأهل وبعض المقربين، الذين أخرسهم الموقف وأخجلهم، بينما المجموعة الثانية، تتكون من ضيوف ينعمون بالشرب والأكل، ويتحولون في أقرب فرصة تتاح لهم، إلى شامتين وساخرين من أصحاب الحفل..
القصة المتبقية ضمن المحور الثاني، عنوانها «زيارة»، ولا أخفي أنني أخرت الحديث عنها، لأن بطليها متمدنان كما يبدو من أوصاف السارد، لما يرتديان من ملابس وأكسسوارات، ولأن الكاتب لم يهتم بالتصريح بالفضاء، الذي ينتمي إليه مكان التلاقي الأول، بين الرجل والمرأة، لذلك اعتبرته منتميا لإحدى القرى..
يكتسي الحكي تشويقا ومتعة، حيث نتابع قصة شخصين، التقيا صدفة عند «عراف» اشتهر بكراماته. بقاعة الانتظار يجلسان جنبا إلى جنب، فيحدث التعارف، ثم البوح والاعتراف.. « قالت له وهي تهمس في أذنه اليسرى، وقد التصق جسداهما وامتزجت أنفاسهما، وأصبحا أنفان لا يشمان إلا بعضهما البعض : جئت لزيارة سي رحال ليزيل عني العكس، وأجد زوجا صالحا، وخفق قلبها عندما أدركت بحدسها الأنثوي، أن قلبا آخر خفق قريبا منها، وخفق قلبه أنه تعافى عندما أحس بنهديها يلامسان صدره « ص 54..
تؤكد أحلام مستغانمي في ذاكرة الجسد» هناك رجال عندما تلتقي بهم تكون قد التقيت بقدرك «
وفي حالة قصة «لقاء»، خديجة والعربي كل واحد منهما التقى قدره، لذلك وضعا يدا في يد وغادرا قاعة الانتظار، لم تعد هناك حاجة للدخول عند «صاحب الكرامات»..

انشطار بين غربة بكندا وضرتها بأرض الوطن
لا يمكن لمبدع مغترب عن وطنه، وأهله وأصحابه وأقربائه، وعن الأمكنة والفضاءات التي ترعرع وعاش زمنا لا يستهان به فيها، بين ناسها وحيطانها، ألا تعكس كتاباته أو جانبا منها على الأقل، هذه الحياة بين الضفتين، أي بين الهنا والهنا. والسعيد الحمولي الذي أعرفه، يكتب نصوصا معبرة عن حياته ومشاهداته هناك، وهي الكتابات التي يحتفظ ببعض منها في مذكراته الخاصة،. وفي مجموعته « الداخل والخارج « ، اختار نصين فقط، يتناولان ثيمة الغربة وضمهما مع نصوص المجموعة، وهما على التوالي : « فوق الجبين» و»صوت حنين»، وإن كانت أحداث الأول منهما تقع هنا في المغرب، ويحكي السارد الذي أضفى عليه الكاتب اسم العربي، رغم أن الاسم حملته شخصيات في نصوص أخرى من المجموعة، لكن دلالته هنا مخالفة، يكفي أن نضفي فتحة على الراء عوض الجزم، ليصبح البطل هو كل عربي يترقب ساعة الحسم، لتسلم موافقة الجهة المعنية بمنحه التأشيرة، التي تخول له مغادرة أرض لم تعد قادرة على منحه الدفء والأمان، وقد تبنى الكاتب هنا أيضا عنصر التشويق، من الأسطر الأولى للقصة.. « تتقلص المسافة التي تفصلني عن الهدف يوما بعد يوم، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من قبضتي. رائحة الغربة التي يشتكون منها، تثير شهيتي، تدغدغ كل مشاعري، توقظ الرغبة والحماس، والخوف، تبدو كندا قريبة للغاية لا يفصلني عنها إلا هذا الحاجز الزجاجي.. « ص 45..
هذا المقطع الشاعري الجميل، من قصة « فوق الجبين»، وللعنوان دلالة في المأثور الشعبي، ليس المغربي ولكن العربي أيضا، فأقدارنا المكتوبة على جباهنا، سيأتي اليوم الذي نطلع فيه عليها، وبطل قصتنا أفلح في الحصول على تأشيرة المغادرة، لكن كيف وجد رائحة الغربة التي كان غيره يشتكي منها؟ وهل وجد صورتها الحقيقية شبيهة بالتي كونها عنها قبل الانتماء إليها؟ إنهما السؤالان اللذان سنعثر لها على أجوبة، في قصة «صوت حنين»، التي سيدخلنا الكاتب إلى عوالمها بسرد فني أنيق، مستعينا بضمير المتكلم، الذي جعلها أقرب إلى المونولوج المسرحي، ليبوح لنا السارد عن دواخله، وما يختلجها من صراع أو انشطار بين قساوة الغربة وحنين دائم لأرض الوطن، بالرغم من تنكر هذا الأخير لأبنائه البررة: «غربة غرقت في وحلها كل هذه السنوات، مرض بدأ يتربص بي، ويعض وحده كالجحيم.. أبناء انتشروا.. والوطن الذي لا يودعنا عند فراقه.. ولا يفكر في استقبالنا عند لقائه.. ننشطر بين غربة هنا وضرتها هناك» ص 40..
من بين خصائص هذه المجموعة القصصية كذلك، إطلاق كاتبها أسماء على شخصياتها من قبيل : العربي، الفاطمي، ادريس، المعطي، أحمد، عائشة، عبد الرحيم، الحاج دحان، يامنة، خديجة، الـﮔنـﮔ، الشخش.. وهي الأسماء التي لا نشعر تجاهها بأية غرابة، فهي مألوفة، وإن لم يعد البعض منها متداولا الآن، لكنها حاضرة في وجدان ومخيلة الكثير منا.
وبالعودة إلى بعض الظواهر الاجتماعية الحاضرة في قصص مجموعة «الداخل والخارج» ، نلاحظ بالملموس أن كاتبها «السعيد الحمولي» قد تناولها بالتلميح فقط ، ونقل الصورة كما هي، دون إدخال أنفه في ما من شأنه أن يعكر أو يشوش على صفو إبداعه، الذي ظل وفيا للأسلوب الأدبي الذي يميزه، اعتمادا على صورة فنية، تنحو نحو الجمال والإمتاع، كما هو مبين في المقاطع التي استقيناها من المجموعة..

*»الداخل والخارج» مجموعة قصصية للسعيد الحمولي صدرت سنة 2019، عن مطابع التيسير بالدار البيضاء
** عن تقديم أحمد بوزفور لمجموعة «الداخل والخارج»، على ظهر الغلاف.
* أحلام مستغانمي ـ ذاكرة الجسد ـ الطبعة الثالثة و العشرون عام 2008 ـ دار الٱداب بيروت


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 18/12/2020