مكتبة الأعمى!

 

يشبه الذهاب إلى المكتبة الدخول إلى غابة كثيفة الأشجار. غابة من الأرواح كلها تبحث عن منفذ للكلام يكاد يكون مستحيلا، بل غابة من الأبواب التي لا ينبغي فتحها، ولا تسمح بالعبور إلا للذين «رُصدت» لهم كنوزها ومباهجها. هذا هو الإحساس الذي يعتري أي أحد يريد أن يمسك بكتاب مدهش وقدري وحاسم. كتاب يُغير قارئه، ويحوله من طفولة مرتعشة إلى طفولة أخرى لا تقل ارتعاشا. وبهذا المعنى، فالمكتبة إقامة مرتبكة في طفولات لا حصر لها، تخفي على الجانب الآخر ما يجعل للحياة معنى (الجماليات). متواليات من الرموز التي تتشابك وتندمج وتنفصل، لتشكل ما لا ينتهي من الرموز الجديدة. ولذلك، فإن الكتب لا تصنع المكتبة، رغم أنها عمودها الفقري. ما يصنعها هو حركة الخروج والانتقال من حالة الانسدال إلى حالة الانفغام، أي حين تمتد إليها يد، وتتغلغل فيها عينان لتقرأها. والقراءة هنا لا تعني الاستقبال وبناء المعاني والتفسيرات والشروح، بل تعني التفاعل بالمعارضة والتخريق والارتياب والتدوير، والتسليم بأن ليس هناك أي قراءة نموذجية على الإطلاق.
وتبعا لذلك، فإن المكتبة تقتضي الانتباه إلى التيه العظيم الذي يتحقق بكل حزم في كل كتاب على حدة. وربما من الصعوبات الأساسية التي يطرحها «الكتاب» (بالمعنى الدقيق والإشكالي للكلمة) هو الترحال عبر العصور والأزمنة والحساسيات والثقافات والأمكنة والتخيلات، إذ لا يمنحك المخارج والحلول، أو أي طريقة سهلة للتنفس بهدوء. بل يصيبك بالصعق ويحشرك في اللحظة التي يتحقق فيها غرقك على نحو شامل. ذلك الغرق الذي لا يجعلك فيض من فيوضه تصل إطلاقا إلى الصفحة الأخيرة. هل هذا هو كتاب بورخيس (كتاب الرمل) ذو الصفحات اللامتناهية التي تخرج من الكتاب من تلقاء نفسها دون أن تتكرر؟
ربما يكون الأمر كذلك، لأن الكتاب، في هذه الحالة، هو المكتبة نفسها، هو تلك الانعكاسات التي تخرج منه مرآة بعد مرآة، هو تلك الكتب التي تطل برأسها دون أن يستدعيها أحد. أليس هذا ما ندعوه اختزال الغابة في شجرة، أو تضمين الكون في ذرة؟ أليس هذا معناه أن الجزء الأفضل يبقى هو ما لم نقرؤه بعد رغم وجوده في مكان لا نعرفه؟
لا يحتاج الداخل إلى المكتبة إلى أي حركة تتم خارجها. فهو دائم الانتقال بشكل يجعله قريبا من نفسه، ضائعا في كل الاحتمالات التي قد تزوغ عنه، ضد كل ما يقيده إلى معنى واحد، أو يجعله يطأ أرضا واحدة. أرض القارئ ليست موجودة من قبل، ولا يمكنها أن توجد بعد ذلك على الشكل نفسه، تنبسط وتتقعر وتتمدد وتعلو وتهبط وتنتشر وتنكمش وتتحول، وتعمل على تفريغ نفسها على نفسها باستمرار. وبمعنى آخر، فإن المكتبة شكل من الفراغ الذي تملؤه القراءة، وليس العكس، كما قد يبدو. ويتحقق الامتلاء بالخوض في ذلك الفراغ المرعب بعدة المغامر اليائس من كل شيء، أي ذاك الذي يرتمي بإصرار دون أي أمل في النجاة أو العودة إلى نقطة الصفر التي لا توجد أصلا. العدة هي ألا شيء حقيقي أو نهائي، الكل يتحرك نحو الكل، والكل يندمج في الكل، ليتشكل «الشيء نفسه» على وجوه لا نهائية.
هل للمكتبة نظام؟ وبتعبير أدق، هل يمكن إخضاعها لتصميم ما؟ وهل ذلك التجاور في الرفوف حسب التخصصات والأنواع والأجناس واللغات والثقافات والعصور والبلدان هو الذي يمنحها نظاما شاملا وصلبا؟ ألا تعني المكتبة كل الكتب؟ وتبعا لذلك، يستحيل المقارنة بين هذا الكتاب وذاك، إذ لا توجد، في العمق، كتب خاطئة أو ميتة، وأخرى حية وعلى صواب. الكل يصب في الكل، ولا يمكن عقد مقارنات بين هذا الشكل والآخر إلا بحيازة الفهم الكافي بأن الكتب مجرد تركيب لمادة توجد منذ الأزل. فلم يكن لبورخيس مكتبة، بل كان هو المكتبة! ولهذا كان يحتفظ في بيته بكتاب واحد أو كتابين. كل الكتب كانت تصطخب داخله، وتتداخل لغاتها وتخصصاتها، حتى تلك الكتب التي لم توجد بعد! (أفكر هنا في كتب الذكاء الاصطناعي، كما أفكر في الرقاقات الإلكترونية التي بدأت تشل مهمات الرفوف والورق والأمكنة، والكتب المعروضة بالآلاف أو الملايين في حيز تجاوري صغير جدا قد يكون جهاز هاتف أو كومبيوتر أو لاب توب أو لوحة إلكترونية مخصصة للقراءة). فهل معنى ذلك أن الكتب مهددة بالانقراض؟
يشبه دوغلاس أدامز الكتب بأسماك القرش، منبها إلى أنها «حافظت على وجودها رغم أنها أقدم من الديناصورات، وذلك لأنها حافظت على ذاتها وتعلم كيف تكون أسماك قرش أكثر من ذاتها». ويرى نيل جايمان أن «الكتب تعد طريقا للتواصل مع من سلف، وللتعلم منهم كيفية تشييد إنسانية ذات معرفة خلاقة لا تكرر نفسها». غير أن الإشكال يبقى هو: إذا كان أدامز يقصد وجود الكتاب الورقي تحديدا، فإن الحفاظ على الذات لا يعني في نهاية المطاف سوى الإقامة في الأرشيف، ذلك أن الكتاب الورقي يتحول، تدريجيا، إلى كتاب خامل ويحتاج إلى يتحرك نحوه ويمسكه ويفتحه. إنه يحتاج إلى اللمس والشم والنظر، وإلى حواس أخرى لا يمكن تحديدها. أما قضية تواصل الكتاب مع الآخرين، فإنها لا تجري على النحو الذي ذكره جايمان، لأن الكتب لا تخضع لأي ترتيب زمني، كما أنها لا تكتفي بالتواصل مع السلف، بل تتواصل، أولا، مع بعضها البعض، وثانيا مع الوجود نفسه خارج الأزمنة. وتبعا لذلك، فإنها تتواصل مع المستقبل، لأن الزمن لا يستطيع فعل أي شيء ضدها. وهنا أستطيع القول إن الكتب توجد من تلقاء نفسها، حتى الكتب التي أحرقت أو أعدمت أو أغرقت، بل حتى الكتب التي تم التفكير فيها دون أن يتحقق وجودها بالفعل. كل كتاب يوجد ويتكرر في سياق مختلف، وإلا ما السر في استمرار وجود آلاف الكتب التي ضاع أثرها؟ لا يمكن هنا القفز على «مكتبة بابل» لبورخيس، وعلى مشاريع الكتب التي لم تتحقق لسبب أو آخر. كما لا يمكن القفز على ما تتيحه «فيزياء الكم» من احتمال وجود عدد هائل وغير محدود بما يفوق الخيال من كتب «كل شيء يمكن أن يحدث، سيحدث»!
وبمعنى من المعاني، إن المكتبة، في العمق، مجرد فكرة تتخذ أشكالا متعددة لا يمكن حصرها في حيز ما. وتلك الفكرة يجد فيها كل واحد ما يبحث عنه.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 08/01/2024