مكتبة تيليباثي!

قريبا، لن تعثر الكتبُ على مكان تختفي فيه إلا دماغ البشر؟ لن نحتاج بالفعل إلى أساسات وحجارة وجدران ورفوف وورق، بل لن نحتاج نحن القراء إلى لوحات إلكترونية أو حواسيب أو هواتف ذكية، لنقرأها. لن توجد المكتبة خارج أجسادنا. ملايين الكتب المُخزّنة تتحفز على الدوام للقفز في كل الاتجاهات. ترافقنا دائما، لأنها جزء لا يتجزأ من أجسادنا. ونحن نتمسك بها لأنها ستجعل «الحياة أسهل». كل المعارف التي سنحتاجها موجودة بصيغ متعددة، ويمكن تحيينها باستمرار، بل استبدالها متى تقادمت، ذلك أنها غير متعذرة الاسترداد بالتفصيل الممل. لا شيء يختفي، والحاجة ليست ماسة للذاكرة.
ستسمح تلك الرقاقة/ المكتبة بتعزيز كثافة التفاهم بين البشر، وسيصبحون مرتبطين ببعضهم. بعض الكتب التي يتوفر عليها هذا القارئ هي نفسها التي تحتشد في دماغ كل القراء الآخرين. يكفي فقط استخدام الخلايا العصبية لإرسال الإشارات الكهربائية والكيميائية عبر الدماغ لتنفتح أمامنا ملايين الكتب، بلغات لن تخطر لنا على البال، في نوع من الترابط التبادلي الهائل. لن تكون هناك أزمة ذكاء أو تخلف أو أمية. كل هذه العاهات أصبحت أمرا مستحيلا، وكل فرد غدا موسوعة جامعة متحركة. أما الرقاقات فهي المصدر المعرفي والاختباري المطلق؛ هي المعارف القادرة على إعادة بناء الوجود الإنساني كله. والسؤال الذي يطرح هنا هو: هل تصمد فكرة المكتبة أمام هذا التحول الجذري؟ هل بوسعنا التسليم باستمرار وجودها أمام رقاقة «تيليباثي» التي ابتكرتها شركة «نيورالينك» الأمريكية، ونجحت في تزويد دماغ بشري بها؟
هل نستمر في القول إن المكتبة مكان مفتوح للقراء يضم كتبا بأشكال وموضوعات وعلوم ولغات مختلفة؟
تتفوق مكتبة «تيليباثي» على «مكتبة بابل» (لويس بورخيس) في مستويات متعددة. أولها أن صاحب الرقاقة غير مضطر لتصفح الكتب، يكفي التفكير فيها حتى تأتي إليه بكل ما أوتيت من تعقيد. الذات هي المكتبة في اتساعها الهائل الذي لا يتوقف، بينما مكتبة بورخيس هي الكون الذي يفسر كل الكتب الأخرى.
تخضع مكتبة بابل، التي تتألف من عدد لانهائي من القاعات السداسية الزوايا، لهندسة صارمة تكشف تطابقها مع فكرة الله. المكتبة والله شيء واحد. (يزعم المتصوفة، كما يزعم بورخيس، أن الانخطاف يكشف لهم عن حجرة دائرية، تضم كتاباً ضخماً دائرياً ذا متن متواصل يلف كل الجدران (….). هذا الكتاب الدائري هو الله). أما مكتبة «تيليباثي»، فوجودها متعدد بتعدد المزودين بالرقاقة، ولا تتطلب أي أمين للمكتبة. لا قاعات. لا رفوف. لا زوايا. لا أدوار علوية أو سفلية. لا أروقة. لا ممرات. لا أنفاق. لا سلالم. لا مراحيض. لا باحثون أو محققون يتنازعون على الكتب. لا فوضى إلهية. كل قارئ مزود بالرقاقة إله صغير. القارئ هو مفتاح كل الكتب الأخرى غير القابلة للتلف، وموجزها الوافي. هو المكتبة الهائلة التي لا يعتبر حاملها «استثناء محيرا»، لأنها مبنية على البرمجة والزرع والترابط والتقاسم بين الجميع. لا يهتم «قارئ الرقاقة» بجمع الكتب أو تكديسها، ولا بملاحقة النادر منها والطريف. كل النظام موجود بشكل متكافئ وعادل في الرقاقة، يستوي بورخيس مع سوفوكليس، وابن المقفع مع ملارمي، والجاحظ مع إيكو، والجرجاني مع أوغستين، وابن مسكويه مع جون جينيه.. إلخ. كل الكتب، قديمها وحديثها، تتجاور في حيز واحد لا يتجاوز حجمه حجم حبة أرز. هذا ما نسميه «عصر الذكاء الاصطناعي» أو «عصر الروبوتات» أو «عصر الرقائق الإلكترونية».
إن مكتبة «تيلباثي» غير سحرية، ولا تحمل أي ادعاء بأنها لا متناهية. كما أنها لا تخضع لأي هندسة ثابتة، وليست مجهزة بأي مجلدات نفيسة أو ملعونة أو مخفية أو ضائعة. كلها كتب تستقر في مكان واحد، خارج أي وضع قيامي. إنها مجرد شبكة عصبية اصطناعية مرتبطة بآلاف الكتب على الأنترنت (الكون الجديد). ليس هناك أي عالم جوفي حقيقي يخترق الطبيعة المتعددة الأكوان والآفاق للميتافيرس. هناك فقط عدد لا يحصى من الهولوغرامات (صور رمزية).
وتبعا لذلك، فإن مكتبة «تيليباثي» (المُوَحَّدَة والمُوَحِّدَة) ستأتي لتقضي على البناء المثالي لمكتبتنا. لن ينصعق أحدنا إذا عثر على كتاب نادر كان يجد في طلبه، ولن يحملنا جسدنا أو خيالنا باتجاه مكتبات العالم. ليس هناك أي تماثل. لا صورة تقود إلى صورة أخرى. هناك يقين افتراضي يكبح كل شيء، ويقيِّد كل الأشكال. كل شيء مسطح بطريقة لافتة جدا (رولان بارث).
فبصرف النظر عن الخوض في قضايا الوعي والإدراك المرتبطين بنقد «الذكاء الاصطناعي» و»النزوع الروبوتي»، فإن «مكتبة تيليباثي» (دائرة المعارف الكونية)، أوشكت على الاستقرار في الدماغ البشري. هذا هو الوحش الذي سيلغي المكتبة التي كانت تقول: «مرحبا بكم. أنا تاريخ ما فكر فيه وأبدعه البشر»، لأنها ستجعل القارئ يكتفي بقول: «أنا المكتبة». ستتعطل العين واليد (الجسد العضلي)، ولن يكون هناك أي دور للأصبع الصغيرة (ميشيل سير). القارئ هو من سيتحكم ذهنيا في الكتاب، وسيتعامل معه كـ»مالك له»، بل مالك للمكتبة بحذافيرها. سيختفي الشاهد على أن كل تلك الصور الرمزية كان لها مكان خارج الدماغ، وخارج لعبة (هنا وهناك).


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 26/02/2024