من تراتيل الوحدة

هذا الصباح :
لأنه صار يعيش الخزعبلات، بينما الحياة طارت مثل عصافير مهاجرة إلى وجهة مجهولة، همس لنفسه ملتاعا: «أريد أن أجالسني قليلاً، فوحدها أناي تصغي إلي دون تذمر، لكنها صارت تهرب مني أيضاً».

ليلة البارحة :
غابت الزوجة عن البيت أياما. تضاعفت مسؤوليتها، كربة بيت؛ صارت ترعى ابنيها الصغيرين وأبوين عجوزين، مريضين، لا تؤنس وحدتهما سوى حفيدة اتخذوها ابنة، وهي قطعة لحم صغيرة. فضلت أمها أن تحتفظ بالتوأم الذكر، بسبب ضيق ذات اليد. سيغيب الأبوان لمدة يومين، عادا إلى الطبيب المتابع لحالة أم زوجته، ولمحت إليه الزوجة أنه بإمكانه أن يقضي ليلته في بيت صهره.
استغل الظلام، ليسرق قبلة. البنت المراهقة في حجرتها، بينما اختار أن يتمدد فوق سرير قريبا من زوجته، التي كانت تنام على أرضية البهو، عند أقدام ابنيهما.
هذه الليلة، سينام مبكرا، لن يسهر حتى الثانية صباحا، ويستيقظ مبكرا، مثقلا بجسد منهك ورأس دائخة. هذه الليلة، سيدع هذا الهاتف البليد يجرب طعم الوحدة، لن تذبحه وحدة امرأة بعيدة، أصرت على أن ترى ملامح هذا الرجل الوحيد الحزين. أربعينية مطلقة، مات والداها، هجرها زوجها، ابنتها مريضة وترفض العيش معها. لم يعرف سر لهاثها وراء صداقات الغرباء، صارحها بأنه وحيد في البيت، منذ ما يقارب أسبوعين. ارتكب نفس الخطأ؛ لا يعرف لماذا يتقمص دور النبي في ماخور، كتبت له إن دينها صارم، ويحرم علاقة امرأة مطلقة مع رجل متزوج، ثم تلاشى حضوره في عالمها الافتراضي، بضغطة زر.
امتد إلى زوجته محاولا أن يلثم خدها، همست إن البنت تسمع.  كأعمى، تسكعت يده فوق خارطة الخد، لمس عظمة أسفل الخدين، فأيقن أن هضبة الوجنة اختفت. أحس بأن الرغبة تخمد ، وهو يكاد يبكي، مثل فلاح يعاين ذبول بقرته الوحيدة. تذكر صديقه البناء «بوشعيب»، الذي روى – ضاحكا- حكاية جاره، الذي انطفأت شهوته – فجأة- ليلا، حين خارت البقرة الجائعة خوارا يدمي القلب. هذا القلب الذي لن يطاوعه في أن يذهب إلى السوق، يتركها هناك، ويهرب مدججا بعجزه…
تهاطل بكاء خفي في قلبه، التفت إلى الجهة الأخرى.

بالأمس:
أضرمت تلك القصيرة – كعمري- النار في ما تبقى من حطب القلب. لم تر خيطين من الدموع، سرقتهما موسيقى قوامها من عيني، بلا سبب درامي مقنع. لم تشهد جنون عاشق قديم أبت معشوقته أخذ رسالته، وهو يمدها إليها خلسة كرشوة، فذهلت، كفرس جفلت، وفتات عواطفه يتناثر فوق رأسها، مثل سرب فراشات، تطير صوب مرفأ أحزانه القادمة، وصديقه الكهل «بوشعيب» يتابع المشهد من فوق السقالة، وهو يضحك..
تلك القصيرة كالفرح، لن تلتفت إلى معتوه، سمعته يشتم البرد، الذي تواطأ معها فأخفت فتنة الأمس.. فتنتها الخلفية، التي جعلته يشهق، فشتم بردا عقيما، قاسيا، لم تتوقف صفعاته منذ الأمس، بكلام بذيء..
بدا مثل شيخ داهمه الزهايمر، والدموع لا تسعفه؛ كأنما يحتاج إلى دموع كثيرة، تواسيه في غيابها. يزفر فتات كبده، لأنه لم ينتبه إلى أن من وقف إلى جوارها، لم يتذكر أنها من سرقت الحياة من حياته خلال أمسيتين. ولا يعرف لماذا لم ينس جنونه القديم في حضورها. لم يستطع أن يتذكر متى رأى شابة قصيرة القامة سحلت شهقاته على قارعة النحيب الأعشى، حاول أن يلوذ بالصلاة، دون جدوى.. لكن عبثا، لم تسعفه الذاكرة الخؤون. لاذ بمفكرة الهاتف البليد، التي تحولت إلى كناش ضوئي، يدون عليه احتياجات البيت والأولاد، ليهجو القحط : «سحقا لدموع عجاف، لا تتحول إلى نص يشبه شفرة الحلاقة، سحقا لدموع لن تنبت زهرا بين يدي امرأة هاربة من زمن النسيان».

هذا الصباح
مرة أخرى :
شعر بخزي حقيقي، بعد أن طلبت منه امرأة مسمارا، لكي ترتق حذاء بلاستيكيا باليا، لأنها تخجل من مواصلة طريقها إلى بيتها حافية. اتجه إلى محل البقال المجاور له، لابتياع مهدئ يرشو به ألم الضرس. بحث في جيوبه، بأصابع متلهفة عن قطعة نقدية، دون جدوى، وضع صديقه البقال حبة المسكن الزرقاء على المنضدة، استعجله، وهو يرمق الزبونات في سأم، دس يده في جيب معطف داخلي، ووضع غنيمته المنسية في ابتهاج، وكتمت النساء ضحكاتهن الخجلى، وهن يرمقن العازل الطبي، الذي تقاعس عن أداء مهمته في بيت صهره.


الكاتب : هشام بن الشاوي

  

بتاريخ : 11/03/2022