من حقوق الإنسان إلى حقوق الحيوان:تفكيك محورية الفرد في الثقافة الحقوقية 4/3

محمد الـزرورة
جامعة محمدالخامس، الرباط

“عريضة الحقوق” والتي صدرت في عام 1628 بعد صراع بين الملك والبرلمان تعتبرمذكرة تفصيلية تضمنت حقوق وحريات المواطنين، وأكدت على حقين أساسيين وهما الحرية الشخصية التي يحرم القانون بموجبها التوقيف التعسفي بدون محاكمة، وسن قانون الضرائب وفرضها بدون موافقة البرلمان عليها. وقد نشأ صراع بين الملك تشالز الأول والبرلمان حول حق الملك في فرض الرسوم الجمركية اعتباطا. وقد اتهم الملك بارتكاب الخيانة لحقوق الشعب وبالإستبداد، وصدر في حقه حكم الإعدام ونفد سنة 1649. وقد عين 135 قاضيا لحضور المحاكمة، ولكن 68 قاضيا فقط حضروا ووافقوا على الحكم الصادر في حق الملك وإدانته.
قانون Habeas Corpus (1679) : أي “أحضر بشخصك وجسدك”: وقد جاء ليحل مشكل السجن التعسفي، وأصبح بموجبه قانونا يمنع الاعتقال دون مذكرة قضائية مسبقة. وهي مذكرة أوامر يوجهها القاضي في المحكمة العليا إلى الفرد الذي يحتجز فردا آخر (مواطنا عاديا أو قائدا في السجن) ويلزمه إحضار الشخص المحتجز للإستماع إلى أقواله والتأكد من التهم الموجهة إليه. ويعتبر قانون Habeas Corpus حماية ضد شطط السلطة وترسيخا لمبدأ حرية الفرد.
قانون الحقوق (- The Bill of Rights [1689]): وقد أقر البرلمان هذا القانون في 1689، وبه انتهت سلطة الملك المطلقة. وبموجب هذا القانون فلم يبقى للملك سلطة إيقاف القوانين، أو سلطة الإعفاء من تطبيقها أو الحق في فرض أي ضرائب من غير موافقة البرلمان قبليا، ولا الحق في الاحتفاظ بجيش دائم زمن السلم داخل البلاد بدون موافقة البرلمان. كما أوجب هذا القانون أن تكون الانتخابات حرة ولأعضاء البرلمان الحرية المطلقة في التعبير عن آرائهم وانتقاداتهم.
قانون الخلافة الملكية ([1701The Act of Settlement – [): وهذا قانون مثل سابقه، يحتوي على بعض الأحكام الدستورية المقيدة للسلطة الملكية، وخصوصا ضمان استمرارية البروتيستنتية كديانة للملوك في إنجلترا وإيرلندا واسكوتلاندا.
وهكذا فقد أقام البرلمان الإنجليزي العديد من الضمانات للحريات الفردية للمواطنين الإنجليز في إنجلترا وفي جميع أنحاء العالم المرتبط آنداك ببريطانيا العظمى في مستعمراتها التي قيل فيها أن الشمس لا تغرب عنها. وقد مهدت كل هذه القوانين وأخرى الطريق نحو مأسسة البنيات الدستورية الديمقراطية التي عرفتها ابريطانيا لاحقا. ولكن استثناء الأفراد الغير إنجليزيين (أو غير أوروبيي الأصل) سيكون له تبعات اجتماعية وسياسية هامة لاحقا، منها اندلاع مواجهات عنيفة بين تلك المجموعات المهمشة والدولة الحاكمة سواء في المستعمرات أوداخل البلاد. ومن بين هذه القوانين ما بقي قائما إلى منتصف القرن العشرين وبداية سقوط الإمبراطورية العظمى.
الوثائق الأولية لحقوق الإنسان في أميركا:

ولقد كان الارتباط بين ابريطانيا وأميريكا في القرن السابع عشر والثامن عشر وطيدا، بحيث كانت ثقافة الحقوق تنتقل بين العالمين ليس فقط عن طريق المطبوعات والكتب، بل أيضا عن طريق تنقل الأشخاص والمفكرين والمنظرين للحقوق أنفسهم. ففي سنة 1776، تم الإعلان عن الاستقلال للولايات المتحدة وانفصالها عن ابريطانيا. في البداية أعلنت 13 ولاية جنوبية انفصالها، ثم تبعتها ولايات أخرى تدريجيا. وقد جاء في ديباجة الإعلان عناالاستقلال إشارات واضحة إلى حقوق الحريات الفردية كما نادت بها النصوص الإنجليزية المذكورة سابقا وفلسفة الأنوار في كل أرجاء أوروبا آنداك. وألح خصوصا ميثاق الحقوق «The Charter of Rights » “شرع الحقوق” لولاية فرجينيا (1776) على مسؤولية الدولة في توفير الأمن والسلطة للشعب وأن تتكفل بالسهر على حماية الفرد وتأمين المصلحة العامة والملكية الخاصة، وحق السعي وراء السعادة. وقد تبع هذا الميثاق تعديلات عدة، نقحت أولوية حقوق الفرد. فالتعديلات الدستورية المختلفة من بين 1789 إلى 1791، تسمى “التعديلات العشر الأولى”، وتحتوي هذه التعديلات على ضمانات للحرية الفردية، وحرية الفكر والقول والصحافة والنشر والاجتماع، وحق الفرد في حمل السلاح، ومنع إيواء الجنود في المنازل الخاصة بدون موافقة أصحابها، وحرية المسكن والمراسلات، والحق في الملكية الخاصة. (أنظر “الدستور الأمريكي” Bill of Rights).
وفي عام 1865، جاء تعديل آخر يقر بإلغاء الرق والعبودية. وهنا لا بد من التذكير ببعض الانتقادات الموجهة لهذه الثورة الحقوقية في أوروبا وأميركا: فالمناداة بهذه الحقوق الفردية لم تشمل الفرد الغير أبيض والغير أوروبي الأصل والغير مسيحي. فالعديد من المنظرين للثورة الأمريكية والإنجليزية والفرنسية كان لهم عبيدا، ولم تطالب هذه المواثيق الثورية بأي حقوق للعبيد أو للنساء أو لسكان المستعمرات. فالتطور الرأسمالي المتسارع مند القرن الستبع عشر لم يجد بدا من الحفاظ على ألية الإنتاج الكبرى والمتمثلة في ملايين العبيد السود المستوردين من افريقيا.
وقد ساهمت كل هذه الوثائق والمجهودات السياسية للشعب الإنجليزي والأمريكي والفرنسي في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وبلورتها لاحقا، وخصوصا عبر مؤسسة الأمم المتحدة الممثلة لكل دول العالم والتي أعلنت عن دستور للحقوق في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” في 1948.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن هذه الثورات الأولى التي طالبت بحقوق الإنسان المثلى، سواء في إنجلترا أو أمريكا الشمالية أو حتى في فرنسا، وكانت تدافع عن حقوق إنسان معين، وليس أي أو كل إنسان. فبالرغم من أن الخطاب يذكر الإنسان المطلق، فكلمة إنسان كانت تعني الإنسان الأوروبي (المسيحي الأبيض في أوروبا وأمريكا)، وحتى النساء لم يكن معنيين بهذا الخطاب، إلى أن جاءت وولستون كرافت وأولمبي دوكوج ومثيلاتهما للدفاع عن حقوقهن. كما أن المنظرين والمؤسسين للثورة الأمريكية كانوا أغلبهم يملكون عبيدا سودا، ولم يكونوا ليفكروا أن حقوق الإنسان المعبر عنها في وثيقة الاستقلال كانت تعني أيضا المرأة والإنسان الأسود والغير أوروبي الأصل، ولم يمنع الرق إلا سنة 1865، ولا زال الصراع من أجل الاعتراف بالحقوق الإنسانية الكاملة للسود إلى الآن. وما تعرفه الشوارع الأمريكية في صيف 2020 من غضب عارم واحتجاجات على المعاملة المجحفة للسود إلا تعبيرا عن ذلك. وبقيت حقوق الحيوان معلقة أيضا. وأحيانا يلاحظ أن بعض الحيوانات تتمتع بحقوق شبه إنسانية أفضل من الحقوق التي يتمتع بها البشر السود والهنود الأصليون او العديد من الأقليات في البلاد.
ونلاحظ بأنه لما تمت محاولة تطبيق دستور الحقوق على العبيد أيضا والمطالبة بتحريرهم، اشتعلت الحرب الأهلية الأمريكية (سنة 1861). وقد أخذ على عاتقه الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن تطبيق ميثاق حقوق الإنسان على كل الأفراد ومنع الولايات الجنوبية التي أرادت الحفاظ على العبودية من الانفصال عن الدولة الكبرى، وبذلك تمت محاربتها.
وبعد تعديلات مختلفة لمشروع الدستور الأمريكي التي استفاد من كل الأفكار التنويرية الأوروبية المذكورة، أكد الإعلان على سيادة الشعب، وحرية الفرد والمساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية، وحرية الصحافة، وأدخل مبدأ فصل السلط، ونادى بحرية التدين، وألغى العبودية، وتم الإعلان عن بروز إنسان جديد (A New Man) سيقود الإنسانية لاحقا نحو بناء حضارة علمانية وحقوقية وتكنولوجية مرتكزة على الطاقات الخلاقة للإنسان الفرد المتحرر من كل القيود. ولكن حراك صيف 2020 في أمريكا أماط اللثام عن حقيقة تجدرالميزالعنصري تجاه العنصرالاسود في البنيات المجتمعية وخصوصا الأمنية منها. فتعامل هذه الأجهزة بالعنف القاتل (مثل حالة قتل دجوردج فلويض وأخرون) ليعكس حقيقة مقولة أن العديد من البشر لازالوا يعتبرون في مرتبة لاترقى لمرتبة الانسان الأوروبي الأصل الأبيض “الكامل”.
من حقوق الإنسان إلى حقوق الحيوان:

إن الإشكال المطروح الآن على ساحة حقوق الإنسان منذ نهاية القرن 20 هو أن كلمة “حقوق” منذ عصر الانوارهي كلمة مبنية على فكرة الإنسان كإنسان لا غير، ككائن حبته الآلهة أو الطبيعة بميزة جعلته متفوقا على كل المخلوقات الأخرى. فظهرت فلسفات حقوقية أخرى تطالب بمراجعة هذا المفهوم وتفكيكه. ففكرة الإنسان المعاصر خلقها الإنسان بنفسه وأدى إلى أنسنة خطابه الحقوقي وغضِ الطرف عن الغير وإلغاءِ التفكير في أي مخلوق آخر في هذا الكون يمكنه أيضا أن يطالب بحقوق مماثلة. ومن هنا نشأت فكرة حقوق “الكائن اللاإنسان” أو الحيوان. فبالموازات مع حقوق الإنسان، أصبحت المطالبة بحقوق اللاإنسان منتشرة أكثر فأكثر. وقد شمل هذا النقاش أسئلة فلسفية وفكرية وثقافية وسياسية واقتصادية عميقة من أجل تحديد مدى أهمية هذه التوجهات الفكرية الجديدة وربطها بالتصور العام لعالم تسوده العدالة والحقوق الأولية لكل مخلوق على وجه الأرض، بحيث لوحظ أن انعدام هذه الحقوق لكي تشمل كل الكائنات الحية لسوف يتسبب في عواقب وخيمة للمجتمع والكون برمته. ولهذا تربط الدراسات في مجال الأنطروبوسين ( : anthropoceneعصر الإنسان) بين التعامل السلبي بين الإنسان والحيوان والبحاروالطبيعة والتغيرات المهددة لتوازنات الكون ككل. ويربط العديد من المفكرين بين انعدام هذه الحقوق والحروب المتوالية والتغيرات المناخية المهددة لحياة الإنسان على الأرض. ولذلك وجب التفكير في حقوق كل الكائنات سواسية.
ففي الماضي نجد العديد من النصوص القديمة (الدينية والفلسفية) تحث فقط على الرأفة بالحيوان. ولكن الديانات السماوية حافظت على هرمية العلاقة بين الإنسان والحيوان بحيث يبقى هذا الأخير في أسفل الهرم، ويبقى دوره هو خدمة الإنسان من حمل الأثقاف إلى توفير لحمه ليعيش الإنسان أو التسلية بصيده وقتله. ويرى العديد من الحقوقيين تناقضا في هذا المفهوم للرأفة والعبث بتعذيب كائنات حساسة.
ولكن بدايات الدفاع المعقلن عن حقوق الحيوان كانت في القرن الثامن عشر خلال عصر الأنوار ومع بدايات المطالبة بإلغاء العبودية والرق، وذلك بالرغم من أن فكرة الرفق بالحيوان ترجع إلى زمن الإغريق، ونجدها في كل النصوص الدينية (السماوية أو غيرها) بالرغم من أن الحيوان كان يُصطاد ويُقتل ويُؤكل ويُدبح في المعابد وخارجها من أجل القوت والتسلية والتقرب من الآلهة.
وقد نلاحظ أن العديد من الكتابات الأدبية والفلسفية في إنجلترا خلال القرن الثامن عشر أصبحت تهتم بموضوع الحيوان ككائن ذو إحساس وتعقل أحيانا يشبه الإنسان.
فالفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم (1711-1976) يخصص فصلاكاملا في كتابه “استفسار بشأن الفكر الإنساني” (Enquiry Concerning Human Understanding) لعقل الحيوانات، مبينا أن الإنسان يختلف عن الحيوان على مستوى التعقل الرياضي، أما التفكير اليومي العادي، فالإنسان والحيوان يتشابهان كثيرا.
ولقد أدى الدفاع عن حقوق الحيوان والتفكير في العلاقة بين الإنسان والكائنات المحيطة به من منظار حقوقي إلى وضع العديد من القوانين التي تهتم بحقوق الحيوان، كما تم إنشاء العديد من المنظمات الغير الحكومية المدافعة عن هذه القوانين والداعية لتطبيقها. وقد تمت بلورة هذه الحقوق في وثيقة “الإعلان العالمي لحقوق الحيوان”، والتي تمت المصادقة عليها من طرف اللجنة العالمية لحقوق الحيوان بلندن في 23 شتنبر 1977 . ويذكر هذا الإعلان العالمي لحقوق الحيوان في بعض فصوله ما يلي:
الفصل 2: من حق كل حيوان أن يكون محترما.
الفصل 10: يمنع استعمال أي حيوان في التسلية؛ إن استعمال الحيوانات في المعارض يتنافى مع حقوق الحيوان.
الفصل 14: يجب الدفاع عن حقوق الحيوان كما هو الحال بالنسبة لحقوق الإنسان.
الفصل 8: “إن التجارب على الحيوانات والتي تسبب آلاما عضوية وعقلية تتنافى مع حقوق الحيوانات؛ حتى ولو أنها كانت لأغراض طبية أو علمية أو تجارية أو في أي شكل من الأشكال”.
ففي سنة 1772 أصدر الكاتب (أسقف بالكنيسة) دجون كرينجر مقالا يدافع فيه عن حقوق الحيوان، تحت عنوان « An Apology for the Brute Creation, or of Abuse of Animals »، وقد تعرض للسخرية واعتبره الناس أحمقا، ولكن هذا لم يمنع العديد من الكتاب من التطرق مثله لهذا الموضوع من أمثال هنري بريماث (Henry Primath [1776]) وطوماس يونغ (Thomas Young[1728])، ودجيريمي بانثام ( Jeremy Bentham [1748-1832]) أحد أبرز المنظرين للفكر الإنساني والليبرالي الإنجليزي والأمريكي. في نظر بانثام، فالسؤال الذي يجدر طرحه من أجل التفريق بين الإنسان والحيوان ليس هو:”هل يمكن للحيوان أن يفكر أو ينطق أو يتكلم، ولكن هل يمكنه أن يحس بالألم كما يحس به الإنسان”؛ ويضيف بانثام كذلك فكرة أخرى وهي أن العديد من الحيوانات الناضجة والمتطورة تتوفر على خلق وعقل أفضل مما يتوفر عليه الكثير من الناس المجرمين والقتلة، وهذه إشكالية ستصبح محورية لاحقا خلال القرن العشرين والواحد والعشرين حينما ستطرح للمقارنة تصرفات المجانين والدكتاتوريين والمجرمين في مقارنتهم مع الحيوانات الأليفة أو الغير الأليفة عموما. كما تتم الإشارة أحيانا إلى كون الأطفال والمرضى الذين يكون تطورهم الذهني بدائيا لا يعاملون مثل الحيوانات.


الكاتب : محمد الـزرورة

  

بتاريخ : 13/08/2021