من حقوق الإنسان إلى حقوق الحيوان: تفكيك محورية الفرد في الثقافة الحقوقية 4/2

ولقد قارن العديد من الكتاب الذين انتقدوا العبودية بين معاناة العبيد والحيوانات في الحقوق. ففي المتخيل الجماعي، حينما لا يعترف الإنسان بحقوق الحيوان ويضعه في أسفل الرتب، وحينما يعامل الإنسان الآخر المختلف عنه في البشرة (كالسود) أو القبيلة أو النمط السياسي كالحزب أو الجنس (كالمرأة) أو الانتماء الطبقي بإزدراء واستكبار، فإن الحرب على هذا الآخر أو محاولة إزاحته من المجال الإنساني بنعثه بالحيوان أو بأنه مركز الشر of Evil Axis تصبح مشرعنة؛ وبذلك فمحاولة القضاء عليه وإزالته من الوجود تصبح من الأفعال الحلال والمشرع لها. ولفهم هذا الوضع، لا بد هنا من العودة إلى أصول الحقوق الإنسانية الفردية وتطورها وكيف أنها أغفلت الحقوق الفردية للسود والعبيد والنساء والحيوانات.

عصر الأنوار في ابريطانيا:

إن ما ميز عصر الأنوار، من منظور حقوق الإنسان، هو الصراع بين مفهوم جديد للدولة وللفرد من جهة، والسلطة الدينية والملكية والإقطاعية من جهة أخرى. فالعالم الوسطوي (ق 5- ق 15) الذي كانت تحكمه الكنيسة (الدين) والملكية (عبر الحكم الوراثي) أصبح مشكوكا في حقيته وقانونيته بدريعة الحقوق الطبيعية للإنسان التي برزت وانتشرت منذ القرن السابع عشر. فالحرب الأهلية في ابريطانيا والتي دامت 30 سنة (من 1618 إلى 1648) كانت في العمق حرب الحقوق ونتيجة رفض غالبية المجتمع الإنجليزي لسطو الملك والإقطاع والكنيسة (رجال الدين) على السلطة والحكم. وقد انتهت هذه الثورة بإعدام الملك شارلز الأول سنة 1649، بعد أن حكم عليه البرلمان بتهمة الاستبداد والفساد والخيانة.
ولفهم مكونات هذا الفكر التنويري، يجب الرجوع إلى مؤسسيه. فهناك عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الذين ساهموا في تطور هذا النوع من الفكر التحرري المناهض للاستبداد والمدافع عن حقوق الإنسان. فمن خلال بلورة فكر حقوقي يدافع عن مقومات إنسانية واجتماعية وثقافية وسياسية جديدة، ثم خلق إنسان جديد (a new man) ذو رؤية جديدة وبنيات مجتمعية جديدة ساهمت في بناء المجتمعات الديمقراطية اللاحقة والتي نعرف عنها الكثير الآن.
من بين المفكرين الذين ساهموا مباشرة في بلورة هذا الفكر التنويري في بريطانيا بالخصوص، نذكر طوماس هوبز، ودجون لوك، وميري وولستونكرافت، وطوماس بين، وفلاسفة وأدباء آخرين.
أما طوماس هوبز (1588-1679)، فقد عرّف الدولة في كتابة “ليفايتن” أو الدولة الطاغوت (1652) من منظور علماني صرف، بأنها مؤسسة تهتم بالدفاع عن الفرد وحقوقه الطبيعية (في الحياة والأمن). فالفرد يدخل في تعاقد مع الدولة في حالة السلم، ولذلك سيكون على عاتق الدولة احترام هذا التعاقد وحماية الفرد (كتبادل للمسؤولية). وقد مثلت أفكار هوبز نمطا فكريا سياسيا سمي “بالفكر التعاقدي” والذي يتناغم مع أفكار جون جاك روسو في فرنسا (1712-1778).
أما الفيلسوف دجون لوك (1632-1704)، فقد حدد دور ومسؤولية الدولة في التمثيلية السياسية، والمساواة أمام القانون، والملكية الخاصة. وهذه الأفكار كانت مؤسسة أيضا لمبادئ الثورة الفرنسية في سنة 1789. كما انتقلت هذه الأفكار أيضا إلى العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية) لتؤسس للثورة التي ساهمت في إنشائها وانفصالها عن الدولة الأم-ابريطانيا، وتعلن استقلالها في عام 1776. وكان من بين المؤسسين للفكر التحرري في أمريكا الشمالية أنذاك المفكر الإنجليزي الأصل طوماس بيين (Thomas Paine). وقد أكد دجون لوك في كتاباته أن الحكومات تكون متمتعة بالشرعية حينما تكون مدافعة عن الحقوق الطبيعية للفرد، والمتمثلة في الحياة والحرية والملكية الخاصة، مؤكدا على أن هذه الحقوق الطبيعية تكون محمية حقا حينما تكون السلطات الأساسية المكونة للدولة (التشريعية، والتنفيدية، والقضائية، والفيدرالية) مستقلة عن بعضها البعض ولكنها خاضعة للمراقبة المتبادلة. وقد نجد أصداء لهذه المبادئ في الدستور الأمريكي الحالي، وفي “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الذي جاءت به الثورة الفرنسية، واسست كذلك للميثاق العالمي لحقوق الانسان (1948).
ولا بد من الإشارة هنا إلى دور الأدب في نشر هذه المبادئ الحقوقية وخصوصا في مجال الرواية. إذ كانت نشأة وتطور صنف الرواية ليعبر بامتياز عن هذا التحول العميق في المجتمع الإنجليزي والأوروبي وتصوراته لبنياته ولعلاقته مع كل مكونات محيطه ولماهية الفرد وتمركزه في الكون.
فالرواية نشأت وتبلورت بتزامن مع نشأة الحقوق الفردية وتطورها منذ بداية القرن الثامن عشر. فالرواية تعرض دائما قصة الفرد في مواجهته للعالم الخارجي وللكون. فهو يتصارع معه من أجل انتزاع حقه في البقاء والحرية والسعادة والثروة والسيطرة على الطبيعة؛ حتى أن بعض المنظرين لجنس الرواية ربطوا تطور الرواية الإنجليزية بنشأة وتطور الرأسمالية وتطور الفردانية البرجوازية المؤسسة لها (أنظر إين ووتIan Watt, The Rise of the Novel ) وتبقى رواية روبنسون كروزو Robinson Crusoe (1719) للكاتب دنيال ديفو، أحسن مثال على هذا، بحيث يخلق هذا الفرد البطل الذي رمته الأقدار في جزيرة خالية في المحيط الاطلسي عالما جديدا ، ويعمل على جعلها تشبه مزرعة شاسعة (كمملكة) مزدهرة، وتصبح له ثروة هائلة؛ وكل ذلك نتيجة العمل وإيمان الفرد بحقه في البقاء والاستمرارية وتكديس الثروة. وهذه صورة الانسان الرأسمالي. فهذا نمط عيش الإنسان الجديد، الذي أصبح مركز الكون ووعيه بفردانيته التي لا تحتاج إلى المجتمع، وتحلم بتحقيق الجنة على الأرض.
وهناك روايات أخرى عديدة يلعب دور البطولة فيها أفراد (رجالا ونساء) يصارعون من أجل حقوق إنسانية مطلقة تذكرنا بالشعارات التي رفعها أولئك الناطقون باسم الثورات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية والبلشيفية والصينية والتحررية الأخرى لاحقا.
وبالموازاة مع هذه الأفكار، كانت الأفكار العلمية تكيف تصور الفرد لعلاقته مع الكون. فقد أصبح الإنسان هو محور ومركز الكون بدل الإله أو القوى الغيبية التي نادت بها الديانات وأحيانا قوى غيبية ولكنها غير مسيحية أو هيلينية؛ فأصبح ينظر إلى مصيره في ارتباط مع حريته وتعامله مع عالم تتحكم فيه عوامل طبيعية محضة تغلب عليها العقلنة والبراغماتية والنفعية.
وأما ماري وولستونكرافت (في بريطانيا) (1759-1793)، فقد ساهمت هذه المرأة باسم النساء في وضع المرأة كعنصر أساسي (مساوية للرجل) في المطالبة باستقلال الفرد الأنثى ومأسسة حقوقها. فقد طالبت وولستون كرافت بوضع المرأة والرجل على قدم المساواة في مسألة الحقوق الطبيعية والوطنية. ففي كتابها دفاعا عن حقوق المرأة (A Vindication of the Rights of Woman [1792]) طالبت بحدة بتوفير المساواة على المستويات التعليمية، والاجتماعية والسياسية والملكية الخاصة للنساء مثل الرجال. فقد انتقدت بحدة وضعية النساء وتبعيتهم العمياء لرجالهم وأزواجهم ولأصحاب السلطة عموما. وطالبت كذلك بأن تعطى للنساء المسؤوليات الاجتماعية والسياسية التي تمنح للرجال. وتقول:
« Make Women rational creatures and free citizens, and they will quickly become good wives; that is if men do not reglect the duties of husbands and fathers » :
“اجعلوا من النساء مخلوقات عاقلات ومواطنات أحرارا، وسوف يصبحن زوجات جيدات ـ هذا إذا لم يهمل الرجال واجباتهم الزوجية والأبوية”. وكانت دائما تقارن وضعية النساء بوضعية العبيد والحيوانات الأليفة.
وهنا لا بد من ذكر سيدة أخرى على الضفة المقابلة، أي في فرنسا، والتي طالبت بحقوق المرأة من خلال إعادة كتابة نص دستور الثورة الفرنسية بصيغة المؤنث، وهي أولمبي دي كوج (Olympe de Gouges) (1748-1793) والتي اتهمت الثورة الفرنسية بتهميش النساء وغض الطرف عن حقوقهن . وقد انتقدت السياسة البطشية لرواد الثورة وعارضت قتل الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت : مما عرضها إلى نفس المصير في 1793. وقد عنونت عارضتها بـ “حقوق المرأة والمواطنة” بدل “حقوق الرجل والمواطن”. وقد كلفتها هذه الجرءة المقصلة.
كما أن الفكر التنويري لحقوق الإنسان في إنجلترا وأميركا استفاذ كثيرا من فكر الكاتب والسياسي طوماس بيين (من أصل إنجليزي — 1737-1809) والذي كان من بين المؤسسين والمنظرين للثورة الأمريكية في سنة 1776. وقد سافر إلى أميركا سنة 1774 سنتين قبل الثورة الأمريكية بحيث ساهمت كتاباته في مسايرتها والإشهار لها. وقد ألهم كتابه “حقوق الإنسان” (Rights of Man 1791) المنظرين للثورة الفرنسية أيضا، وأثر كثيرا في طوماس دجيفيرسون كاتب نص الدستور الأمريكي، (إعلان الاستقلال). وتقول الفقرة الأولى لعريضة الاستقلال الأمريكية:
« All men are created equal, that they are endowed by their Creator with inalienable rights, among these are life, liberty, and the pursuit of happiness…»
ما معناه “إن كل الناس خلقوا متساويين، وأن الخالق حباهم بحقوق مؤكدة لا خلاف عليها، ومن ضمنها: الحياة، والحرية، والسعي وراء السعادة …”
وعاد طوماس بيين إلى فرنسا في 1798 ليحتفل مع الثوريين الفرنسيين بثورتهم، ولكن فكره النقدي أدى إلى اختلاف بينه وبين القائد الثوري روبيسبيير، مما اضطر طوماس بيين إلى الهروب والعودة إلى أميركا حيث توفي سنة 1809 بنيويورك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحقوق الفردية والوطنية والطبيعية التي نادت بها الثورتين الأمريكية والفرنسية لم تفكر أبدا في الأفراد من أجناس وثقافات مختلفة مثل السود أو الهنود الأصليين في العالم الجديد؛ ويندرج تحت هذا الإغفال الصارخ جقلوق الحيوان أيضا.
ثقافة حقوق الإنسان في بعض القوانين البريطانية:
إذا نظرنا إلى تاريخ تطور ثقافة حقوق الإنسان، فإن التاريخ السياسي-الاجتماعي لبريطانيا يحتل الصدارة في فتح الطريق أمام ثقافة حقوق الإنسان بأوروبا، وذلك بسن وثائق تتبث الحقوق الدستورية للأفراد، وتبين أنواع الحريات العامة، وتحدد خصوصا علاقة الأفراد بالدولة وبمراكز السلطة التي تحكم البلاد.
فقد اهتم الشعب البريطاني بتدوين هذه القوانين التي أصبحت دستورا فيما بعد، في وثائق تاريخية اكتسبت شهرة لدى الكثير من الشعوب. فهذه القوانين كانت أصلا عبارة عن اتفاقات بين الملك وأمراء مناهضين له أو اختلفوا معه، أو بين الملك والمجالس التمثيلية للجماعات والشعب. ومن أهم هذه الوثائق نذكر مايلي:
الميثاق الأعظم
(The Magna Carta)
سنة 1215 (كتب باللاتينية).
عريضة الحقوق
(Petition of Rights) سنة 1628.عريضة الإحضار الشخصي
(Act of Habeas Corpus) سنة 1679
قانون الحقوق
(Bill of Rights) سنة 1689.
قانون الخلافة الملكية
« Act of Settlement »(1701)
فالماغنا كارطا (الميثاق الأعظم) كانت وثيقة تتبث مجموعة من الحقوق الإنسانية الفردية، خطها مجموعة من النبلاء الذين ثاروا على الملك الذي هدد مصالحهم بطغيانه وفرض عددا من الضرائب بدون استشارة البرلمان. فالصراع الطبقي في البلاد أدى إلى الثورة على الملكية وإجبار الملك على قبول عدة قوانين تحد من سلطته وترجع السلطة إلى الشعب والبرلمان. ويحتوي الميثاق الأعظم على أحكام أساسية تتعلق بصيانة حقوق الإقطاعيين، وتأمين حرية الكنيسة، واحترام التجار، وإلغاء الضرائب الاستثنائية، والتزام العدالة في الإدارة والقضاء، وضمان الكرامة الشخصية لكل فرد من أفراد الرعية مهما اختلفت طبقاتهم وتباينت درجاتهم في المجتمع. وتتكون من 63 فصلا. وفي الفصل الواحد والستين من الميثاق يخول لـ 25 بارونا من اتباع الملك السهر على تنفيذ العهد، ومحاولة جعل تقييد سلطة الملك أمرا شرعيا. ومن هنا أصبح البرلمان يتحكم في قرارات الملك وله الكلمة الفصل في تسيير الشأن العام للبلاد. وقد كان للميثاق الأعظم الأثر الكبير في كل أنحاء العالم، ونتج عنه ستون مواثيق للحريات والقوانين الضامنة لها وخصوصا في المستعمرات البريطانية الجديدة (العالم الجديد).


الكاتب : محمد الـزرورة

  

بتاريخ : 12/08/2021