من حقوق الإنسان إلى حقوق الحيوان: تفكيك محورية الفرد في الثقافة الحقوقية 5

محمد الـزرورة
جامعة محمدالخامس، الرباط

كما يشير الباحثون الى انه من بين الحيثيات الإديولوجية وراء تنظيم هذه المهرجانات هو الرغبة في أثبات حقيقة النظرية التي تدعي ان الإنسان الإفريقي يمثل الحلقة المفقودة في التطور البشري من القرد الى الإنسان. ولذلك أسكن المنظمون بانغا في قفص بمعية قرد (اورانأتانغ) وببغاء لإثبات التفوق العرقي للإنسان الأبيض الأوروبي الأصل على كل الاجناس البشرية الأخرى. فبانغا والآخرون كانوا يمثلون المستوى الهمجي المنحط للجنس الغير اوروبي الاصل. فبعد وضعه داخل قفص بمعية قرد في حديقة الحيوانات في البرونكس تم فرش ارضية القفص بالعظام لإيهام الزوار بانه من أكلة اللحم البشري. وقد زعم سامويل فيرنير انه تم احتجازه من طرف قبيلة من أكلة البشر حين كان مع بانغا في الغابة الكونغولية، ولكنه لحسن حضه أفلت من قبضتهم.
وتشير الكثير من الدراسات إلى أن العلوم الناشئة آنذاك كالأنتروبولوجيل والزولوجيا والبيولوجيا وعلوم الطبيعة ساهمت كثيرا في تأطير هذه الإديولوجيا العنصرية التي صنعت هذا الإنسان ـ الحيوان وهذه الحدائق الحيوانية التي اصبحت منبع الغرابة والفرجة والتسلية وإثبات تحظر وتفوق الجنس البشري الأوروبي. وقد كان عدد الزوار لمشاهدة اوطا بانغا والانواع البشرية الاخرى يصل احيانا الى عدة آلاف في اليوم، بما يعني ان هذه المعارض كانت تذر عائدات مالية ضخمة لن يستفيد منها بـــانغا واصحابه. وقد تناولت الصحف المحلية أخبار أوطا بانغا والمعارض البشرية الحية، فبرزت احتجاجات قوية من طرف المواطنين وخصوصا المثقفين السود، وانتقدوا استعباد واستغلال هؤلاء البشر وحرمانهم من انسانيتهم وكرامتهم. وكان القس جيمس هـ. جوردون، مدير ملجأ الأيتام هاوورد في مقاطعة بروكلين من أشد المناهضين، حيث قال: “نعتقد ان عرقنا مكتئب بما فيه الكفاية دون ان يظهر أحدنا مع القردة. نعتقد اننا نستحق أن نعتبر ككائنات بشرية ذات روح…” (نفس المرجع). وبسبب كثرة الاحتجاجات والمناخ الاجتماعي آنذاك المناهض للعبودية بعد حظرها عالميا حوالي 1904 بالرغم من ان الكونغريس الأمريكي سبق له أن أقر منع امتلاك العبيد او الإتجار فيهم سنة 1862، فقد تقرر نقل بانغا أولا الى الملجأ فبدأ تمدرسه وتعلم الأنجليزية، وبعدها نقل الى مزرعة في فيرجينا لاشتغال فيها. فلم يجد بانغا راحة في أمريكا وحاول ان يجد طريقة للعودة الى بلده الاصل. ولكنه مع حلول الحرب العالمية الاولى استحالت عودته، وفي عام 1916 أطلق رصاصة علي قلبه.(نفس المرجع).
لم تكن نهاية سارجي بارتمان (هوتنتوت فينس) او زُهرة الهوتنتوت أقل مأساوية من نهاية أوطا بانغا. فهي المرأة الزنجية ذات الجسد الضخم والأرداف العريضة التي ابهرت الأوروبيين رجالا ونساء خلال اواخر القرن 19. كما أثارت شبق واهتمام الاوساط المخملية والعالمة في إنجلترا وفرنسا. فبالإضافة الى عرضها على خشبات المسارح والسيركات، اثارت بارتمان اهتمام الاطباء وعلماء الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا والوراثة والتطور البشري، مما جعلها تخضع باستمرار للعديد من الفحوصات المهينة لكل اطراف جسدها بما فيها الأعضاء الحميمية. بل كان بإمكان أي زائر للمعرض أن يلمسها او ينكزها او يوخزها في اطرافها الحميمية مقابل ثمن. وقد ولدت سارجي بارتمان في قبيلة الخويخوي في جنوب افريقيا خلال فترة الاستعمار سنة 1798 ، وامتلكها احد المعمرين البيض الذي اهداها الى اخيه، والذي باعها بدوره الى صديق له في لندن. كان عمرها لا يتجاوز العشرين لما عرضت في لندن. فكانت تعرض عارية داخل قفص، واحيانا تُجر كالحيوان بحبل في عنقها، ويسمح للجمهور لمسها وشتمها ووخزها في اطرافها الحميمية مقابل 2 شيلين. وبعد اربع سنوات بإنجلترا وايرلاندا تم بيعها في باريس.
وهناك كابدت سارتجي الويلات في المعارض البشرية والصالونات والمختبرات. فكان استغلالها على كل المستويات. ولما بدأت ترفض الامتثال لأوامر الاستعراض وبعد موت مالكها تم التخلي عنها، فتعاطت للدعارة كي تبقى على قيد الحياة. وفي عام 1815 توفيت بباريس عن عمر يناهز 25 سنة. وتم تحنيط جسدها والاحتفاظ بدماغها وأعضاها التناسلية في متحف الانسان بباريس، الى أن طالبت دولة جنوب إفريقيا استرجاع رفاتها من أجل دفنها في مسقط رأسها سنة 2002 . فترة رئاسة نيلسون مــانديلا كنت حاسمة في القرار الفرنسي. وقد تطلب ذلك ايضا تصويت البرلمان الفرنسي بالأغلبية على اعادت زُهرة الهوتنتوت الى مسقط رأسها.
قبل أوطا بانغا وسارجي بارتمان، كان هناك اشخاص آخرون تم استعراضهم في اقفاص مع قردة، من بينهم الرجل القرد (واسمه الحقيقي هو وليم دجونسون)، والطفلة القردة كراوو فاريني (التي اكتسى الشعر الطويل كل جسدها) والتي تم عرضها في1880 . أصلها من جنوب آسيا وكانت تشكو من مرض ناذر يسمى هيبوتروكوسيس (فرط الشعر).
وفي 1990 تم استعراض الرجل القرد (كونغو) باستمرار داخل قفص بمعية قرد. وكما يؤكد الباحثون، فكل هذه المعارض كانت خدعة لجمع المال، بحيث كان المنظمون لهذه المعارض يشهرونها شهورا من قبل عبر المنشورات والملصقات في كل انحاء مدينة العرض مؤكدين على الجانب الغرائبي للمخلوقات المعروضة. وقد كان تواطؤ الكثير من العلماء والاطباء وعلماء التطور البشري والذين كانوا يبحتون في تاريخ التطور البشري عن الحلقة المفقودة بين القرد و الجنس البشري الاوروبي، حسب نظرية داروين. فمثلا كان وليام مغغيي أحد المؤسسين الأوائل للحدائق الحيوانية البشرية في أمريكا عالم أنثروبولوجيا شهير و رئيس الجمعية الامريكية للانثروبولوجبا و مدير الجمعية الامريكية لتقدم العلوم. وقد كان العلماء يزون الاجناس المعروضة كل صباح من اجل معاينتها وقياس اعضائها وجماجمها وتدوين عاداتها وطقوسها. فالتطور العلمي الذي كان في اوجه نهاية القرن التاسع عشر كان في حاجة لكل معلومة حول الأنواع الطبيعية والبشرية المكتشفة. وفي نفس الوقت كانت تلك النظريات والاستكشافات تغدي الفرضية القائلة بتفوق الجنس البشري الأوروبي الأبيض في مقابل حيوانية وهمجية و التخلف العقلي لذى الجنس الأسود الأفريقي وتاأسيوي والهندي. وكل هذا كان يمثل ركائز الخطابات المعقلنة للسلطة الاستعمارية وللواجب الأخلاقي الملقى على عاثق الرجل الأوروبي لانقاد هؤلاء الشعوب من همجتها والتكفل بنشر الحضارة والدين الامثل. كما يقول أجد المنظرين لهذا الفكر، المؤرخ سامويل ايليوت موريسون: “إن مفهوم كولومبوس الكبير وهدفه هو حمل كلمة الله ومعرفة ابنه إلى أقاصي الكرة الأرضية ، أصبح حقيقة: لقد ظهر المسيح لجنس جديد من الأمم ….. هذا العالم الجديد … وثنيون يتوقعون حياة قصيرة وبذائية ، خالية من الأمل في أي مستقبل، وقد أتتهم الرؤية المسيحية لإله رحيم وجنة مجيدة.”
إن قصة سارتجي المؤلمة، مثل قصة أوطا بانغا، وقصة كراوو لتختزل الكثير من الافكار التي نوقشت في هذه الورقة حول حقوق الإنسان المجرد والغير مقيد بثوابت ايديولوجية عرقية او جنسية او جغرافية او اقتصادية، وتبين كيف أن ماهية الإنسان التي حددتها فلسفة الأنوار خضعت لعدة انزلاقات في المعني نتج عنها صناعة مخلوقات فقدت انسانيتها وكرامتها وماهيتها كبشر يستحق الحقوق الكونية والاحترام خارج اعتبارات الجنس واللون. كما ان ظاهرة المعارض الحيوانية البشرية لتختزل ايضا تلك التناقضات العميقة في الخطابات التحررية والحقوقية الغربية مند عهد الانوار الى عهد انتفاضة الأمريكيين السود وصعود حركتهم السلمية “حياة السود مهمة” خلال صيف 2020. و إنه لمن سخرية الأقدار ان تولد سارتجي بارتمان في 1789، سنة الثورة الفرنسية المنادية بتحرير الفرد والإنسان عبر الكون. بل وربما وجب قراءة هؤلاء البشر المعروضين للفرجة كرمز للإنسان الآخر غير الأوروبي الأصل والذي انتجه خطاب ووعي جماعي هيمن عليه الفكر العنصري المسيحي الأبيض الذي صنع تورته العصرية عن طريق استعباد الملايين من بين أمثال هؤلاء البشر، واستعمار اقطار شاسعة عبر العالم. ونتيجة لهذا النجاح في التوسع والهيمنة اعتبر العرق والجنس الأبيض الأوروبي نفسه الأقوى والأكمل والأعقل من كل الأجناس والمخلوقات الأخرى على وجه البسيطة. بل اعتبر نفسه مركزا للكون كما كان يشار الى الآلهة من قبل. فبالرغم من ان القرن التاسع عشر الاوروبي شهد فترة ازدهار الفلسفة الحقوقية، فإن هيمنة الرأسمالية الناشئة والإمبريالية فرضا الإبقاء على العنصر البشري الأسود والهندي خارج مجال الأنسنة والبشرية والمساواة في الحقوق، وتم حشرهذا العنصر البشري في بوتقة الطبيعة المتوحشة والبدائية الأقرب الى الحيوان منه الى الإنسان الأوروبي، وبذلك يكون هو الحلقة المفقودة بين الحيوان والإنسان التي بحث عنها الــــداروينيون. ولكنه خلف هذا القناع الإيديولوجي هناك الحاجة الماسة لليد العاملة لإنتاج القطن والسكر والذهب والفضة والحديد ومواد أخرى دون أن ننسى إنتاج المتعة والفرجة والمرح في المهرجانات والكارنفالات ومعارض حدائق الحيوانات البشرية والتي كانت بدورها كنزا للرأسمال.
ولم تقتصر هذه العروض الغرائبية على الكبار والقبائل البدائية المتوحشة والحيوانات الغريبة والالعاب البهلوانية والعجائبية، بل شملت الأطفال الصغار والخدج الأمريكيين ايضا. وقد اشتهرت جزيرة كوني قرب نيويورك بأحد أشهر المعارض في أمريكا والعالم، وخصوصا معرض الأطفال الذين ولدوا قبل الاوان، ويتم وضعهم في آلات حاضنات من أجل استكمال نموهم. فبين سنة 1887 و1911 نجح الدكتور مارتن كوني، صاحب المشروع والمعرض، بإنقاذ حياة حوالي 7000 طفل أمريكي وتمكينهم من البقاء على قيد الحياة من خلال العناية بهم داخل حاضنات.
وكان معرض الصغارهذا مثيرا ويستقطب العديد من الزوار الذين كانوا يأتون للاستمتاع بالمعروضات الغريـــبة والسيرك والالعاب والاستجمام على شواطئ الجزيرة. كما كانت تعرض فيها نماذج بشرية مثل بانغا والفيليبينيين. والهنود الأصليين و نماذج أخرى من افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وكانت تسمى ارض الحلم (دريملاند). وقد انتهت اسطورة هذه الجزيرة في 1911 حين دمرتها النيران.(راجع باميلا نيوكورك).
وتطرح العروض البشرية الحية الكثير من التساؤلات من أجل فهم جدورها ومغزاها وأسباب اشتهارها وانتشارها في عالم يعيش تحت تأثيرات الثورات الحقوقية التي نادت بتحرير الإنسان من العبودية والاستغلال والاستبداد.
إن ما يمكن استنتاجه من خلال تفكيك معاني هذه الظاهرة هو ان نشأة الثورات الحقوقية تزامنت مع بروز الرأسمالية والإستعمار كشريك وآلية إنتاج لها، كقوتين مساندتين لبعضهما البعض، وبذلك برز خطاب وفلسفة لعقلنة استعباد الاجناس البشرية الغير اوروبية الاصل. ودار نقاش ساخن في الكثير من الأوساط الدينية حول امكانية اعتبار الهنود والسود بشرا لهم ارواحا مثل الاوروبيين البيض، وهل يصح ادخالهم في المسيحية (راجع المناظرات التي دارت بين القسين لاص كاصاص وسيبولفيدا في بداية القرن السابع عشر والتي دافع من خلالها لاص كاصاص عن الهنود واعتبرهم افضل انسانية من الأوروبيين). ولقد تمت ازاحة كل الاجناس والإثنيات المستعمرة من مفهوم الإنسان والبشر لأسباب اقتصادية أساسا، ومن اجل استغلالها في انتاج الرأسمال في مزارع القطن او السكر او مناجم الذهب و الفضة او انتاج ثقافة الفرجة في الحدائق الحيوانية والاستعراضات التي كانت تذر على اصحابها ارباحا طائلة، بل اصبح استعراض الأجناس البشرية من زنوج وأقزام وفيليبينيين وهنود حمر وهوتنتوت بمتابة معمل لإنتاج الرفاهية والسعادة، بل أصبحت علامة نجاح وامتياز الجنس الاوروبي الأصل علي كل الأجناس الأخرى المستعمرة.
فهؤلاء الأشخاص الذين كان يتم نقلهم الى تلك المعارض الحيوانية البشرية كانوا مثقلين بإرثهم الثقافي الأصيل الذي طورته شعوبهم خلال آلاف السنين، ولكنهم حين يعرضون امام الجماهير في اوروبا وأمريكا فإنهم يفقدون كل هوية آدمية وكرامة إنسانية، ويصبحون كراكز جوفاء بدون صوت للمطالبة بحقوقهم. فالتحديق في تلك الاجساد العارية تصبح له رمزية قوية في تحديد معنى وماهية الآخر، مصدر الفرجة واللذة. فالنظرة المحدقة تهيكل الآخر من خلال إعطائه نعتا وماهية مثل الوحشية والهمجية والحيوانية ونوعا من اللذة الجنسية، وفي نفس الوقت يصير مشيئا كبضاعة تباع وتشترى في سوق المعرض من أجل الاستمتاع والتسلية واللذة الشبقية.


الكاتب : محمد الـزرورة

  

بتاريخ : 16/08/2021