من «ربيع الأوداية» إلى ربيع الرباط – مدينة الأنوار

نقدم هنا ترجمةَ نصٍّ لمحمد لفتح يُظهر الوجه الآخر لهذا الروائي القادم من حارات مدينة سطات الممتدة في التاريخ والجغرافيا. إنه محمد لفتح الكاتب الصحفي الذي نشر العديد من المقالات الصحفية البديعة ذات النفس الأدبي الرائع.
ويُفصح هذا النص عن تجلٍّ آخر من تجليات الرباط- مدينة الأنوار، في بعدها التاريخي والثقافي العام، حيث يتحدث فيه عن «قصبة الأوداية وربيعها» بأسلوب يمزج بين الصنعة الأدبية ذات البعد الإيحائي وبين الكتابة الصحفية ذات البعد التقريري. وهو نص يندرج ضمن نصوص أخرى ضَمَّنها لفتح كتابَه، الذي نُشر بعد وفاته من قبل دار فاصلة وبدعم من أكاديمية المملكة المغربية، والموسوم «مُدنٌ مغربية». يتوقف فيه عند العديد من المدن المغربية عبر سبعة أقسام كبرى، هي: الدارالبيضاء، مدن الضفة الأطلسية (الرباط، آسفي، الصويرة)، مدن الضفة المتوسطية (طنجة، سبتة)، مدن الداخل (سطات، أبي الجعد)، المدن الإمبراطورية (فاس، مكناس، وليلي، مولاي إدريس زرهون، وادي بوفكران، مراكش)، مدن الجبل (صفرو، شفشاون)، مدن الجنوب العميق (سمارة).
ويثير لفتح الانتباه، في هذا الكتاب، إلى المدينة باعتبارها، من جهة أولى، موضوعا تاريخيا لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه بين المؤرخين المغاربة؛ وبوصفها، من جهة أخرى، مادة للكتابة الأدبية في أعمال الأدباء المغاربة والأجانب الذين وصلوا إلى المغرب في القرن العشرين أمثال پولز وكانيتي وأناييس نين الذين حوَّلوا المدن التي كتبوا عنها إلى أمكنة أكثر عمقا وحميمية، إلى أمكنة تمتلك روحا دفينة تتحدث إلينا وتهز دواخلنا، وتتحول إلى كينونة داخلية تجعلنا نراها، ونستجلي روحها ضمن مظهر «جديد» وأفق مغاير.

 

نص الترجمة
ثمة أمكنة سحرية يُحس فيها الزائرُ، منذ الوهلة الأولى، بألفة مع المجال ومع الناس الذين يسكنون به. وتُعَد قصبة الأوداية واحدة من هذه الأمكنة التي حظيت بمكانة أثيرة لدى العديد من الفنانين المحليين والأجانب.
***
يقع المنزل في آخر زقاقِ مُنحدَرٍ ينتهي بطريقٍ مسدودٍ. دَعتني طفلةٌ من الحي لأدفع بابا صغيرا مقوَّسا وموارَبا بعض الشيء. لكنها حينما لاحظت ترددي، فعلت ذلك بنفسها.
في جانب من الفضاء الضيق الذي ندلف إليه، الغارقِ في ضوء خافت، والذي يشكل المدخل الحقيقي للمَسْكن، يُفصح عن نفسه بابٌ ثان ذو الشكلِ نفسِه والأبعادِ ذاتِها. رفعتُ مطرقة الباب التي توجد على هيئة يد، وتركتها تهوي. لم يستغرق ظهور وجه المُضيفِ البشوش وقتا طويلا، ثم ولجنا مباشرة إلى داخل غرفةٍ، غير أننا لم نمكث بها.
دعاني مُضيفي لأتبعه، وكان يحذرني عند كل منعطف كي أنتبه إلى الدرجات. نَهبط سُلما حلزونيَّ الشكلِ، يُتيح لنا ولوجَ طابقِ المنزلِ الأولِ، ثم طابقِه الثانيِّ، ليفضي بنا أخيرا إلى شرفة على شكلِ حديقة رائعة، نطل عبرها على مصب وادي أبي رقراق، ومن بعده على مدينة سلا.
تتلألأ الشرفة بالزهور والنباتات، حيث يتسلق اللبلاب على طول السور الذي يتكئ عليه المنزلُ. ثمة درج حلزونيٌّ صغير آخر يؤدي من هذه الشرفة إلى الخارج، إلى مكان على الشاطئ حيث يوجد بناء حجري دائريُّ الشكل، (لمْدَوْرَة)، والذي كان يُستخدم في السابق لرسو القوارب.
ننتقل من زقاق ضيق مثل مِعًى إلى شرفة على شكل حديقة تطلُّ من علٍ على شساعة النهر والمحيط: يحلو لي، في أعقاب ذلك، أن أعتبر هذا “الهبوط” إلى منزل بهذا الارتفاع، والمندمج بصورة رائعة في محيطه، بمثابة طقوس عبور، وهو إحساس لم أشعر به عند دخول القصبة من بابها الأثري الضخم.
ويُعَد هذا الباب، بعمارته الدقيقة وزخرفته البديعة، والذي يعود تاريخ تشييده إلى فترة حكم الملك الموحدي يعقوب المنصور، من أجمل أبواب المغرب. وقد كان يفضي، في ما مضى، إلى قاعة استقبالٍ في قصرٍ، تحولت الآن إلى صالة للعرض.
وتُعتبر زنقة المسجد -التي استمدت اسمها من اسم المسجد الموحِّدي الموجود بها حتى الآن، والذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1150- الوحيدةَ التي تَعبُر القصبة من طرفها إلى طرفها الآخر. يا لها من سعادة أن تتجول في هذا الفضاء الخالي من السيارات، باستثناء هذه الزنقة، بل وأيضا من الدراجات النارية أو الهوائية. وفي حقيقة الأمر، نستغرب كيف يمكن للمرء، إلا إذا كان مخاطرا، أن يستعمل مثل هذه المَركبات في هذه الأزقة الضيقة المتعرجة، التي تتدحرج متسلقة ومتموجة وسط تشابك المنازل؟
وتوجد ثمة منازل بيضاء مُنمقة بالأزرق، تكون أبواب الكثير منها نصفَ مواربة. ألا يعد هذا مؤشرا على استعداد الجيران لتقديم العون إلى بعضهم بعضا، ودليلا على الثقة والتعايش اللذين يسودان بينهم؟ ويتميز الباب عادة، سواء أكان مفتوحا أم مغلقا، بمطرقته. هكذا، فإذا كان الشكل الذي يرتبط بحمولةِ لالة فاطمة الزهراء الوقائيةِ (درء العين) هو الأكثر شيوعا، فإن بعض المطارق تتخذ أشكالا أكثر “حداثة”، حيث تكون مستعارة إما من الأشكال الهندسية (على شكل دائرة أو قلب أو نجمة)، أو من أشكال الحشرات (تواتر المطارق البرونزية التي تتخذ صورة نحلة)، أو من الرموز ذات الحمولة الوطنية (نجمة العلم الوطني)، لكن الأكثر إبهارا هي هذه المطرقة التي تتخذ شكل رأس أسد رائع، تتشكل من عفرة أسد في مهب الريح من ذهب متوهج، ومن فم مفتوح بمثابة فتحة صندوق بريد غير مرئي.
ولا تزال هناك تفاصيل دقيقة تنتمي إلى الطراز الأندلسي أو الموريسكي الجديد، وتشهد على فترة تاريخية مهمة؛ نقصد بها تلك الفترة التي وَجَد فيها بعض الموريسكيين، الهورناتشوس، الذين طُردوا من إسبانيا من قبل فيليب الثاني عام 1609، ملجأً لهم في قصبة الأوداية هذه. وتتجلى هذه التفاصيل الدقيقة في الزهور المغروسة في أُصُصٍ معلقة على الجدران، والكُوَّات المسيجة بإطارات سوداء مصنوعة من الحديد المطاوِع، والأسقف المنحدرة المكسُوة بالقرميد الأخضر الزمردي.
وقد طوَّر الشجعان منهم، انطلاقا من هذه القاعدة، نشاطا خاصا يرتبط في الآن ذاته بالجهاد وبالرغبة في الإثراء: القرصنة.
ولكن المناخ الذي يسود في زنقة بازو اليومَ؛ مناخٌ أندلسي مسالمٌ وراقٍ. تقودنا هذه الزنقة إلى شرفة “مقهى مورو”. وهي عبارة عن مكان ساحر باللونين الأبيض والأزرق يُشرف من جانب على النهر، ومن الجانب الآخر على حديقة أندلسية رائعة. وتَحُد هذه الحديقةَ، التي شُيِّدت بين عامي 1913 و1918، أسوارٌ مُسنَّنة يعود تاريخ بنائها إلى زمن المولى رشيد (1664-1672)، وتضم قصرا يحيط به برج من خمسة طوابق شُيِّد في عهد المولى إسماعيل (1672-1727).
يَقعُ متحفُ الأوداية في كنف هذه العمارة التي تآكلت مع مر السنين، وفي حضن هذه النباتات النضِرة. وقد أُنشِئ عام 1915، ويضم متحف الفنون الإسلامية الموجود بالقصر الذي ألمحنا إليه سابقا، والمتحف الإثنوغرافي الذي يضم مجموعات من الملابس التقليدية وقطع المجوهرات والفخار والأسلحة والآلات الموسيقية القديمة. وتوجد في أحد أجنحة الحديقة مكتبة متخصصة تضم رصيدا لا يستهان به من المخطوطات.
***
“ربيع الأوداية”: هو الشعار الذي اختارته جمعية قصبة الاوداية للحملة التي قامت بها في ماي1995، بتنظيمها يوما من أجل “قصبة نظيفة”، ثم من بعده “أسبوعا أبيض” يقوم فيه السكان، وبصورة تضامنية، بطلاء البيوت والأزقة باللون الأبيض، مما يمنح القصبة مظهرا نقيا ومبهجا. وقد كان هذا النشاط تقليدا راسخا لدى السكان مع اقتراب كل شهر رمضان، لكنه بدأ في التراجع. لهذا قامت الجمعية بإحيائه وتنظيمه، وذلك بتقديمها الصباغة للمحتاجين من السكان.
نذكر، من بين أصحاب هذه المبادرة ومن بين قيادات الجمعية، أشخاصا من مشارب مختلفة. المؤلف والملحن والمغني محمود ميگري، الرسام ميلود نويگا المعروف برسوماته المائية، توتان أوليڨيي المهندس المعماري، مَكني عبد المجيد، شخص معاق حركيا يتعاون مع منظمة دولية يوجد مقرها الرئيس في لندن، لانستات فروميجيست وهو مستشار للبنك الدولي يقيم بالقصبة بعد عودته من مهماته.
ومن بين مشاريع الجمعية العديدة إنشاء دار للثقافة. لكن هذا المشروع واجه مشكلة تعترض أي إنشاء جديد داخل حدود القصبة، ويتعلق الأمر بالوضع القانوني لأرض مأهولا بالكامل.
هنا، لا بد من القيام بتذكير تاريخي:
في عام 1833، عَمد السلطان المولى عبد الرحمن إلى توطين جزء من قبيلة گيش الوداية بين تمارة والرباط، قصد الدفاع عن هذين المدينتين، وبخاصة المدينة الأخيرة، ضد قبائل زعير وزمور. وهكذا استقر قادة هذه القبيلة وأعيانها في القصبة التي تحمل اسم قبيلتهم منذ ذلك الحين.
يوجد اليوم، إلى جانب الدولة باعتبارها مالكَ الأرضِ الأصليَّ، جهات أخرى معنية: وزارة الثقافة؛ بما أن القصبة مصنفة أثرا تاريخيا، ووزارة الشباب والرياضة، واليونسكو، وولاية الرباط-سلا، وبلدية الرباط-حسان، والأشخاص العاديون الذين بمقدورهم التمسك بحق ملكية الأرض.
هكذا، تُطرح مشكلة الوضع القانوني للأرض بالنسبة إلى ضفة أبي رقراق خارج أسوار القصبة. وبهذا، كان يصطدم، في المقام الأول، مشروع ضخم يروم تهيئة هذه الضفة بهذه المشكلة منذ سنوات.
لكن، دعونا الآن نصعد، قبل مغادرة هذا المكان الآسر، إلى سطح المنارة القديمة.
إنها شرفة رائعة تتربع فوق مصب الوادي، تُعانِق النظرةُ، انطلاقا منها، نهرا يَمتد عُمرُه إلى ألفٍ عامِ. ثمة قبور تلوح ناصعة البياض. هنا، تتشابك الحياة والموت باستمرار، على إيقاع مَدِّ الأمواجِ وجَزْرِها المُتكَرِّرِ بِلا حدود.
دعونا نراهن، من أعلى هذه الشرفة، على الماء، من أجل الحياة، من أجل ربيع للأوداية أكثر جمالا في المستقبل.

مراجع:
صدر كتاب مهم أواسط تسعينيات القرن الماضي يتحدث عن تاريخ هذا النهر الذي يمر بين مدينتي سلا والرباط:
Robert Chastel, Rabat-Salé : vingt siècles de l’oued Bou Regreg , Editions La porte, cop. 1994.
2 Rite de passage initiatique المصطلح مقتبس من الأنتروبولوجيا، والمقصود به الارتقاء من حالة إلى أخرى. (المترجم)
3 ابنة الرسول من زوجته الأولى خديجة.
4 نسبة إلى النازحين من مدينة مورناشتوس الإسبانية. (المترجم)


بتاريخ : 11/04/2023