من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط 13 : الرسالة 26: أجمل الشعر هو ما يتشكل في رحم نشيد باطني

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

 

غيثة،
اتصلت بك عبر الهاتف. ثمة مستجدات طرأت. هل ذهبت فعلا إلى إسرائيل؟ أين أنت الآن؟
كنت أيضا على سفر خلال هذه الأيام، الأسبوع الفارط. حضورا لندوةـ حول الشاعر السويدي «أرثر ليندكفيست» Arthur Lindkvist، الذي كتب نصا رائعا، عن أكادير إثر زلزال 1960. أصيب بالذهول هو وزوجته، في جنح الظلام، وهما بأحد فنادق المدينة. سقط من أعلى سريره. لم يكن يدري أسيعيش أم لا. لكنهما نجوا في الأخير. وقد توفي منذ بضع سنوات. غير أن زوجته «ماريا وين»Maria Win، كانت حاضرة بيننا، خلال هذه الندوة المغربية-السويدية. وقرأت أشعاره.
تحدثنا بثلاث لغات، أثناء الجلسات: الإنجليزية، والعربية والفرنسية. قصيدة «ليندكفيست» حول أكادير. ترجمها إلى العربية أستاذان من تطوان. لماذا تستعصي ترجمة الشعر؟ أعتقد أن الشعر ذلك الذي يمنح شكلا واتجاها وإبداعا، هو تحول في اللغة العادية. فهو أصلا ترجمة. أجمل الشعر وأعظمه، هو ما يتشكل في رحم نشيد باطني: نبرة الإيقاع، وجرس الكلمات. يشتغل على قوى الصمت وإمكاناته. لكن، في كل مرة يشخصن الشاعر تجربته اللغوية، من المفروض، أن يكون له معجمه الخاص، ولغته الفردية، وبنياته التركيبية. فهذا جزء من أسلوبه. غير أنه أسلوب، عليه أن يظل مشرعا على مصادفات الحياة، والإنصات لما هو خارق وعجيب.
يكتب الشعر، بغية الترجمة إلى كل لغات العالم. وهو موجه إلى إبداع شعراء آخرين. مشكلة الترجمة: «كيف نكتب بالموازاة، نصا آخر مصدريا texte-source؟
استغرقت في هذه الأفكار، لما أعدت قراءة رسالتك، حيث تتحدثين عن النجم L’Astre، نجمك. وتتحدثين حقيقة، عن الألم الذي يشدك إلى طفلتك الفقيدة. تحملينه في عقلك ونفسك. ومما لا شك فيه، أنك ستظلين وفية لها، مثلما أشرقت بها حياتك. هي منذ الآن، ملاك موشى بخيوط ذهبية خفية. يكلمك وسيكلمك. ثمة في الحياة ثقوب سوداء، وكوات، وأهوال. تطويع هذه العلاقة مع الليل، ذلك الليل، هو أمر حاسم. هذا الحسم أحس به، خفاقا في حريتك في التفكير، فيه ما يكفي من الجنون، لمواجهة البلاء الخطير للتحمل والاصطبار. فما وراء الفاجعة هذا الاصطبار. هو جدير بحساسيتنا الأشد رهافة، وحيطتنا الأكثر يقظة. فهذه الرسالة مهداة لهذا، عبر وساطتك. نحن عابرون، ومقيمون على ضفاف التحاب: هل تفهمينني؟


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 07/06/2021