من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط – 37 – الرسالة 26: أجمل الشعر هو ما يتشكل في رحم نشيد باطني

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

صديقتي،
إنه لامرؤ مفرط في سعادته، ذلك الذي، بين التأمل والفعل، يحظى بتوازن متطاير. أقول هذا، لأرسل لك أولى كلماتي، التي كتبتها في أحد التأملات. أبحث منذ فترة، عن تصالح أفضل مع ذاتي. ولعل هذا الشعور، هو ما يسمح لكل واحد ببناء ذاته، تبعا لإيقاع الحياة. غير أن هذا البناء الذاتي auto-édification ليس، في ذهني، استلقاء أو إرضاء أو تلطفا، إزاء الذات أو أي تلكؤ. هو توقف في حركة، كنوتة موسيقية تبحث عن تفعيل لحن معلق، ونبرة مضبوطة.
«هسيونغ بينغ-مينغ» Hsiung Ping-Ming-اسم الأديب والخطاط الصيني- هو ببساطة كائن رائع. ينصت ويحاور بقوة ناعمة وحصيفة… أجل إنه بحث عن الدقة والإحكام. على هامش عمله (أهداني رسما مخطوطا، وكتابا بعنوان «اليد» La main)، تبادلنا أطراف الحديث طويلا. تأثرت بهذه الثقة(المتبادلة) التي قادتنا نحو الأساسيات: الفن، والحياة، واليومي، في مفارقاتها وإشكالاتها. كيف يعيش المرء وفيا لنضجه الطويل؟ ومع ذلك، فليس ثمة سر. فعلينا أن نكون جاهزين للزمن، والصمت، كل ذلك مع تلقي العلامات والأصوات، التي تختلج في دواخلنا، وفي طيات كينونتنا. لكن هذ الجاهزية، لن تكون مثمرة إلا إذا كنا من قبل، في مكان ما مستقرين في أمكنة رغبتها. الذين كانوا في الصدارة من نزوعهم إلى الفعالية والنشاط، هم أشد ما يركنون إلى مجازفات الحياة، ونزوات الآخرين والمجتمع، استطاعة للتواجد في هذا المجال المحظوظ، والمخصص لعشاق الصمت، والحوار الحساس le dialogue sensible. تولد القصيدة، ينهض الفكر، بنفس الخطو في الرقص. صحيح أنه كلما انتابنا هذا الإحساس بالانبثاق، حصل عندنا انطباع شديد البراءة، لإبداع العالم، عالم ما.
هذه الدفعة للحياة، هذه الموجة المتكسرة على الضفاف، لعل هذا ما يجمع الناس في حركات الطبيعة. من المؤكد، أننا لا نستيقظ مع طلوع الشمس (باستثناء العصافير والفلاحين القدامى)، لا نخلد إلى النوم كل مساء، تحت ضوء القمر. إنه لشيء أية في الجمال، أن نكون عنصرا متحولا عن الطبيعة! نعيش في زمن الضوء، ننزلق على فرش من الظل، ونسبح مع الأمواج وضدها، لكن في كل مرة، نشوة الانتماء، إلى عالم مضياف، تعيدنا إلى ذواتنا، على سطح الأرض. هذه مسرتي، لأكتب إليك، هذا أو ذاك، بتلاعب بالكلمات والصور. إنه الصيف، فلنستمتع به!
مع مودتي.


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم إهداء إلى مراد الخطيبي

  

بتاريخ : 09/06/2021