من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط 24 : الرسالة 48: هل هناك صلح غير قابل للصلح؟

 

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

 

غيثة،
الزمن والراهن. بين رسالتك وبطاقتك البريدية، موقع رائع ساحر، هو حقيقي، منسوج من تراب خمري، مطبوع بنخلة فريدة وبشجرة من ازهار (ما هي؟) على اليمين، في الخلف، هذه أكادير أو مظهر للاستجمام، الصمت… بجاذبياته. إبطال هذه الجاذبيات لإبداع أخرى تحجبنا وراء تدفقات الزمن، يمنحني هذا الفضل النعمة للكتابة إليك من جديد. انطلاقا من رسالتك، عاكفا على قراءتها، أكتب وأنا أقرأك، إلى حد ما.
أجل، استوقفتني هذه العبارة التي تقولينها بشجاعة كبيرة: « لا أفلح في نسيان أي شيء». قلت لنفسي: هل من الممكن للشخص أن يكون(تكون) على قدر كبير من الشفافية مع الذات؟ أقل غرابة عن الذات عينها؟ كنت أفكر دوما، أن وجودنا وجسدنا غرائبيان. ينكشف كل شيء، لما يغدو أوراقا مبهمة، ليلا محمولا، حياة محلوما بها في الحياة، نوما مخيطا بأجفاننا المجنحة، حيث ملائكة النور -إشاراتها- تلتحق بأثر نظرتنا المنثورة على العالم. يلزمنا إذا، في كل مرة، يقظة في الحياة الممنوحة لنا. هذا سر يفصح عنه النهار في توهجه، وعنفه المُقَنع.
ذاكرتي في جيئة وذهاب، ونسياني أيضا، وتناسي mon oubliance، أكاد أقول، تجانس مع Aimance، لتتذكري. التناسي هو نسيان فعال، يشتغل على هوامش الذاكرة، يطاردها، وينساها، لكنه يعود إلينا مثل ذاكرة غارقة في أفكارها، تبحث عن حياتها الأخرى، أي حياتها عينها، غير أنها مقَنعة نهائيا.
إذا كانت عباراتك مصوغة طوعا، للتتويه والتضليل، فلن أكون إلا مسرورا؛ لأن الأسلوب هو أكبر مجازفة لإلغاء الشخصية dépersonnalisation تحت المراقبة.
ما تقولينه عن «الطيف» Faux -semblant (هذا تعبيرك) يهمني كثيرا. كل شيء ظاهري: فالمظهر ذاته يضع ألاعيب الحقيقة في مشهد وإخراج. هذا حد وأمد، حيث يكون الفن ممكنا وكذلك الفكر. لعل السيمولاكر simulacre هو خاصية الإنسان، والمجتمع، والحضارات. هذا يعرفه الفلاسفة.
بمناسبة الحديث عن الموت، هل هناك صلح غير قابل للصلح؟ ميثاق أبيض مع الصمت، على توقف النفس؟ هذا هو الصمت، بين الحياة والطريق إلى العيش.
صديقتي،
من بعد أتعابي الطفيفة، وعملي (كتابي حول «التناوب والأحزاب السياسية» سيصدر قريبا)، أحاول أن أستريح، وأنطلق نحو طمأنينتي الداخلية. أكتب إليك، في هذه الحالة من السفر الداخلي، لحظات مواتية للمراسلة، والمحاورة، وحلم اليقظة، والنزق، ومراسلتي هي بنفس القدر.
مع المودة.
عبد الكبير


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم إهداء إلى مراد الخطيبي

  

بتاريخ : 24/06/2021