مواطنون يعيشون في أحضان البرد والصقيع بالأزقة الخلفية والزوايا المعتمة لخنيفرة

يعانون من المرض والوحدة والألم

يتعلق الأمر بالعشرات من الأشخاص المشردين بدون مأوى، وهم الفئة التي تسجّل معدلات وفيات أعلى بكثير من عامة الناس، وبينهم من يبقون عرضة للعيش بلا غذاء كاف ولا ملابس لائقة، ولخطر الاعتداء الجسدي والجنسي

كلما ازداد المناخ سوء، خصوصا تحت جنح الليالي الباردة، يضحى واقع العديد من المشردين مؤلما، وتظهر فئات أخرى من «طبقات الشارع»، ومنها أساسا فئة الشباب والأطفال، ضحايا التفكك الأسري والبيئة المعوزة وعنف الكبار

 

مع أجواء البرد والصقيع، تتعرى معاناة العشرات من الأشخاص، بإقليم خنيفرة، الذين يجوبون الشوارع والأزقة والدروب، دون مأوى ولا معيل، حيث تكبر الصعوبات التي يعيشونها مع ويلات التشرد والتسكع والحرمان من أبسط الحقوق، وفي غياب تام لأدنى الشروط والإمكانيات. شارع عام، يحتضن فئات مختلفة من القاصرين والمنحرفين والمتسولين، والمرضى النفسيين وذوي الاحتياجات الخاصة، وضحايا المشكلات الاجتماعية، وغيرهم ممن حكم عليهم القدر والتمييز الاجتماعي بالحرمان من الحياة الكريمة، وبالعيش وسط ليال غير آمنة ولا شيء فيها غير الصقيع ونباح الكلاب ومواء القطط.

إقليم خنيفرة الذي يصنّف مركزا للمناطق الجبلية، ورغم كل ما يقال حول المبادرات البشرية والاجتماعية، ما تزال العديد من المواقع على مستواه تعاني من أعلى معدلات الفقر والهشاشة، حيث العزلة والتهميش والأمية، مقابل تفاوتات صارخة في الهوة التنموية، وتردي كبير على مستوى البنية التحتية والخدمات الأساسية، علاوة على نقائص ومعيقات لا حصر لها، تشكل عنوانا للغياب السائد على مستوى العدالة المجالية والمواكبة الدائمة والميدانية للفئات الهشة والفقيرة في المجتمع، من خلال مقاربة اجتماعية تروم محاربة كل مظاهر الإقصاء والحرمان.

أعطاب مجتمعية

كلما ازداد المناخ سوء، خصوصا تحت جنح الليالي الباردة، يضحى واقع العديد من المشردين مؤلما، وتظهر فئات أخرى من «طبقات الشارع»، ومنها أساسا فئة الشباب والأطفال، ضحايا التفكك الأسري والبيئة المعوزة وعنف الكبار، والمحرومين من المحبة والشعور بالأمن، ومن الأبوين ودفء الحيطان، يحترفون التسكع، والتدخين واستهلاك المخدرات وشم المواد السائلة من (السيليسيون والدوليو)، فضلا عن ظواهر اجتماعية أخرى غاية في التعقيد والخطورة، فيما يمتهنون مسح الأحذية مثلا أو بيع الأكياس البلاستيكية والسجائر ب «الديطاي» وتنظيف زجاج السيارات.
ومع كل ذلك، تتصاعد النداءات الداعية لمساءلة الجماعات والسلطات المعنية عن مدى عملها، واستراتيجيتها بخصوص وضعية «شعب في حالة تشرد أو بدون مأوى خلال موجة البرد»، ذلك كلما تجلى العجز عن تقديم حلول ناجعة لهم في عالم يضطهدهم كل يوم ولا يتوقف عن التحدث حول الإنسانية، خصوصا في ظل تزايد عددهم، وضعف إمكانيات الجمعيات التي تشتغل في هذا المجال.

قساوة طبيعية

الحديث عن المشردين، يفرض التذكير بأن مآسي كثيرة تخص هذه الفئة تقع في مناطق جبلية نائية، من دون أن يلتفت أحد إليهم، وقد فات لمسؤول بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي أن حضر لقاء بخنيفرة واعتبر «أن التقدم الذي تم إحرازه في إطار المشاريع «المندمجة» من أجل تنمية العالم القروي والمناطق الجبلية، لم يساهم في التحسين الفعلي لظروف عيش ساكنة المناطق الجبلية، ولـم يسمح بالتصدي الفعـال للإشكاليات الطبيعية الخاصة التي تهدد هذه المناطق، من قبيل تأثيرات التغيرات المناخية، لا سيما موجات البرد والفيضانات المدمرة والفترات الطويلة من الجفاف».
كما سبق ل «الائتلاف المدني من أجل الجبل»، أن أعلن عن «دعوته للهيئات الإقليمية والدولية المعنية بقضايا الجبل إلى إطلاق حوار دولي حول سبل خلق آلية أممية لتنمية المناطق الجبلية»، مع مطالبته الدولة ب «الوفاء بالتزاماتها الأممية المتعلقة بتنمية المناطق الجبلية، وخاصة الخطة الخماسية الأممية 2023-2027»، وفي كل تطرق لموضوع الهشاشة بإقليم خنيفرة، تتجلى الوضعية الصعبة التي تعانيها مناطق هذا الإقليم جراء البرد القارس والتساقطات الثلجية، والتي لا تقل عن مناطق توجكالت وأكلمام وأجدير وسيدي يحيى وسعد وكروشن والقباب وغيرها، من أصل ما مجموعه 47 دوارا بساكنة تبلغ 22 ألف نسمة تعرف انخفاضا في درجات الحرارة إلى أدنى مستوياتها، ما يضعها في عزلة تامة، ويعري واقع الوضع الصحي والاجتماعي.
كما أن هذا الوضع يجعل السكان في حاجة إلى استخدام وسائل التدفئة التقليدية، وإلى حطب التدفئة الذي يتم جمعه من الغابات، ونظرا للإقبال عليه خلال فترات البرد والثلج يضحى حطب التدفئة عملة نادرة، ويشكل ارتفاع سعره مشكلة كبيرة للأسر الفقيرة في المرتفعات، حيث يصل سعر القنطار الواحد ل125 درهما، ولا يكفي سوى لمدة ثلاثة أيام فقط، مما يتطلب من أي أسرة مبلغ 1200 درهما شهريا لأجل توفير التدفئة في المنزل.

مشردون هنا وهناك

في كل فترة تتعرض فيها المناطق المعنية لموجة البرد والثلوج، تسارع السلطات الاقليمية، في شخص لجنة اليقظة والتتبع عمالة الإقليم، إلى عقد اجتماعات موسعة لعرض التدابير الاستباقية لمواجهة آثار ذلك، وتسهيل فك العزلة عن المناطق الجبلية، مع تأمين سلامة الطرق الرئيسية، مع تخصيص مهبط خاص بطائرات الهليكوبتر لفائدة جماعات ترابية معينة، وتجنيد سيارات إسعاف وقوافل طبية، لتقريب الرعاية الصحية من الفئات المستهدفة، وإحداث مراكز استقبال للمشردين والمسنين وذوي الأمراض المزمنة.
ورغم كل الجهود المبذولة، ما تزال جل المناطق وساكنتها بإقليم خنيفرة، تعيش إهمالا وعزلة، إن على صعيد المناطق الجبلية والنائية التي تعاني رداءة الطقس والمناخ، أو على مستوى الشوارع حيث يجري الوقوف على معاناة فئة هشة أخرى مع موجة البرد، ويتعلق الأمر بالعشرات من الأشخاص المشردين بدون مأوى، وهم الفئة التي تسجّل معدلات وفيات أعلى بكثير من عامة الناس، وبينهم من يبقون عرضة للعيش بلا غذاء كاف ولا ملابس لائقة، ولخطر الاعتداء الجسدي والجنسي، ولا يفكرون غير في مواجهة ظروف مناخية قاسية تهدد حياتهم.
ولعل السلطات المعنية لا تتحرك لمعالجة الأمر إلا تحت الضغط والتنبيه الذي تقوم به مواقع التواصل أو المنابر الاعلامية، لتقوم، عبر التنسيق مع جمعيات المجتمع المدني بالمدينة، على تنظيم حملات واسعة لإيواء الأشخاص المذكورين (مختلون عقليا وأطفال الشوارع وسجناء سابقون ومتشردون ونساء في وضعية صعبة…)، بمراكز الرعاية المخصصة لهذا الغرض، على الأقل لتخفيف معاناة هذه الفئة أو تلك، التي تتخذ من الساحات العمومية والفضاءات المحاذية للمحطات الطرقية مأوى لها، من خلال تقديم مساعدات غذائية أو أفرشة وملابس.

حكايات لحياة منسية

لكل فرد من المشردين والمتسكعين حكاية، غير أن المشترك متشابه تحت عناوين البؤس والتيه والعيش في العراء والظروف القاسية، وتقاسم المصير المجهول والمعاناة اليومية، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ويلتجؤون لأي زاوية بحثا عن الدفء ولسان حالهم أن يبقون على قيد الحياة.
ومن الفئات الهشة التي تعاني بمدينة خنيفرة، بسبب العزلة والهشاشة، تلك التي تقطن المساكن غير اللائقة وتحيا المعيشة الضعيفة جدا، وأغلبهم كانوا عمالا كادحين أو باعة على الأرصفة، وليس لهم أي دخل مادي، ولا تغطية صحية، أو من تدفع بهم ظروفهم إلى مراكز الإيواء التي تعرف في السنوات الأخيرة ارتفاعا ملحوظا، سواء من الجنس المذكر أو المؤنث، خصوصا مع تغييرات في القيم المجتمعية بفعل مجموعة من التحولات والقيم، ومنهم قد يكون لهم سند عائلي غير أن أفراد عائلاتهم تنكرت لهم فأصبحوا عرضة للتشرد في الشارع.

تدخلات وصعوبات

رغم ما تقوم به «دار المسنين» بخنيفرة، من دور مهم في توفير خدمات الاستقبال، والإيواء، والإطعام، والتطبيب، والتنشيط، والدعم الاجتماعي، لما تستقبله من أشخاص في وضعية هشة، وذلك بمنح وزارة التعاون الوطني أو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، تشكو هذه الدار من مداخيل تتناسب وما تقدمه من خدمات، شأنها شأن «مركز الإسعاف الاجتماعي للأشخاص من دون مأوى» (مركز موحى وحمو الزياني، الذي سبق أن سجلنا افتقاره لسيارة إسعاف للحالات المستعجلة، سيما في أوقات الحاجة إليها خلال فترة الحملات التي تنظمها السلطات المحلية بخصوص الأشخاص من مأوى لهم.
وقد عبرت لنا مصادر من إدارة المؤسسة عن مشكل عدم إخضاع الوافدين على هذه المؤسسة لأي فحص طبي ما قبل نقلهم للإيواء بها، ولا حتى بعد نقلهم، وسبق لمندوبية التعاون الوطني أن راسلت مندوبية الصحة والحماية الاجتماعية لأجل إيفاد لجنة طبية من أطباء الاختصاص للمؤسسة وبقي طلبها دون رد إيجابي ولا اهتمام إلى حدود الآن.
ويعاني المستفيدون بالمؤسسة من غياب الأدوية الخاصة بالإسعافات الأولية، مقابل ادعاء المشرفين على المؤسسة أنهم يقتانونها على حسابهم، في حال لم يتبرع بها أعضاء مكتب الجمعية الخيرية، وصادفنا في زيارتنا امرأة تطالب بأدوية مخصصة لمرضى السكري، وآخر يطالب بالتدخل لقلع ضرس يؤلمه، إلى جانب نزيل يعاني حالة نفسية صعبة ويرفض قص لحيته لتوهمه أن الشرطة ستعتقله إذا حلقها طالما أن صورته على البطاقة الوطنية بكل لحيته، إلى جانب شابة اختارت اللجوء للمؤسسة هربا من أسرتها ضواحي آزرو، فضلا عن مواطنة فضلت العيش بهذه المؤسسة جراء تعرضها للتعنيف اليومي على يد قريبة لها (تزعم أنها أختها عن طريق التبني).

هشاشة من كل المستويات

للوقوف على حجم هشاشة البرامج المتعددة للحماية الاجتماعية في المغرب، نذكر منها محدودية توفير التغطية الصحية الكافية لعموم المغاربة، يكفي أن نذكر أن العدد الحالي لساكنة الإقليم الذين يستفيدون من تغطية صحية لا يتعدى 11,17 من نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، من مجموع السكان.
تتعدد أنواع المشردين في خنيفرة، ومن بينهم فئة المتسولين نهارا، حيث يأتي ارتفاع نسبة الفقر والبطالة والهشاشة في الإقليم سببا في اتساع ظاهرة التسول الناتجة عن الصعوبات الاجتماعية لهذه الفئة من العامة، وغالبية المتسولين ترى أن الواقع ظلمهم والمجتمع يحاول نبذهم كمستضعفين، وليس باستطاعتهم مجابهة متغيرات الحياة دون مال، علما أن نسبة الفقر بإقليم خنيفرة، وفق إحصاءات 2014 / 2021، تبلغ 11.70%، وتتجاوز بذلك المعدل الوطني الذي يسجل حوالي 9%، بينما نسبة العطالة أو البطالة تتخطى نسبة 7%، ونسبة الهشاشة سجلت خنيفرة أعلى معدل على صعيد الجهة، أي بنسبة 22%، تليها أزيلال 21%، بني ملال 17%، الفقيه بن صالح 15%، وخريبكة 13%.

نداءات من أجل الجبل

لم تتوقف نداءات الفعاليات المدنية بإقليم خنيفرة، وعلى غرار باقي الأقاليم الجبلية، عن التشديد على ضرورة تفعيل مقترح «قانون الجبل»، مع ما يروم تنمية المجال الترابي للمناطق الجبلية وتقليص الفوارق الترابية التي تعانيها المناطق الجبلية، والحد من نسبة الهشاشة والإقصاء الاجتماعيين، وحماية المنظومة البيئية الجبلية والتوازنات البيئية، على اعتبار أن المناطق الجبلية القروية لم تستفد من التدابير التنموية، عبر أخذ خصوصياتها بعين الاعتبار مما راكم تأخرا واضحا بالمقارنة مع المجال الحضري.
ذلك حيث الوضع مقلق بالمناطق الجبلية، رغم مساهمة مجموعة من السياسات القطاعية للنهوض بالعالم الجبلي كالبرنامج الوطني لإنجاز الطرق القروية، برنامج التزود بالماء الشروب، برنامج الكهرباء القروية، في إبراز مكانة الجبل داخل المنظومة الاقتصادية والاجتماعية المغربية باعتباره يحتوي على موارد اقتصادية مهمة تساهم بقسط وافر من الناتج الوطني الخام وما يزال مصدر الهشاشة الاجتماعية، ويضم مقترح «قانون الجبل» 4 فصول و11 بابا و103 مادة، ويشكل الإطار التشريعي الرئيسي المخصص للمناطق الجبلية القروية وسد الفراغ القانوني المرتبط بهذا المضمار المجالي.
وفي هذا الصدد، انخرط المجتمع المدني بخنيفرة في «حملة الملتمس التشريعي من أجل الجبل»، مع توسيع دائرة نشر عرائض في هذا الشأن، ودعوة جمعيات المجتمع المدني إلى استثمار آليات الترافع المدني من أجل رفع التهميش ومظاهر العجز المزمن الذي تُعاني منه المناطق الجبلية بالمغرب، وذلك تماشيا مع الاهتمام الدولي المتزايد بضرورة حماية الجبال، وقد فات للبرلمان أن فتح نقاشا حول قضايا التنمية والعدالة المجالية، من باب اعتبار خصوصية وأهمية المناطق الجبلية، ليس فقط ككتل مادية بل كرموز وطنية تشكلت حولها عناصر عديدة من التاريخ والهوية المغربية إذ تؤدي أدوارا اقتصادية وبيئية وثقافية، وبالنظر إلى ثنائية الغنى في الموارد والعجز في التنمية التي لازمتها طوال عقود.
ويمكن إجمال الموضوع في  ما يؤكد معاناة المجالات الجبلية بجهة بني ملال خنيفرة عموما، إقليم خنيفرة خصوصا، من هشاشة اقتصادية، حيث أن وضعها التنموي «لم يرق بعد إلى المستوى المطلوب والمنصف، وغير معادل مع المناطق السهلية والساحلية على الأقل، بل أن واقع الهشاشة الاقتصادية يمكن اعتباره أقرب دليل على ضعف المبادلات التنموية المبذولة، وعلى غياب مقاربة ملائمة لتطوير وبلورة نموذج تنموي جبلي ناجع، يسمح بإعداد الموارد الترابية ويلبي حاجيات السكان بشكل مستدام، ويضمن عيشا كريما، بالاعتماد على ما تزخر به الجبال من غنى وتنوع المؤهلات والمقومات»، حسب الإتلاف المعني بقضايا الجبل.


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 09/01/2024