«موتشو» حسن أوريد والسياقات المتشظية 1/2

 

يبدو (أمين) أو (الموتشو) في هذا النص الروائي (1) ، كباحث عن سياق يكون له معنى، ويمكن الاطمئنان إليه، بالنسبة إليه على الأقل ؛ غير أنه كلما تقدم في البحث، وكلما نوع في مغامراته، كلما تأكد له أن الأمر يتعلق بسياقات متشظية، لا تلتئم إلا لكي تنفجر في وجهه من جديد، ويستمر الأمر هكذا حتى نهاية هذه الرواية ، أو هذه القصة الحقيقية، كما يقول السارد في خاتمتها : ( لم تكن رواية، وإنما قصة حقيقية، انعكست في حياة أمين، في تبادل أدوار بينه وبين الضمير المستتر ) (ص:428) . أتصور أن البداية الفعلية لهذا النص الروائي، إذا صحت العبارة، تكمن في لجوء (بنيس) إلى الصمت، صمت اضطراري، بفعل ما تعرض له من حادثة، ولكنه أيضا صمت نهائي ، (ص: 15_16_17) ، سيرهن مجريات هذه الحكاية، من بدايتها حتى نهايتها، لأن غياب (بنيس) غير المتوقع، سيحرم (أمين ) من شهادة غير عادية، لرجل غير عادي ، (يا للأسف أن يذهب صديق الشعراء والفنانين والأدباء والمناضلين ، من دون أن يفضي بتجربته …حادثة سير بليدة بعثرت كل شيء … كان هذيانه هو العوض عن فرصة من البوح ضاعت ، يمكن أن تكون سدى ذاكرة جيل ).هكذا فكر أمين (ص54) ؛ بنيس رجل (عاش المحطات الفارقة في العالم العربي منذ 48 …) (ص135) ، وهو (رجل يحيل لمرحلة من تاريخ منطقة أثرت في العالم بقدر ما تأثرت به…) (ص139) ، و(بنيس) هذا ، هو من ينادي أمينا ب(الموتشو) (ص17) ، وهو من تركته زوجته (سوليكا )، ورحلت إلى إسرائيل قبل تعرضه للحادثة (ص77) ؛ (بنيس) يهودي، وكان شيوعيا كما يذكر أمين (ص25) ، ويؤمن بالقومية العربية، ومنخرط فكريا ونضاليا في الصراع العربي الإسرائيلي (ص92) ، ولم (يكن بنيس يسفر عن رؤاه بشكل منتظم ، وإنما عبر لمع متناثرة، إلى أن وقعت الواقعة …وفقد الوعي …وضاعت شهادته ) (ص26) ، وصديقه (أمين الكوهن )، هو الآخر، من أصول يهودية ، (هيأ رسالة عن اليهود الذين حلوا من الأندلس ببلاد المغرب … ) (ص91) ؛ (بنيس وأمين) يجمعهما معا الاهتمام بقضية العروبة، يعتبرانها قضيتهما الأساس، (ولكنهما لم يريدا أن يطمرا البعد اليهودي الثاوي في وجدانيهما، حتى ولو أن أجدادهما تحولوا للإسلام . العقل فتح لهم الكوة المغلقة … لكن العقل أو العقلانية لم تكن ثقافة في العالم العربي ) (ص171) ؛ من أجل كل هذا وغيره، كان أمين يريد الإمساك بعالم بنيس الذي (عاش مراحله الفارقة، من 48 و67 …) (ص141) ، كان يريد كتابة مذكراته، كما أخبر بذلك الطبيبة ، التي تشرف على علاجه، والتي فاجأته باهتمامها بأخبار بنيس، وقولها (أريد أن أعرف المزيد عن السيد بنيس ) (ص23) ، كما أبدت بالموازاة رغبتها في الاقتراب من (أمين)، وربط علاقة معه ، حتى وهي ترتدي حجابا ، الشيء الذي جعله يحتار حول العلاقة بين ( الهوية التي يفصح عنها لباسها، وخطابها …) (ص57) ، ما يعني أن في الأمر لغزا، ستتأكد تفاصيله مع الأيام (ص86) ، من خلال مجموعة من المؤشرات يقف عليها (أمين)، من ذلك عناوين الكتب التي تعكف على قراءتها، والتي تتناول في مجملها ، مسألة اليهود والأسئلة التي تطرحها وضعيتهم ، بين القبول والرفض ككتاب «تأملات حول المسألة اليهودية» لسارتر (ص151) ، ما جعل أمينا يتساءل عن دلالة حجابها، وعلاقته بمسألة الهويات التي يكرهها (الهويات قابلة للانفجار، وكان أمين يدرك أنها اختلاق ) (ص157) ، ولا يجد لها معنى (عربي في المغرب يدافع عن العرب، ويزري بالأمازيغ ، أو أمازيغي في المغرب ، يهزأ من العرب، من لغتهم ودينهم، لعبة سهلة ومزجية ، تستعيض عن التفكير بالصراخ…) (ص158) ، فما الذي يعنيه هذا النوع من القراءات، وهذه الجملة، (محكوم علينا بالانتماء …) (ص159) ، وما موقع حجاب الطبيبة (نعيمة) هنا (ص160) ، وما دلالة ما سطرته في الكتابين (السجن اليهودي ) و(تأملات في المسألة اليهودية ) (ص174) ، وما دلالة الكتابة بحروف تيفناغ، في الصفحة الأولى من كتاب مكتوب بالفرنسية «غرير في الأرض المقدسة» لريجيس دوبري (ص220) ، ومن صاحب التعليق الآخر، المكتوب بالفرنسية ؟ ؛ سيخبرنا السارد بعد حين أن الأمر يتعلق بقارئ مجهول، هو صاحب المقاطع المسطرة (ص221) ، أو بالضمير الغائب في حياة نعيمة، صاحب الروح المسيحية، التي شدتها إليه، كما تقول (ص265) . من بنيس إلى نعيمة ، ما وجه العلاقة بين الاثنين؟ ؛ اللغز يكبر، و(أمين) يعجز عن اكتشافه، (قالت له ينبغي أن تكتشفني، ولم تساعده في شيء كي تسفر عن مكنونها، وما اكتشفه بطريقة نذلة، حين وقع على رسالة المجهول ، وقرأها وأدرك أن المجهول كان خليلا ) (ص291) ، ولكن، (كيف لمحتجبة أن ترتبط بعلاقة مع أمازيغي يحمل عمقا مسيحيا، ومتعاطف مع الصهيونية ؟ لغز ) (ص232) ، سيفهم أمين في ما بعد، أنه زوجها، وأن الرسالة التي عثر عليها في شقتها، هي له ، يعبر فيها عن علاقته بها، ويضمنها آراءه ، وينتقد فيها الغرب والعرب معا ، فيقول : (الغربيون شاخوا. معالم الوهن تدب فيهم ..أشعر بذلك …نحن المطرحة التي يلقي بها فضلاته … حداثة مقرصنة ) (ص234) . وبينما يحاول (أمين) أن يلملم لغز (نعيمة) ، في علاقة ما ب(بنيس) ، ستقفز إلى المشهد شخصية أخرى، ستزيد الفهم تعقيدا ؛ الأمر يتعلق بجارته التي ستتردد عليه، لتخبره هي الأخرى أنها يهودية مغربية ، (ص29) ، وأنها غادرت المغرب صغيرة إلى إسرائيل، وأنها تحمل اسم (إستير كوهن) (ص30)، هي الأخرى (لاتسفر إلا على الظاهر من حياتها ) (ص33)، وستجمعها مع (أمين) نقاشات مطولة حول قضايا عدة، من طبيعة فكرية وسياسية ، (ص49_50) يأتي على رأسها ، قضية الصراع العربي الإسرائيلي ، حيث تؤمن (إستير) بحق إسرائيل في العودة ، بينما يراها (أمين ) محتلة ، (ص68_69) ، وتنتقد ما تعتبره نزوعا حربيا لدى المسلمين ، (ص70) ، وترفض الإيديولوجيات، أو هكذا تريد أن تبدي (ص71) ، ويبقى ما يهم (أمينا) من كل هذا، هو أن يعرف حياة ( إستير في إسرائيل ، انخراطها مع تنظيم الفهود السود ، حياتها مع مامادو… تعتبر فلسطين أرضا لها، وتعيب على العرب رفضهم لدينامية التاريخ ، وتنشئ ابنها على الديانة اليهودية وتطلق عليه اسما عبرانيا …) (ص79) ؛ (أمين) مثل (بنيس) ، يفرقان بين اليهودية والصهيونية ، بعكس (إستير) التي ترى أن (الصهيونية هي الوجه الجديد لليهودية ) (ص92) ؛ يعرض الراوي شخصية (إستير) بما هي أطروحة، مناقضة لأطروحة (أمين)، أو مقابلة لها، فهما معا يطرحان الأسئلة نفسها من منظورات متغايرة حول موضوع دقيق بالغ التعقيد، كموضوع العرب واليهود وفلسطين، (ص122_123)، أو هكذا يمكن أن نقرأ ؛ تقول (إستير) : (في العمق محكوم علينا أن نتعايش، ولكن لا أدري كيف، لكم هي الأمور معقدة ) (ص191)، و يخبرنا الراوي أن لـ (إستير) ارتباطاتها الشخصية وتعقيداتها الحميمية التي سيظهر في ما بعد ، أنها تجل ، بشكل من الأشكال، الكثير من نزوعاتها الفكرية، من ذلك، علاقتها بالشخص الكتوم الذي استرعى انتباه (أمين) أثناء جنازة (بنيس)، أيكون هو حبيبها أو(صديقها الذي لم يعتن بها ..) (ص177) ؛ وبالنسبة (لأمين )، ومن وجهة نظر معينة ، تبدو إستير (مثل بنيس معبرة عن وضعية… موعد مخلف، أفضى إلى اضطراب، إلى غيبوبة في حالة بنيس، مع حالة تداخل الأزمنة، وتوزع بين العاطفة والإيديولوجية ، وإلى انفصام الشخصية في حالة إستير…) (ص47) ؛ ويتدخل السارد من خلف ، ليوسع دائرة الأسئلة ، المرتبطة بمسألة العرب والقومية بالنسبة (لبنيس) ، والمرتبطة باليهود والصهيونية بالنسبة (لإستير) : ( هل يكون بنيس معبرا عن العالم العربي، وإستير عن إسرائيل ؟ أم أنهما تعبيران عن واقع مغربي صرف، عن حالتين هامشيتين جرفتهما سرديتان قويتان ، القومية العربية بالنسبة إلى بنيس، والصهيونية بالنسبة إلى إستير ..) (ص47) ؛ قالت إستير لبنيس : ( نحن قلقون .. عدنا إلى طبيعتنا مع إنشاء دولة إسرائيل …وعاد إلينا القلق .. لأننا نرفض وصاية ياهو..) في إشارة إلى وجود مشكل هوياتي ، من طبيعة يتعالق فيها الديني بالسياسي (ص47) ، فبالنسبة لأمين (الصراع العربي الإسرائيلي ، قصة أسرة، نزاع تغلب عليه العاطفة الجياشة، وليس النزاع على الأرض إلا الجانب البارز منه.. هو نزاع من أجل الوجود ، ولكي يوجد الواحد ينبغي أن يجهز على الآخر.) (ص58) ؛ ويتدخل السارد ، ليقرأ أوجه الاختلاف بين حالتي بنيس وإستير على المستوى الفكري ، وخيبتهما معا على المستوى الشخصي ، ليقول : ( ألا يخفي هذا حاجة الإسرائيلي إلى الآخر ، كان الإسرائيلي قد حسم الصراع لصالحه، وأثبت قوته العلمية والتكنولوجية ، ولكنه يشكو فراغا وجدانيا يمتلك (العدو) جزءا منه …هذا (العدو) الذي يشبهه في تصوره الميتافيزيقي والقرابة اللغوية ، وأضحى جارا ولو باقتحام . غدا (الجار العدو) ضروريا لوجوده ..) (ص73) ؛ وفي حالة إستير يقول السارد (يرى أمين في إستير صورة إسرائيل ، تشعر بالاضطراب لأنها لم تحظ بالاعتراف … تريد أن تبعث شيئا هي من أقبره. هي من غادر وكانت مقترنة بحب ، وضحت بالحب من أجل الإيديولوجية ، ثم تبينت عبث ذلك ، وعادت تبحث عن الحب … حينما استعصى الحب )(ص76) ، ثم يضيف واصفا (إستير) بالعينة (التي تحمل تناقضات إسرائيل، التي نجحت في كل شيء سوى في اعتراف الآخر، الذي يمسك جانبا من ذاكرتها العميقة ، وهو الضمانة الأخلاقية لوجودها ) (ص76) . ربما كان ينتظر من (إستير) أن تساعد (أمينا) على فهم صديقه (بنيس) ، لكن الذي حدث أن (إستير) (أضحت هي موضوعا) (ص78) ، وفتحت الحكاية على مزيد من الأسئلة التي تحتمل الكثير من القراءات والتأويلات، حتى لا أقول الأجوبة . في الجزء الثاني من الرواية ، سيخبرنا السارد أن (أمينا ) سافر إلى إسرائي ، على سبيل التوهم والحلم ، بدعوة من معهد (موشي ديان) (ص303_304_305) ، وربما أيضا للبحث عن ذاته وموضوعه، وسط كل هذه التشظيات ، والتقاطعات التي تنتظر تفسيرا، كما يمكن أن نقرأ ؛ وفي إسرائيل، سيتم تقديم (أمين) كوجه من وجوه التغيير في العالم العربي (ص314) ، وسيلقي محاضرة يتحدث فيها عن (بنيس) و(إستير) ، ويؤكد فيها على المصالحة (ص315_316) ، وينتقد العالم العربي (ص316_ 317) ، ويصف موقف المغرب بالتلفيق (ص319) ، وفي المقابل سيعبر عن سعادته بالتواجد في إسرائيل (ص320) ، ويشيد بديمقراطيتها (ص321) ؛ وفجأة ، سيكتشف مع (ريبيكا) الفتاة التونسية ، التي تشتغل بالمعهد ، أن الأمر ليس كما يعتقد، وأن عنف إسرائيل ثابت.قالت له 🙁 هي دولة أبارتيد ..)(ص343) ، و(أن حل الدولتين (كلام فاضي) والحل هو دولة علمانية .. (ص335) ؛ بدا أن (ريبيكا) ، بعثرت أفق انتظار أمين ، وأربكت اتساق أفكاره، ما العمل (هل يستطيع أمين الكلام الآن فصاعدا وقد حل بإسرائيل ؟ من سيستمع له …) (ص314) ، هل يمكنه ( أن يزعم التوفيق بين الدفاع عن الفلسطينيين، وربط علاقات مع إسرائيل ) (ص342_343) . وابل من الأسئلة الوعرة ولا جواب ، لا جواب حتى في الحلم، ما يعني صعوبة صياغة الأجوبة . ينهض (أمين) من نومه (حلمه) ، ليتذكر رحلته مع نعيمة إلى ضريح (سيدي بوحصيرة) ، (ص368_369) ، حيث سيفهم يهودية (نعيمة) (ص386إلى391) ، كما سيفهم لغز الرجل (الراهب) في حياتها (ص400إلى406) ، هذا الرجل الذي ارتبط بالكل، بنيس ، نعيمة ، إستير(ص413) ، وسيخرج (أمين) ظرف (إستير)، ويقرأ فيه علاقتها بالضمير المستتر، الرجل الذي أحياها، وليس كما تقول نعيمة (ص420) ، أو (راشيل ) على الأصح ، اسمها الجديد ، هويتها الجديدة ، أو القديمة التي استرجعتها الآن (ص424) ، وهي تستقر بإسرائيل (ص425) ، في مقابل عودة (أمين ) إلى بلدته فاس ، لينتهي كل شيء ، أو ليبدأ كل شيء من جديد ، كما يمكن أن نقرأ ، وكما يقول السارد : (ربما كان للأمور أن تأخذ منحى آخر لو أن أمينا لم يحترم وصية إستير، وقرأ الدفتر لما سلمته له … ربما كان أداة في مصالحة إستير والضمير المستتر. لم يكن الضمير المستتر يقدر أن تذهب إستير من غير رجعة ، ولم يكن أمين يتوقع أن ترحل نعيمة ، أو راحيل . يشترك والضمير المستتر في اللعنة ذاتها . نسي بنيس . هو كذلك يحمل اللعنة ذاتها .) (ص427) . يبدو في الأخير، أن أمينا في علاقته بنعيمة، أعاد في نهاية الحكاية، بشكل من الأشكال ، سيرة (بنيس) في علاقته ب(سوليكا ) ، دون إحداث تغيير في العمق ، وربما أيضا لعدم إمكان ذلك ، الآن على الأقل ، زمن كتابة هذه الرواية .


الكاتب : ابراهيم أقنسوس

  

بتاريخ : 08/12/2023