موت العنوان في القصيدة المغربية المعاصرة

من المؤكد أن العنوان باب عمارة النص، بل إحدى ركائز المعنى الأساسية والبحث عن الفهم، ولا يكاد القارئ يترك مجالا لانفلات العنوان من إسقاطاته أو التمنع من تمثلاته، يُؤخذ بشكل تعسفي ما دام كائنا اصطناعيا، إنه قطعة أثرية موجهة للاستقبال والتعليق (1) ، وإلا لمَ العنوان إذا لم يكن المراد منه توجيه المتلقي إلى فهم ما، أو ترك مجاله مفتوحا للتأويل سواء في النصوص الشعرية أو غيرها، ولا شك أنه عتبة أولى لا يمكن القفز عليها وتخطيها خلال عملية “خلق الفهم” أو الإدراك، أو أردنا دخول النص حتى إذا كان غرضنا مجرد دخوله لا غير، إن أول ما يلاحظه القارئ هو العنوان باعتباره نواة الخلق وأساس بنية النص شكلا وروحا.
ومنذ فجر وعي الكتابة بإمكانات وعمليات التحليل والمعنى، كانت ولا تزال العنونة ذات أهمية كبرى أولاها النقد عناية خاصة ولافتة، لاسيما النقاد الغربيين، لكن مع تجدد أنفاس الحضارة وجوهرها، تجددت حمولات العنوان وخلفياته، كما تجددت حياته وموته..وفي الشعر، نعتبر النظر إلى العنوان بصفته حياة وموتا، هو النظر إلى تجربة الحياة والموت في ذاتها، غير أنها انطلقت هذه المرة لا من ذات الشاعر وفقط، ولكن من المعنى، من المركز.

أيهما الأصل إذن، أيهما المركز، القصيدة أم العنوان؟ العمارة أم الباب؟ أم الشاعر؟

لعل طرح هذا السؤال يقربنا من مسألة هامة قد تتماشى وتصورات الراهن شعرا وحضارة، هي مسألة التيه والشتات والتشظي والغموض التي يموج فيها الشعر المغربي، وإلا لن يكون غياب الإدراك أبدا، ولن يكون الهروب إلى تشكيل فهم جديد نواته الاضطراب داخل أنفاس الشعراء ووجدانهم، فالإحساس بغياب الأصل والمركز، أدى إلى انبعاث روح أخرى تقوم على مبادئ التشكيك من جديد..
ولذلك قد ننتقل من فكرة موت المؤلف إلى ما يمكننا أن نصطلح عليه، موت الأصل، وحتى إذا لم نستطع تجاوز المبدع، ولا نظن أننا نتجاوزه قطعا، فإنه، بتعبير بارث نفسه، بديل المتسول (2)، أي الكاتب يتسول المعنى، والمعنى هو المركز، أما إذا اعتقدنا أن العنوان حمال معنى فسيكون الأصل أو القصيدة مركزا إذا سلمنا أنها جسد المعنى وروحه، وما دام كلاهما يعيش التيه وغياب الفهم والإدراك، والتوجس والاضطراب واللامعنى، أضحى هذا الأخير وحده المعنى في غالبية الشعر المغربي، وبالتالي يصعب أن نشير إلى جانب معين من القصيدة ونقول إن هذه بؤرة الفهم، أو أن العنوان يقدم إدراكا ما يعكس جوهرانية الكتابة، أو أن الكتابة – بشكل معكوس – هي من تقدم معنى للعنوان، لذلك فإن تحديد نقطة انطلاق سيرورة الإدراك في الشعر المغربي مبهمة، ما دام المعنى ذاته – الأصل، تائها في سماء البلاد.

هل يعد الشاعر مركز القصيدة؟

حتى وإن كان، فالبنيوية قتلته منذ أزمان تلت وحاولت إخماد الخارج، ولكن الرفض غالبا يكون أساس القبول، فرفض حضور المؤلف في النص هو في حد ذاته إيحاء على كون الكاتب يشكل سلطة فكرية داخل النص، فاتجهت للبنية باعتبارها الأصل والمركز، وحاولت إحياءها من داخلها، غير أن الراهن بكل اضطراباته يروم إلى كون المعنى – سواء في الموضوع أو في الشكل أو في المؤلف، هو مركز الكتابة، والمعنى مخفي في كتابة الراهن، تائه أو انعدامي في كل ما سبق.
إن عبارة ” التصدي لمفهوم الأصل (3) ” تكاد تكون سمة من سمات النص الشعري المغربي، ونحن نقرأ كتابات الراهن – كتابات الألفية الثالثة، محاولين القمس في قشورها ولُبَابِها، وإيجاد السبيل إلى منابع الأصل فيها التي يمكن أن تقدم لنا فهما ما، حتى نجد أنفسنا نصل، يدا بيد مع الشعراء، إلى الطريق المسدودة. وبالتالي نستطيع القول إن الحالة التي يعيشها الشاعر من ” فقدان الهوية وجوديا وثقافيا ” تعيشها القصيدة ككل، بما فيها العنوان.
أما إذا اعتبرنا العنوان هوية القصيدة وبذرتها ودلالتها، ونحن أشرنا في الفصل السابق من هذا الكتاب أن هوية الشاعر مصلوبة، متشتتة داخل أرضه البيولوجية والرمزية، فكيف ستكون كتابته، أو هل يستطيع أن يمنح للقصيدة معنى / هوية من فراغ؟
إن مسألة العنوان داخل القصيدة المغربية تعرف بعض التحول على مستوى الاختيار والممارسة، فكثير من العناوين الموضوعة، لم تعد تستجيب لما كان متداولا في السابق من مبادئ العنونة المعروفة، مثل الدلالة والإثارة وحسن التركيب وتبئير المعاني… غير أن عنوان القصيدة المغربية أصبح أكثر عمقا من كل ذلك، ويذهب بالتفكير التأويلي إلى مزيد من الشك غير المحدود، بحيث لا يقدم إجابة صريحة لأسئلة معتقة من رحم الراهن، أو حتى أسئلة ترتبط بالكتابة الشعرية ومغزاها الدلالي أو إشارات تميل إلى وضع المتلقي داخل إطار إدراكي مرسوم الحدود.
العنوان أيضا يعيش حالة من المنفى كما الشاعر، إنه منفي عن جسد القصيدة المعاصرة، وهما غير متجانسين ولا متشاكلين، وهذا الأمر يجرنا إلى مزيد من الشك والطرح من جديد، لقد سبق وأشرنا إلى كون الشاعر يعيش واقعه المجازي ويحيا به، وتلك حالة من المنفى والانفصال عن الواقع طوعا أو قسرا، بعدما لجأ إلى الراهن استنجادا بإشارات تقدم معنى لما يحدث، وفي طريقه الأخرى يبحث عن معنى وسط أفق الآتي الملغوم، وكلاهما طريقان مسدودان. ومن جهة، أوصلنا الشك إلى كون العنوان والقصيدة بينهما قطيعة إدراكية، وفي كثير من الكتابات الراهنية نجد أنفسنا أمام نصين أو أكثر لا نصا موضوعيا واحدا. فهل تكون القطيعة بين الشاعر والراهن والآتي، هي نفسها بين العنوان والقصيدة والمعنى؟
إن هذا التقابل من شأنه أن يضعنا على حافة فهم كيفية تشكل القصيدة المغربية المعاصرة، إذا كان الشاعر على رأسه نار السؤال، فالعنوان على رأسه نار التيه، وإذا كان الشاعر يعيش غربته الجديدة وقد اختار فيها أن يكون منفيا، فكذلك العنوان المغترب عن القصيدة، المنفي عن جسدها المنهك بالاضطراب والتشظي خارجا وداخلا..
ثم إن من العناوين من يحملها أصحابها أسئلة كبرى، ففي كثير من الكتابة الشعرية المعاصرة يأتي العنوان في ثوب السؤال، ولكن القصيدة لا تستطيع أن تمنحه جوابا يشفي غليله، وكأنها صورة أخرى للشاعر مع واقعه، حاضره وغده.. نجد مثال ذلك في المجموعة الشعرية “الآتي المؤجل” للشاعر م. إدريس أشهبون، فقد عنون قصيدة له هكذا “من يبالي؟4”  غير أن النص لم يأت بنصف الجواب، ولكن بالابتعاد عن السؤال ما دام لا فهم في واقعنا من منظور شعري، كائنا أو يقترب من ذلك، بل إن النص من جهة ثانية حاول تعميق السؤال من جديد لمزيد من الغربة الدلالية، لمزيد من عزل العنوان في منفاه التساؤلي الكبير، فيقول الشاعر بعد سطر العنونة مباشرة :
الطائر يموت..
برصاصة، أو بشرك منسي..
قد يموت.. 5
وفي المقطع مزيدا من السؤال، بل مزيدا من الشك في نفس الآن، الإقرار بموت الحرية، أو الرأي، أو التفكير… من جهة، ولأن الآتي ملغوم لا أفق فيه مفتوح، يزيد من احتمالية المصير والخلاص الديستوبي الكبير، قد يموت، الآن وغدا، أو هنا وهناك… ولكن الذي يهم هو الطرح، هل يظن الشعراء المغاربة، أن ثمة أجوبة لتساؤلاتهم، أو يكتفون بالسؤال ويكون في حد ذاته جوابا كاملا؟ والكتابة ممتلئة بالأسئلة والشكوك، لتدفع معنى القصيدة الذي يكون حتما العنوان طرفا في صناعته، إلى مزيد من الضبابية والتشتيت، وإلى مزيد من المنفى والضياع والعدم.
ولم يكتف الشاعر بهذا السؤال أو ذاك، بل ثمة عدد من النصوص من نفس المجموعة الشعرية، أتت عناوينها على صيغة السؤال، مثل “لما لا أستطيع؟6”  ونص آخر بعنوان “بأي حال عدت؟7″ .. وتكون مراميها – في الغالب – بسط جراح الذات والواقع والمعنى، ثم ترجمة تجربة العزلة والمنفى الجديدة المنبثقة من راهن الذات إلى راهن الكتابة، إن الشرخ الحاصل بين العنوان الذي يحمل مكانة ” الاسم ” أي الذي به تسمى النصوص، وبين النصوص نفسها، حاصل من جهة أخرى بين الشاعر وذاته.
إن القصيدة المغربية المعاصرة قصيدة إنسانية، والنظر إلى أن أحوالها بمثابة النظر إلى أحوال الحضارة، فلا بد إذا أحسسنا بوجود شرخ أو كسر ما في الذات أو في التاريخ، فإن القصيدة تحدث كسرا بين مكوناتها المتبقية على قيد الحياة، والقصيدة كائن مخلوق بيد الشعراء والحسرة تكبل جماح أجنحتهم الملتهبة، وبذلك كيف تكون الكتابة، إلا مكبلة أيضا.
نكاد نقول إن بين عنوان وكتابة الراهن، هوة عميقة بحجم هوية الإنسان مع واقعه التقني من جهة، وواقعه المتمرد الرافض من جهة أخرى، فالتمرد لم يَعُد لصيق الوزن أو النظام الكتابي العام، ولكنه تمرد الكتابة على الكتابة والواقع على الواقع، وكأن القصيدة ترفض أن تكون لها تسمية ملغومة لا تربطهما أية صلة سوى التشظي الداخلي والبراني، فتمارس التشظي نفسه على ذاتها. إننا نجد من العناوين ما هو خارج على القصيدة، في حالة من العزلة والقتامة وانسداد الآفاق الرامية إلى الفهم والإدراك، ومع ذلك، فإن هذه الممارسة الشعرية دافع لمزيد من البحث والتشكيك في، لماذا الاضطراب؟ وهل يمكننا أن نستقر على معنى ما لما يحدث، نقنع به أنفسنا على الأقل؟
ولكن، “هل حقا يهم؟ 8″، كما تتساءل الشاعرة فدوى الزياني في عنوان وضعته هكذا، لم تعد لشيء أهمية ما دامت الركيزة الأساسية مصلوبة، الإحساس بالانتماء الوجودي الكامل، فكرا وممارسة.. فكل ما يحدث من الضبابية لا يهم، سواء ضبابية الخارج أو الكتابة، ضبابية القصيدة أو العنوان، بل المعنى أيضا لم تعد له مكانة في ظل ما هو مشهود راهنا، الحضارة الجديدة منحت الشاعر حق الوصول إلى اللامعنى والتشتيت وتبنيه في ذاته المعنى الأوحد، ومن خلاله تنطلق المسيرة الصاخبة للبوح والشك والسؤال وترجمة الشروخ الكبرى كتابيا… وفقد الهوية بمعناها الابستيمي هو الموت، ولذلك تقول الشاعرة في مقطع من نص “هباء” :
نحن الموتى
الموتى منذ آلاف السنين 9
وقد ظهر هذا الموت الهوياتي الجديد وطرأ على القصيدة، ذلك بقتل العنوان سواء على مستوى المعنى والانتماء لجسد النص، أو على مستوى اللغة والمعجم الدلالي، لقد باتت اختيارات الألفاظ محملة بهموم الأسى والحسرة، بأشكال مسدودة وبمنفى تتجمع فيه أفكار الشعراء التي يحاولون أن يحيوها، وفي كتابة فدوى الزياني مجموعة من العناوين من هذا القبيل، نجدها تعنون نصوصها في الغالب بملفوظ واحد، مثل : هباء – عطش – سؤال – ذهول – غروب – غرق … تقدم من خلالها دلالات على التيه والتشظي نفسه الذي يعيشه الشاعر وتعيشه القصيدة.
لعل القصد بموت العنوان، وبما أنه هوية القصيدة من حيث الشكل بحمولته الإسمية التعريفية التي يقدمها للنص، أو من حيث الحمولة الوجودية التي يمنحها له، تماما كما أية ولادة، فإن ما يتلقاه المولود أول أمره هو الاسم / العنوان، حينها يمكن أن يكون له وجود ما عن طريق النداء، ثم الالتفات، غير أن الشعراء اليوم، وفي غالب كتاباتهم، يقرون بالشرخ بينهم وبين ذواتهم، فذلك راجع إلى فقدان الشعور بالهوية لما يكون الواقع أشد تسلطا لا يستجيب لأفكار يعتقدون أنها الضوء، بل يمارس الاضطهاد والرفض والتنمر والقمع، وحين يكون الشاعر/ الإنسان وسط هذه البؤرة التجريدية من الانتماء، ترافقه الكتابة. وتتجرد من انتمائها وهويتها الإسمية، سواء في اللغة أو في الدلالة والفهم، فكلاهما – الشاعر والقصيدة – يعيشان حالة من موت الهوية … تقول فدوى الزياني في ” أسبق النهر بخطوة ” تحديدا في قصيدة منحتها تسمية قد تدل على هذه السمة ذاتها، الموت الهوياتي شعراء وشعرا، هي قصيدة بعنوان ” موت الشعراء “، فيها تقول :
هي القصائد وإن طالت لا تمنح رفاقها بيوتا
رفاقها لا يموتون 10
إلى أن تقول في آخر النص من الصفحة ذاتها ما يناقض هذا البوح :
الشعراء رؤوس معلقة على رماح الانتظار
مشبوهون منذ الولادة
موتهم مؤكد.
نلاحظ هنا في بداية القول شيئا من التصريح بالانعزال وحالة المنفى التي يعيشها الشعراء جراء فقدان الشعور بالانتماء، فالعنوان أكد موت الشعراء، غير أن النص يرى العكس في بداية الكتابة، الشاعر لا يموت، بل يظل يناصر المشردين والمباحة دماؤهم والمصلوبة أعناقهم.. ولكن الشاعرة عادت لتقر بالموت الحتمي، فبين العنوان والنص شرخ هو الاضطراب نفسه الحاصل بين الذات وواقعها الإدراكي، هذا الشرخ تمثل في الانتقال من الموت إلى الحياة، إلى الموت مرة أخرى، ثم إلى الخوف.. وهو منزلة بين الحياة والموت.
هذا وإن غياب المعنى التام في واقع الشاعر، غائب بدوره في القصيدة ولا يجمع بينها وبين عنوانها بشكل مطلق، بل ثمة غالبا لفظ يفرق بين ما قد يوحي إليه العنوان من فهم، وبين الفهم في النص من ناحية أخرى، وكذلك الشعراء. إن الحالة هذه، على ما تحمل من تيه وغموض، هي ما تبقى لهم من المعاني، فأرادوا مصاحبتها، مصاحبة المنفى على مستوى الشعور، والموت على مستوى الكتابة، ونجد في المجموعة الشعرية نفسها للشاعرة الزياني عنوانا يعمق هذا الجرح، لقد عنونت نصا بـ “أيها الموت.. كن صديقي11” ، وتلك محاولة لخلق المعنى أو الفهم من فنائه أو من عدمه.
إن موت العنوان على المستوى الثقافي الرمزي، هو موت الهوية طبيعيا، وكلاهما، كما سبق وأشرنا من قبل، خطى تُعَجل بالبحث عن إدراك جديد يتلاءم والحضارة الجديدة التي قلبت التمرد من الشعر على الشعر، وذلك من مناحي عديدة، بل حتى من جانب القراءة والتلقي. فالشعور بالوحدة العميقة دفع الشعراء إلى مزيد من التأويل، ولما وصلوا إلى تخوم غير مفهومة، سواء ذاتا وواقعا أو آتيا، انسلخوا من الإحساس بالانتماء، وكذلك القصيدة، سايرت هذا الانسلاخ من ذاتها، ومن عنوانها الذي طالما دل على التيه نفسه لا على الكتابة التي تبحث عن إدراك أو معنى.

(°) ناقد وشاعر، من أعماله
“أزهار أرض باخوس”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
1-Gérard jeunette : seuils, éditions du seuil, paris 1987 p : 54-55
Roland Barthes: plaisir du texte, seuil, 2-paris , 1973 p: 40
3 – جاك دريدا : الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمد علال سيناصر، دار توبقال للنشر، ط 2 سنة 2000، ص 30.
4 – مولاي إدريس أشهبون : الآتي المؤجل، منشورات مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام، ط 1 عام 2017 ص 28
5 – مولاي إدريس أشهبون : الآتي المؤجل، نفس الصفحة.
6 – نفسه، ص 76.
7 – نفسه، ص 98.
8 – فدوى الزياني: أسبق النهر بخطوة، منشورات مرسم، ط 1 عام 2015، ص 86.
9 – فدوى الزياني: أسبق النهر بخطوة، ص 87.
10 – نفسه، ص 61.
11 – نفسه، ص57.


الكاتب : أيوب كريم

  

بتاريخ : 25/06/2021