ميخائيل غورباتشوف…الإمبراطور الأخير

ثلاثة أيام هزت سلطته، وعجلت برحيله وبانهيار الاتحاد السوفييتي

 

مساء الثلاثاء 30 غشت 2022، أغمض ميخائيل سيرغييفتش غورباتشوف عينيه لآخر مرة، مودعا هذا العالم وهو في الحادية والتسعين من عمره، قضى ست سنوات منها على رأس إمبراطورية شاسعة، هي الأكبر مساحة في العالم، كانت تتكون من 15 جمهورية ذات حكم ذاتي، وكانت تمثل قوة عسكرية مرعبة ومرجعا إيديولوجيا للملايين في بقاع العالم، الذين كانوا يعتبرونها البديل الإنساني والسياسي عن الغرب الرأسمالي الإمبريالي.
لكن سيكون قدر غورباتشوف أن يقضي آخر ثلاثة عقود من حياته وهو يتذكر ويستعرض كل تلك السنوات التي قضاها على رأس ثاني أكبر قوة في العالم، وكيف سعى إلى تحديثها وإصلاحها، وكيف انتهى كل ما نظّر له وما سعى إلى تطبيقه إلى فشل ذريع انتهى بانهيار الإمبراطورية، بل فرض عليه أن يكون هو من يعلن نهايتها.
في 19 غشت 1991، وقع انقلاب عسكري سعى من قاموا به إلى الإطاحة بغورباتشوف من اجل «إنقاذ الاتحاد السوفييتي العظيم» من الانهيار، لكنهم سيعجلون فعلا بانهياره، وكانت وقائع مثيرة هزت العالم كله، وأعادت وفاة غوربتشوف إلى الأذهان ما حصل قبلها وبعدها، وما بقي من أسرار عالقة ربما لم يحن الوقت للكشف عن كل الملابسات المحيطة بها.
في تلك السنوات كنت أدرس بالاتحاد السوفييتي، وصيف سنة 1991، لم أعد إلى المغرب لقضاء العطلة كأغلب زملائي المغاربة والأجانب، فصرت من الطلبة الأجانب القلائل الذين حضروا وقائع الانقلاب العسكري وما تلاه خلال تلك الأيام العصيبة، ودونت بعض الملاحظات مما كنت أراه وأتابعه عبر وسائل الإعلام، ونشرت ذلك عبر سلسلة في الجريدة، تحت عنوان» عشت هناك…آخر أيام الاتحاد السوفييتي» ومن بين ما تضمنته هذه المعطيات المتعلقة بالانقلاب، ما سبقه وما تلاه، وما أدى ذلك إلى نهاية حكم ميخائيل غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفييتي.

 

في يوم 19 غشت 1991، صحونا على وقائع خبر مثير لم يكن متوقعا، الدبابات انتشرت في الشوارع، قيادة جديدة للبلاد تعلن شغور منصب الرئاسة واستلام السلطة..في البداية توقعنا أن ذلك حدث في إحدى دول العالم الثالث التي كانت الانقلابات العسكرية شيئا مألوفا فيها، لكن ما هي إلا لحظات حتى سنعلم أن ذلك يحدث بالقرب منا، أن الدبابات نزلت إلى شوارع موسكو، وأن ميخائيل غورباتشوف لم يعد رئيسا ولا زعيما للاتحاد السوفييتي.
قبل ذلك بعدة أشهر عشنا على أجواء التوتر الذي ازداد حدة، كان نجم غورباتشوف قد بدأ في التراجع لصالح نجم آخر، شكل صعوده بداية النهاية للاتحاد السوفييتي، وهو بوريس يلتسين. في يونيو انتخب يلتسين بأغلبية ساحقة رئيسا لفيدرالية روسيا وذلك منذ الدورة الأولى، وكان غورباتشوف في تلك الأثناء يقاتل من أجل الحفاظ على ما تبقى من هيبة لدولة على حافة الانهيار. كنا نراه في جلسات مجلس السوفيات الأعلى، أعلى هيئة تشريعية في الإمبراطورية، أو اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، يتحدث مطولا عارضا الحجج وراء الأخرى، من أجل إقناع المستمعين بمبادرات عدة ما يلبث أن يدير ظهره إليها، ويعرض أخرى متناقضة.
في تلك الأثناء وصلت الأزمة المعيشية إلى مستوى لم يعد من الممكن تحمله، جميع المواد التموينية تقريبا أصبحت تباع ببطائق التموين، والعديد من السلع أصبحت نادرة .كان الجميع، من غورباتشوف إلى منتقديه، يعترفون بالوضع المتأزم لكن لا أحد كان يعرف كيف يمكن تجاوزه.
ازدادت حدة الصراع بين من كانوا يسمونهم بالمحافظين ومن من أطلقت عليهم صفة الانفتاحيين أو الإصلاحيين، ووقف غورباتشوف في الوسط، يحاول أن يلعب دور الحكم، يخيف هذا الطرف بالآخر، ويتحالف مع هذا ضد ذاك، في سبيل تمرير مشروعه، لكن المتصارعين ما لبثوا أن اقتنعوا بعدم صلاحيته كحكم فأصبحت رأسه مطلوبة.
كانت الأصوات بدأت ترتفع مطالبة بتنحيته كحل وحيد، لكن لا أحد قدم البديل..وعندما انعقد اجتماع للجنة المركزية واستطاع إقناعها بضرورة التخلي عن الماركسية الليلينية ، كان دون أن يدري، يدق آخر مسمار في نعشه، لأن المحافظين بدأوا يتحركون بقوة من أجل إبعاده بأية وسيلة.
زاد من تأزم الوضع إقدام ألكسندر ياكوفليف، منظر البيريسترويكا، على الاستقالة، كان ياكوفليف أقرب مستشار إلى غورباتشوف، والأب الروحي للبيريسترويكا، لكنه اقتنع في الأخير أن رفيقه القديم لم يعد صالحا للاستمرار على رأس الدولة والحزب.
حاول غورباتشوف جاهدا الحفاظ على ما تبقى من « الاتحاد العظيم» ودعا إلى معاهدة اتحادية جديدة، تقرر التوقيع عليها في 20 غشت، وذهب لقضاء عطلته في القرم في انتظار ذلك الموعد.
لكن قبل ذلك بيوم وقع ما لم يكن أحد يتوقع حصوله، حين تحركت الدبابات في محاولة لحسم نزاع استمر مدة طويلة.
أذيع بيان أعلن عن تشكيل «لجنة الدولة لحالة الطوارئ»، لقيادة البلاد، وضمت في صفوفها كلا من غينادي ياناييف، نائب رئيس الاتحاد السوفييتي، فالنتين بافلوف، رئيس الوزراء، بوريس بوغو، وزير الداخلية، ديميتري يازوف، وزير الدفاع، فلاديمير كريتشكوف، رئيس جهاز المخابرات كا جي بي، أوليغ باكلنوف، النائب الأول لرئيس مجلس الدفاع، فاسيلي ستاردوبوتسيف، رئيس اتحاد الفلاحين، ألكسندر تازياكوف، رئيس رابطة مؤسسات الدولة.
أعلنت لجنة الطوارئ أن غورباتشوف أصيب بمرض وأنه استقال، وعن تعيين نائبه غينادي ياناييف خلفا له طبقا لمنطوق الدستور. لم تكن الحيلة لتنطلي على أحد فقد ظهر غورباتشوف قبل أيام معدودة وكان في كامل صحته، . أشار البيان إلى إعلان حالة طوارئ بالبلاد لستة أشهر وإلى دعوة مجلس السوفيات الأعلى للانعقاد في غضون أسبوع للمصادقة على القرارات الجديدة.
لكن ما أن أذيع ذلك، حتى أعلن العديد من زعماء الثيار الآخر رفضهم، وعلى رأسهم بوريس يلتسين، الذي سيسارع لى تسلق دبابة كانت تحاصر البرلمان الروسي ليعلن رفضه الانقلاب ويطالب بالعصيان المدني لمناهضته وإفشاله.
في المساء عقد ياناييف ومجموعته ندوة صحافية بثت مباشرة. كان واضحا أن ياناييف ثملا وكانت يداه ترتعدان. إحدى الصحافيات سألته بكل شجاعة، «لا أحد يصدق ما ذكرتم حول مرض غورباتشوف، لماذا لا تعلنون صراحة أن ما أقدمتم عليه عبارة عن انقلاب عسكري؟» بدا كما لو أن ياناييف أخذ على حين غرة، وكانت إجاباته متناقضة، في اليوم التالي وفي الوقت الذي بدأ فيه يلتسين يتحكم في الوضع ويكسب دعم الغرب، انضمت لينينغراد، سان بطرسبورغ حاليا، بقيادة رئيس بلديتها أناطولي سوبتشاك، إلى يلتسين ونظمت مظاهرة ضخمة منددة بالإنقلاب.
كان التلفزيون يعرض كل ذلك، لكن أغرب ما رأينا كانت صور الأطفال وهم يتسلقون الدبابات، وجموع المواطنين تتحدث إلى الجنود. إحدى السيدات كانت في حالة هستيريا وحاولت أن تهجم على جندي شاب، وهي تصيح «هل ستطلقون النار علينا، هل ستقتلون أمهاتكم وأخواتكم». المسكين لم يدر ما يفعل وحاول تهدئتها قائلا : كلا لن نقتل أحدا. ولإقناعها أراها رشاشته الفارغة دون أن يدرك خطورة ما يفعل.
في الخارج كانت المواطنون والأجانب يشترون كل ما تمكنوا منه تحسبا لما يمكن أن يحصل، فيما كانت الجموع المؤيدة ليلتسين تزداد، حيث تحول البرلمان الروسي والساحة المجاورة له إلى معقل لمناهضي الانقلاب، وأعدت المتاريس تحسب لهجوم مفاجئ، حيث استعان المناهضون للانقلاب بالحافلات والشاحنات وقوالب الحديد لوضع متاريس حول البرلمان.
في محاولة لوضع حد للتمرد، أعلنت لجنة الطوارئ عن حضر التجول في موسكو من الحادية عشر ليلا غلى الخامسة صباحا، لكن الوقت كان قد فات، إذ ازداد المتظاهرون تصميما، وأعلنوا استعدادهم للمواجهة، بعد غروب الشمس، سينتبه القادة الجدد متأخرين إلى ضرورة قطع التيار الكهربائي وخطوط الهاتف عن البرلمان أو « البيت الأبيض» كما كانوا يدعونه، لكن مرة أخرى، لم يكن له أي مفعول.
في الليل أعطيت الأوامر للدبابات قصد اقتحام الموقع، حاولت جاهدة وواجهها المتظاهرون وسقط ثلاثة قتلى…وعندما استيقظنا الصبح كان واضحا أن ياناييف ومجموعته بدأوا يبحثون عن مخرج، وسرت أنباء عن محاولات البعض منهم الاتصال بغورباتشوف، لكن يلتسين سبقهم وأعلن أنهم اتصلوا بغورباتشوف وتحدثت أنباء أخرى أن لجنة مكونة من عدة شخصيات توجهت بالفعل للقائه .
لم تمر سوى ساعات قليلة حتى انتهى كل شيء، اعتقل أعضاء لجنة الطوارئ واحدا إثر الآخر، وانتحر وزير الداخلية بوريس بوغو رفقة زوجته، أما غورباتشوف فعاد إلى موسكو مظفرا، ولكن ليس لوقت طويل، لأن يلتسين عقد العزم على استثمار فشل الانقلاب لصالحه.
عاد غورباتشوف إلى موسكو ووقف أمام كاميرات التلفزة ليخبر العالم بما حصل، ولم تفته إذاعة شريط فيديو سجله سرا، بمساعدة زوجته وابنته، خلال الأيام الثلاثة التي شهدت احتجازه بالقرم، وكان، كما ذكر، يريد أن يشهد العالم أن قصة مرضه وتنازله عن السلطة مجرد افتراء، مضيفا أنه كان يتوقع أن يقدم الانقلابيون على اغتياله، فسجل ذلك الشريط لفضحهم.
في ندوته الصحافية، قال غورباتشوف بأنه بعد أن أصبح حرا اتصل بقادة الدول الغربية ليبلغهم امتنانه لوقوفهم جنبه خلال تلك الأزمة، وذكر بالاسم جورج بوش، جون ميجر وفرانسوا ميتران، لكنه أضاف باستهزاء أنه لم لكنني يتصل بمعمر القذافي أو صدام حسين…ردا على ما قيل إبانها إن بعض الدول التي كانت حليفة سابقا للاتحاد السوفييتي أو مقربة منه، ساندت الانقلاب.
لم يقدر لغورباتشوف الاستمتاع بانتصاره طويلا…وكانت جلسة البرلمان الروسي التي انعقدت بحضوره، في اليوم التالي، الفصل الأكثر غرابة. بدأ يلتسين بأن فاجأه أمام كاميرات العالم كله بورقة وضعها أمامه، تتضمن وقف نشاط الحزب الشيوعي السوفييتي في روسيا، وبدأ يشير بأصبعه وهو يخاطبه، كما لو انه أستاذ يعطي الأوامر لتلميذ. لم يستطع غورباتشوف، المعروف ببرودة أعصابه، أن يخفي توتره، كانت تلك فقط البداية، فمباشرة تعاقب على الميكروفون عدد من النواب انتقدوه بشدة وحملوه مسؤولية ما حصل، بل إن أحد النواب الشباب قال له بالحرف» لقد أثبتت هذه التجربة أنك لا تستطيع الاستغناء عنا لكننا نستطيع الاستغناء عنك، هل فهمت هذا، هل فهمته يا ميخائيل سيرغييفتش»
بدا غورباتشوف مثل كرة البليار يتقاذفونها واحدا تلو الآخر، في محاولة لوضعه في الحفرة وإسدال الستار عليه…لم يقع ذلك اليوم لأن يلتسين كان يمسك بعصاه مستمتعا بمشاهدته وهو يترنح من هذا الطرف إلى ذاك، في انتظار الفرصة الموالية ليتقدم الصفوف ويوجه له الضربة الحاسمة، ليعلن بعدها انتهاء الجولة وانسحاب المتفرجين.
قبل ذلك كان يلتسين قد تخلص من خصم عنيد وهو أناطولي لوكيانوف، رئيس مجلس السوفيات الأعلى، وصديق غورباتشوف منذ أن كانا طالبين.
في اليوم الأول للانقلاب، أصدر لوكيانوف بيانا ينتقد فيه بشدة المعاهدة الاتحادية التي كان من المنتظر التوقيع عليها في 20 غشت 1991، لكن الانقلاب الذي وقع في اليوم السابق وضع حدا لها. غير ذلك لم يعرف إن كان لوكيانوف يساند الانقلابيين أم لا، كما لم يذكر ضمن لائحة أعضاء لجنة الطوارئ، لكن حلفاء يلتسين تداولوا اسمه كواحد من الذين يتحركون في الخفاء،. وعندما فشل الانقلاب ووقف يلتسين أمام أنصاره، أعلن أنه يملك الأدلة على أن أناطولي لوكيانوف هو منظر الانقلاب، وهكذا تمت إزاحته من منصبه كرئيس لمجلس السوفيات الأعلى وبعد ذلك ألقي القبض عليه.
في الأشهر التالية، وعندما أصبح استقلال جمهوريات البلطيق أمرا واقعا، باعتراف المنظومة الدولية، وأصبحت معظم الجمهوريات تدير شؤونها الخارجية بمعزل عن موسكو، كان غورباتشوف ما يزال يغالب القدر المحتوم، يحاول جاهدا بث الحياة في جثة هامدة. وصلت الأزمة الاقتصادية في تلك الأثناء إلى مستوى لم يسبق له مثيل، فقد أصبحت المحلات التجارية شبه فارغة، وبطاقات التموين التي تتضمن لائحة المواد الاستهلاكية المقنن بيعها تجاوزت حدود المعقول، وأصبحت عبارة عن صفحة كاملة بطول مقسمة إلى مربعات صغيرة، كل واحد منها يضم اسم المادة والحدود المسموح بها، بل إنه حتى المواد المقننة لم يعد أغلبها يوجد بالمتاجر، مثل السكر أو البيض أو الزيت، ليصبح المنفذ هو السوق السوداء حيث كانت تباع بأسعار خيالية.
في موسكو، كان الوضع أكثر قتامة، أخبرنا بعض الطلبة الأجانب أن أغلب المتاجر لم تعد تبيع سوى الخبز والمياه المعدنية وأن الأمر يتعلق بمجاعة لا يمتلك أحد من المسؤولين الشجاعة للإعلان عنها.
نظمت العديد من المظاهرات احتجاجا على الأزمة الخانقة وحملت بعضها شعارات مثيرة للانتباه، مثل «لقد انتصرتم على الانقلابيين فقولوا لنا متى ستنتصرون على المجاعة»، كما ذكر بعض المواطنين أن الأزمة مفتعلة من قبل الإصلاحيين للتعجيل بانهيار الاتحاد السوفييتي.
جاءت النهاية التي كان الجميع يتوقعها، عندما أعلنت روسيا، بيلاروسيا وأوكرانيا إقامة « منظمة الدول المستقلة» والتحقت بها جمهوريات أخرى، فأصبح الاتحاد السوفييتي في حاجة إلى نعي، ولم يجد غورباتشوف بدا من أداء هذا الدور، وكان ذلك آخر دور سياسي يقوم به، عندما وجه خطاب الوداع في 25 دجنبر من نفس السنة، حيث أعلن استقالته وإلغاء منصب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، ليتم إنزال علم «الاتحاد السوفييتي العظيم» كما كانت تشير إليه الدعاية الشيوعية، ورفع علم روسيا الفيدرالية محله، وتنتهي بذلك مرحلة من التاريخ لتبدأ أخرى.


الكاتب : عزيز الساطوري

  

بتاريخ : 03/09/2022