ميـرا

 

ليس لها تاريخ ميلاد، ولا مكان ازدياد، طفلة لا تغادر حارة الطفولة؛ فيها تغني وتمرح، وفيها تحزن وتفرح.. ، تهوى اللعب كثيرا، تخلق من كل الفضاءات ملاعب، وتظل طول الوقت، ترسم وتمحو، تبني وتهدم، تهطل وتجف، تخضر وتذبل، تشتعل وتنطفئ، تحضر وتغيب.. ، جاءتني أول مرة بلا اسم ولا نسب، فسميتها «ميرا» تيمنا بخالتي التي تبخرت حياتها بنيران الأحزان، عاشت فصلا واحدا، عمَّرت ستين عاما، ثم انطفأت، بعدما شيعت الإخوة، ولم تخلع أبدا ألوان الحداد .حين يأتيني وجه ميرا خالتي، أركب صهوة صمت ملفوف بالقلق، وأطير إلى التل الذي يقف وحيدا، محاطا بأشجار التين ونبات الصبار وداليات العنب، وبحقول القمح والشعير، ومجاوراً لوادٍ حزين وكسول، حزين لا يتبادل أطراف الحياة إلا مع مقبرة تجاوره، وكسول ينام أكثر مما يجري.. ، في قلب التل منزل من طين، كانت تسكنه خالتي، ومنه شيعت الأخوات والإخوة، وفيه نظمت بمِداد الدمع كثيرا من أبيات الرثاء. لا أدري لِمَ أطلقتُ اسم خالتي الحزينة، على طفلة رشيقة لا تكبر ولا تموت..؟! طفلة تتسلق كل الأغصان لتقطف تفاح السؤال، وتجري في كل الدروب لتقضي لياليها في منزل الشك. ميرا الطفلة تخدع العشاق وتتركهم، وميرا خالتي لم تتزوج سوى رجل واحد، لم تلد منه، الطفلة ليس لها إخوة كي تبكيهم، وخالتي فقدتهم جميعا، وظلت تبكي حتى جف نهر الحياة. لقالق التل بكت رفقة خالتي، وكذلك نهارات الصيف وليالي الشتاء، وابتلت بأحزانها حكايات النساء، وسارت مراثيها صحبة السائرين في كل الأرجاء. أما ميرا الطفلة، فهي متقلبة الأحوال، متعددة الفصول والألوان، تمرح كثيرا، وتركب مطية السرد في كل زمان ومكان. التقيتها أول مرة على ضفاف حكايات جدتي، ثم صرنا صديقين، وترافقنا في الحي وفي المدرسة، وحتى في مدرج الجامعة، وكثيرا ما شربنا شايا رخيصا في مقصف الكلية، ورددنا الشعارات، وسرنا في شتى الدروب معا، لكني لم أكن صديقها الوحيد، فأصدقاؤها كثيرون، وهم من مختلف الأعمار والأمصار. مرت على صداقتي بميرا الطفلة سنوات طويلة، ومازالت تجمعنا نفس الصداقة، وإن كانت تهجرني أحيانا، أما ميرا الخالة، فلم تجف بئر حياتها إلا قبل سنتين، لكنني ظللت أستحضرها حية وميتة، وألج غرفة الاستفهام المظلمة، وأتساءل: لماذا لم تشرب هذه المرأة، ولو مرة، من عين الفرح؟!
أمس، رأيتني بينهما داخل غابة فسيحة، أشجارها كثيرة ومتنوعة، وطيورها مختلفة الأشكال والألوان والأحجام، ويكسو أرضها بساط من شقائق النعمان. كانت الشمس ساطعة، والجو معتدلا، والفصل ربيعا. راق لنا البقاء في الغابة، وظللنا منبهرين بما تعرضه من لوحات، لعبنا كثيرا، ورقصنا، وغنينا، وضحكنا، وفرحنا فرحا صافيا من الغيوم، لأول مرة أرى ميرا خالتي تنعم بالفرح، وتحلق زغاريدها حرة طليقة في سماء الحياة. ولأول مرة أرى ميرا الطفلة منضبطة داخل الجماعة، وهي التي ظلت تمحو الفصول على إيقاع التفرد.
سرنا بعيدا في مرتفعات المرح ومنخفضاته، حتى فاجأتنا عاصفة هوجاء هبت على الغابة، رياح وبروق ورعود وأمطار..، امتلكنا فزع شديد، وأخذنا نعدو هاربين إلى حيث لا ندري. اكفهرت الأحوال، واشتدت العاصفة أكثر، ثم ساد الظلام، ووجدنا أنفسنا في قلب ضياع بلا ضفاف، تكسرت بوصلاتنا، ولم نعد نعرف كيف نخرج من الغابة والعاصفة والظلام، ومع توالي اللحظات العصيبة، اختفى كل منا عن أنظار الآخر، ووجدت نفسي وحيدا، موزعا بين البحث عن مسلك يؤدي إلى النجاة، وبين البحث عن ميرا خالتي، ثم البحث عن ميرا الطفلة، ظللت أبحث عن الحلول الثلاثة في الوقت نفسه، لكن دون جدوى.
واصلت العاصفة اشتدادها، وخيم الظلام أكثر، واشتعلت البروق بلا توقف، وقصفت الرعود بشكل غريب، وازداد هطول المطر غزارة، فتضاعف فزعي، وأخذت أصيح بأعلى صوت مناديا أمي..، ظللت أناديها حتى استفقت من منامي، وخرجت من حلم غريب، ابتدأ رحيما، وانتهى مرعبا، فوجدتُ قلبي قد تحول إلى قطار مجنون لا يتوقف عن طي المسافات. غادرت السرير، اتجهت إلى المطبخ، وتناولت من الثلاجة قنينة ماء بارد، وأخذت أشرب محاولا إطفاء نار اشتعلت في صدري، شربت كثيرا لكن النار ازدادت اشتعالا، ووجدتُني مطالبا بالبحث عن “الميرتين” حتى وأنا في تمام اليقظة. فغادرتُ البيت، وقصدت مباشرة المقبرة، تركتُ طريق الكلام، ومشيتُ في دروب الصمت، ابتعدتُ عن ضجيج السيارات، وسرتُ بين حفيف الأشجار، فضلت خرير النهر على سراب الإسفلت، وفتحت كتب الماضي، وأغلقت دفاتر الحاضر، فتجلت أمامي خالتي ميرا، ورافقتني إلى قبرها، كانت طريقنا حكاية طويلة، ركبناها معا، وعرجنا على البيت الأول، فشربنا في فنائه شايا، ثم صعدنا شجرته، وقطفنا تينا، ترحمنا على الأجداد، وواصلنا الرحلة، مررنا على الحقل، فوجدناه غير ذي زرع، وألقينا نظرة على البستان، فبدا لنا البستاني يتوكأ على عصا شيخوخته ويسقي النعناع، ثم صادفنا موكب جنازة، سألتها: “من الميت؟”، أجابت “أخي..!”، مشينا قليلا، فصادفنا موكبا آخر، فسألتها السؤال نفسه وأجابت الجواب نفسه..، توالت مواكب الجنائز، وتواصلت أسئلتي، وتلتها أجوبة خالتي. وكانت دهشتي كبيرة حين علمتُ أن الموتى جميعهم أشقاء ميرا، فتساءلت: كم شيعت هذه المرأة من جنازة؟! وكم دفنت من شقيق؟! وكم ناحت.. وكم بكت.. وكم حزنتْ..؟!
ظللنا على متن الحكاية الطويلة ذات التضاريس الصعبة والألوان المتطابقة حتى ولجنا المقبرة، فاختفت خالتي، ووجدتُني وحيدا أمام قبرها. كان الموت يمسك بزمام الأمور، والمقبرة خالية من الأشجار، فضجرتُ بسرعة وغادرتُ، ثم قررتُ العودة إلى المدينة، والبحث عن ميرا الطفلة، لم أسلك طريق الذهاب، وغيرتُ وسيلة رحلتي، والتحقتُ على وجه السرعة بالشوارع، وشرعت في البحث. كثرت الإشارات المانعة للمرور، وتعددت الحواجز والسدود، وقل الماء، ونفد الزاد، وكاد يجف بنزين الرحلة. استولى علي التعب، وسيطر علي اليأس، وهطل عرقي، وظمأت كؤوسي، ومع ذلك طويت المدينة طولا وعرضا حتى عثرتُ على ميرا الطفلة في مقهى شاطئ البحر، رأيتها تدخن سيجارة غريبة، وتشرب قهوة عجيبة، وتقرأ كتابا مكتوبا بمداد الشك، مغلقا بغلاف اليقين. وقفتُ أمامها فانزعجتْ وسألتني “من أنت..؟!”. أجبتها: “أنا صديقك”، فنظرت إلي مليا، ثم خاطبتني: “آسفة، أنا أكرر أخطائي، ولا أكرر أصدقائي..!”.


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 28/01/2022