نبضات بائعُ الشاميَّةِ الغامضُ الساحرُ

لا أعرف كيف تذكرت الرجل، تذكرت بوعَرْوَةَ وكان نائما نومة كهفية تحت أطمار شتى في عقلي الباطن، في الذاكرة، والعلبة السوداء المغلقة بداخلي. ألأِنَّ صوته الجهوري، و» تبريحته « المتحشرجة القوية هي ما أتاني وأيقظني، وطوى الزمان بين يدي طيا في رفة جفن، فأعادني إلى بعيد صباي، ونائي طفولتي، وسمائي الأولى. فكأنه أمامي، وكأنني أمامه طفل هزيل الجسم، أشعت الشعر، شاحب الوجه، منكسر الخاطر، منطفئ العينين، والصغار الزغاليل زُغْب الحواصل، من حواليه، يتقافزون كحيوان الكونغورو، ويَنِطُّون شمالا ويمينا، أماما وخلفا، كالسناجب الرشيقة، متلمظين متلذذين بالرؤية فقط، بالعيون المشتعلة وهي «تتشعبط» صاعدة نازلة، خافضة رافعة، فوق العصا الطويلة الغليظة المنجورة بإتقان، والمبراة الحواشي بمهارة وحذق وصنعة، الملفوفة بحلوى سميكة بيضاء يَلُوثُ عليها لونٌ بُنيٌّ سائل ومذاب، متلولب ومتحلزن حولها.
إنها الحلوى اللذيذة التي تُسيلُ اللُّعاب، والتي كان يسميها « الشامية «. ولم أهتدِ إلى معنى وسر التسمية إلا على كِبَري، بعد أن عرفت أن المقصود ب « الشامية «، هو الشام موطن اللذاذة والحلوى. ومن ثَمَّ، صيغ المصدر الصناعي: « الشامية «.
فهل كان الحلواني بوعروة عارفا بالموضوع، مدركا أن في البلاد العربية، أرضا عربية مترامية نائية تسمى الشام كان لها أمجاد وتواريخ، وحضارات، وتضم سوريا والأردن وفلسطين ولبنان؟. ثم هي أرض مزارع فستق وفواكه، ومحاضن حلوى وألبان، وديانات وثقافات، وجمال.
كنا في قاعة الدرس نتابع ـ كعادتنا المَلولَة ـ مرتجفين مرتعدين، معلمي العربية، والمتعاونين الفرنسيين، وهم يستعرضون حافظتهم، وعضلاتهم المعرفية في اللغة والنحو والإعراب، والجغرافية والحساب، تحت « رحمة « مساطر قُدَّتْ من حديد مُفَضَّض، وكَرَابِج مفتولة من جلد الثيران. نتابع، والنوم يهدهدنا، ما يقولونه من « علم «، و» ومعرفة «، تتجاوز أذهاننا الصغيرة، وإدراكنا المعطوب، وحِسِّنا الفاتر، حينما ـ فجأة ـ تتنمر حواسنا، وترحل عقولنا، ويغلي الدم في عروقنا، فنصحو ـ دفعة واحدة ـ على صوت الحلواني الذي يصلنا مخترقا الحائط الدائري الذي يُسَوِّرُ مدرسة ابن سينا للبنين والبنات، مخترقا جدران الأقسام: ( ها الحلوى الشامية.. ها هيَ: وَحَدَة ليكْ وْوِحْدَة ليا، ووْحْدَة لّْعْزيزْ عليَّا ). فإذا بنا نَسْتَبِقُ الدقائقَ لِنَصِل الرحم ـ ككل يوم ـ بالحلواني، ونحن نتحسس جيوبنا الصغيرة لنتأكد من الفرنكات التي جلبناها معنا إما بتسول ملحاح من أمهاتنا وآبائنا، أو بسرقة ما فَضُل من « صرف «، في بنطال الأب ومعطفه، وصندوق الأم الخشبي الغامض الذي كان يحوي، في ما يحوي، الدرهم الأبيض لليوم الأسود. ولا ضير من أن نُعاقَبَ عند العودة إلى منازلنا، ونُضْربَ ضربا مبرحا من قِبَلِ آبائنا أو معلمينا بعد أن يتنامى إلى علمهم خبر فعلتنا، وسرقتنا الموصوفة والمكشوفة.
الحلواني بوعروة الأعزب الدهري، قاهر البرد والثلج والريح. الرجل الجائل أبدا، الذاهب اللاَّئب بين المدارس والحارات والسوق الفسيحة التي تتوسط مدينتنا. أذكر ـ مرة ـ كيف قادنا الفضول إلى التربص به، والكمون له، لمعرفة أسرته إن كانت له أسرة، وبيت إن كان له بيت. وكم كانت دهشتنا كبيرة ـ نحن الصغار ـ حين وقفنا على كوخ حقير لا يتعدى المترين، يتخذه مأوى ومسكنا، يضع فيه « حوائجه «، ويصفف فيه أشياءه، ويسند حلواه على نتوء صخري بالكوخ، ويرتب ما فاض من أباريق ألمنيوم، وطاسات نحاس كان يتفنن في صقلها وتزييتها لمعاودة بيعها.
لكن، ما كان يحيرنا هي الحلوى الشامية بالذات. فبِمَ ومِمَّ كان يصنعها؟، وما المواد التي تدخل في تركيبتها العجيبة فضلا عن السكر؟. وذلك الملون البني والأزرق والأحمر والأخضرالذي كان يخطه على شكل دوائر متقنة، يزخرف به الحلوى، ما مأتاه؟، ومن أين يجلبه؟، وكيف ينجح في خلطه بالشامية، وتمييزه؟. أهو حبر، أم خلطة نباتات وأعشاب؟، أم مُرَكَّز مادة لزجة لا نعرف لها اسما ولا مصدرا؟.
غير أننا سرعان ما ننسى حيرتنا، ونبلع سؤالنا عن ماهية الحلوى عندما نعلكها ببطء شديد كأننا نجترها ونتركها تذوب ـ على مهل ـ بألسنتنا، مثيرة لعابنا، ومُنَكِّهَةً رائحتنا، ومحفزة لنا على التسول الدائم، فنطالب بوعَرْوَةْ بإضافة قشرة صغيرة إلى ما اشتريناه وأنهيناه. وكان كريما مستجيبا. يرفع سكينه « البوزَكَّاوية « الحادة إلى عَنانِ السماء ليهوي، بسرعة الصقر، على الحلوى، مقتطعا منها أشطاراً يوزعها علينا بالقسطاس وهو في أوج فرحه ونشوته، غير ضَجِرٍ ولا متأفف.
فهل كان حبه لنا وحدبه علينا، ووساطته ـ أحيانا ـ بيننا وبين آبائنا، ليرفعوا عنا يدا كانت ستصفعنا، ويوقفوا رِجْلاً تأهبت لركلنا. إذ كان كل من يسكن مدينة جرادة، يعرف ناسها صغارا وكبارا، فكأنما كانت دارا كبيرة، وساكنتها ـ طُرَّاً ـ أسرة واحدة متنوعة ؟. هل كان حبه لنا ـ إذاً ـ تعويضا عن عدم إنجابه، وكيف ينجب من ظل أعزب طوال حياته؟.
ثم ما عَتَمَ أن انقطع ذكره، ولم نعد نسمع صوته يشق الفضاء والأسماع. وانتفت الشاميةُ، وغارتْفي رمل النسيان، وأمست ذكرى لاسعةً لامعةً ودامعةً. وربما يكون « للحضارة « يدٌ في غياب بوعروة، عَنَيْتُ هجومَ حلويات أخرى بصنع آخر، وزينة أخرى، وعَرْضٍ جذاب ومثير، تصدرت محلات جديدة، وحوانيت نبتت كالفطر في المدينة، وفي غفلة منه ومنا. فهو لم يقدر الزمن حق قدره، وكيف يقدره ويقرأه، وهو مداس تحت عجلاته القاصمة على رغم ضحكه وسلواهُ؟.
هكذا، يكون قد أحس بدنو أجله عندما نفقت بضاعته، وهُجِرَتْ حلواه، وبارَتْ « شاميته «، فقرر أن يختفي من دون إشعار ولا إنذار.
وبوعروة لغز حير الألباب والعقول. فمن قائل: إن جنية هامت به فتزوجته وأخذته إلى البعيد.. إلى وادي السَّيْسَبانْ، أو إلى جبل قافْ، أو أرض العماليق والساحرات. ومن قائل
إنه وجد ميتا أبيض كالَبفْت، منشرح الأسارير، طَلْقَ المحيا، طربوشه الخرافي على رأسه، وَ زَعيبُ نحلةٍ لازورديةٍ يُدَوِّمُ حول جثمانه. ومن قائل: إنه قتل في عراك دامٍ لاَمُتكافيء مع جيران أشرار حلوا بالقيسارية التي كان يقطن بها، ظنا منهم أنه يصحو وينام على أموال طائلة كَنَزَها من بيعه الشامية.
ومهما يكن، ومهما تضاربت الأقوال في مصيره، فإن الحلواني بوعروة حيٌّ يخرج كل ليلة، بعد أن ينام الناس، صائحا، صادعا، ومناديا: ( أَ.الشامية..أَ..الشامية ..). لابساً وزرته الرمادية المبقعة بالسكر والزيت، ومحشوراً في سرواله التاريخي الأزرق العمالي، فضلا عن طربوشه الخرافي كما أسلفت.
أسمع صوته وهو يشير إليَّ: تَعالَ، اقتربْ، كم معك هذا اليوم؟.
ــ معي أنتَ، وذكرياتي التي لا تبلى.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 25/12/2020