نبضات : بين الغُبارِ والنُّضَارِ

إلى ذكرى أستاذي الأكاديمي الفذ، وصديقي الكبير المرحوم الدكتور محمد الدّنايْ
وإلى صديقي الشاعر والكوريغرافي البهي: عزيز الحاكم
وصديقي الناقد السينمائي المتمكن: حمّادي كيرومْ
( وقد جمعتنا سنتان تكوينيتان بالمركز التربوي في فاس بين 1977 و1979 )
مَشَيْناها خُطىً كُتِبَتْ علينا /// وَمَنْ كُتِبَتْ عليه خُطىً مَشاها
( شعر منسوب إلى أبي العلاء المعري )

انكسرتُ فعلا، وفاض غيظي وغضبي، وطاش عقلي، وطار صوابي، لكنني انتصرتُ. فكيف يكون الانكسار انتصاراً، والغيظُ اعتباراً؟
هو انتصار من حيث إنه وعيٌ حادٌّ لِمَا حصل، ودرسٌ مُسْتَقى مما حدَثَ لي، وما استبد بالذات وخلخل الثبات، وتغلغل في الكيان كحُمَّى المتنبي، أو داء خليل مطرانْ. وبما هو محاولة ملحة للنهوض والقيام والتحدي، وقطع دابر الشك والتردد والتوجس والنَّوَسان، بشعلة الثقة والإيمان، وجذوة التوق والأمل، وقبس العرفان، وما يختزنه الإنسان من قدرات وطاقات تند عن الوصف، لا يستطيعها لاَعفريتٌ ولا جانّ، إذِ الإنسان هو مقياس كل شيء فيما قال الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراسْ، وَزكّاها عصر الأنوار، وفلاسفة الضوء، وأدباء الحلم والفرح.
كان انكساري ـ بالمعنى الذي ذكرت ـ مَعْبَراً إلى التغيير، ومدخلا إلى التأني وحسن التدبير، وذريعة إلى الاستيقاظ والانتفاض، ومنطلقا إلى البحث عما يصنعني، ويرد لي ما أعتبره اعتباراً، وما أَعُذُهُ جوازا إلى حقيقتي، واستردادا لذاتي وشخصيتي. لذلك جُزْتُ الوادي الذي خِلْتُه غائراً مخيفا بما لا يقاس، وقطعت تيار مائه الذي حسبته عميقا غميسا قد يغدر بي آنَ التعويل على الذهاب إلى الضفة الأخرى، الضفة المقابلة، والرفرفة نحو الشجرة المنقذة الماثلة. ومع أن اختياري كان دون ما تَوَطَّنَ في نفسي، وما تَوَطَّدَ في خَلَدي، وما نَشَبَ في طويتي وسريرتي، وهدهدته زمنا مديدا معتبراً، وما سهرت من أجله الليل والنهار لأقطف يانعات الثمار في نهاية المشوار؛ فقد اقتنعت بأنه لا بدَّ مما ليس منه بدٌّ، ولا مناصَّ من شق الطريق، واهتبال ما هو متاح، فعسى أن أجدَ، وأنا أمشي وأغذ الخطوَ، ما يَعْظُمُ في عيني، ويملؤني اعتزازاً وأُلْفةً وسكينةً، متمثلا قول الشاعر الأبدي الهائل أبي العلاء المعري:
وما نَهْنَهْتُ عن طَلَبٍ، ولكنْ /// هي الأيامُ لا تُعْطي قيادا
وكذلك كان، فبالمركز التربوي الجهوي في فاس / سايسْ، قُيِّضَ لي أن ألتقي بزملاء وأصدقاء، وزميلات وصديقات من هنا وهناك: موزايْك متعدد الألوان، وفسيفساء عجيبة من أخوات وإخوان وخُلاَّن. وقُدِّرَ لنا أن نسلخ معاً ـ يغمرنا نشاط وحافزية ودوافع شتى واضحة وملتبسة ـ سنتين عامرتين بالشغب الجميل، وروح الرفاقية العالية، والتعاون الإخواني المثمر، ثقيلتين بميزان البضاعة اللغوية والبيداغوجية والأدبية والنقدية التي قدمت لنا، وأقبلنا عليها بنهمٍ مشاركين، مُبْتاعين شارين ومستهلكين كأمتع وأفيد وأنضج ما يكون الاستهلاك. لكنهما سنتان مرَّتا كلمح البصر، كأنهما برقٌ خُلَّبٌ أضاء الأشياء والكائنات من حوالينا ثم انطفأَ، وكنا نستبطيءُ الأيامَ ونتمنى لو تطولُ حتى يتحقق إشباعنا.
فَهُما ـ إذاً ـ خفيفتان سريعتان بمقياس العلاقات الجديدة التي نسجناها، والصداقات الودودة التي بنيناها، والابتهاج والانشراح اللذين عرفناهما وعشناهما كزملاء ورفقاء وأصدقاء الدراسة والتكوين.
ولا أنسى، وكيف أنسى، وهل لي أن أنسى علاقتي العميقة مع العزيز المرحوم أستاذي الدكتور محمد الدّنّايْ. فيا كَمْ جمعتنا المقاهي بمعية صديقنا عزيز الحاكم. ويا كمْ دردشنا وناقشنا وخضنا في شؤون الأدب القديم والحديث. وكان المرحوم بحراً، على دراية وإحاطة واسعتين بالآداب والبلاغة والإنسانيات. ولم يكن يفوته مقدار حبة خردل مما ينشر في المجلات والملاحق الثقافية للجرائد الوطنية. يقرأ كل شيء. يقرأ ما أكتب من شعر ونقد في ملاحق ( الاتحاد )، و ( العلم )، و( أنوال )، وغيرها. ويناقشني فيه مبدياً رأيه العميق، ونظره الحصيف. وكان محبا بل مستهاما بشيخ المعرة العظيم أبي العلاء المعري الذي خَصَّهُ بأطروحة جامعية أكاديمية دسِمَة لا َمُتورمة، متفردة وغير مسبوقة لِما انطوت عليه من حفر وسَبْرٍوَتدقيق، وشرح وتحليل وتأويل، جمع فيها بين المناهج القديمة والحديثة، مُبيناً عنْ علو كعبه في مجال اللغة والبلاغة والعروض والقافية.
ولئن سألتني ـ رعاك الله ـ عن حكايتي مع الكلية الآنَ، ونَكَأْتَ جرحي ثانياً، وقد صارت قريبة على بعد، بعيدة على قرب، وعن إمكانية العودة إليها من عدمها ـ لأجبتك بأن السيف سبق العذل، والقبّرة باضت وصفرت، ولا يتراجع عن قرار وموقف اتُّخِذَ إلا ضعيفٌ أو مهزوز الشخصية، أو « بَنْدولي « لا يستقر على رأي ولا على وضع وحال. وبرغم مناشدة أستاذي سي محمد الدناي، ورفيقتي، وأهلي، وجملة من أصدقائي الخُلَّص الأوفياء، فإنني تماديت في عنادي مكابراً رافضا بلباقة وأدب، محاولا إقناع نفسي وأساتذتي وأصدقائي، بما قررته. وإنْ بدا يعِنُّ لي بين الفيْنات أن أعود إليها طالبا بشعبة الآداب العربية، لا الآداب الإنجليزية التي ودعتها مُكْرَها، وعلى مَضَضٍ، وإنْ لم أكفَّ يوما عن قراءة الشعر بها، وبعض الروايات ذات الصيت كروايات إرنست همنغواي، وفولكنر، وهرمان مِلْفلْ، وجون ستاينبكْ، وروايات الكتاب والكاتبات الملونين، الساحرة الأخّاذة.
وكان أستاذنا في علم النفس التربوي، هو المرحوم محمد كتان المحنك، الخفيف الظل، الظريف، والخامل أحيانا. أما أستاذنا في علم النحو والبلاغة والعروض، فكان المرحوم العلاَّمة محمد عبد العزيز الدباغ الذي سيكون لنا معه شأن وأي شأن، أُرْجِئُه إلى حين، أيْ بعد أن أعرض سريعا لدرس الأستاذ الفذ القدوة الدكتور الدنايْ الذي عمل على تشغيلنا، وملء أجنداتنا بما يجعلنا أكفاء مؤهلين ذوي مراس في التاطير والتكوين البيداغوجي والمنهجي والمعرفي، من خلال التنقيب عن النَّقَدَة القدامى، والنقد القديم، ومدامكه المنطقية، وخصائصه اللغوية الواصفة التي أرْسى عليها قواعده، وبنى لوازمه وأدواته، وقرأ في ضوئها شعر الشعراء. وهكذا شكلنا مجموعات بحث، وكان من نصيبنا أنا ورفيقتي ( زوجتي فيما بعد )، وأستاذات أخريات، كتاب ( عيار الشعر ) لابن طباطبا العلوي. وهو كتاب كان في دائرة المجهول بالنسبة إلينا حينها، مما حفزنا على التنقيب لأيام عن الكتاب، وعما كتب عنه وحوله. وأعترف بأن العمل عليه كان غنيا مثمرا، تفتَّق وأسفر عن بحث منهجي تحليلي موسع له، قدمناه في الفصل، كما قدم غيرنا كنوزهم التي حفروا عليها حتى أطلعوها، ونفضوا التراب عنها، والإهمال والصدأ تماما مثلما فعلنا.
وهل لي أنْ أذَكِّرَ صديقاتي وأصدقائي، بما « فرَض « علينا الأستاذ الدناي، من شعر عويص معتاص وخصيب، راودناه خلال ستة أشهر تقريبا، نصف عام بيداغوجي بالكامل، يتصل بمعلقة لبيد بن ربيعة التي خضنا بحرها عوْما وغطْسا، وغوْصا، والتقاطا لمحارها ولآلئها، وصولا إلى قعرها اللغوي والبلاغي، وما يحبل به من إحالات كامنة غميسة بعيدة الغور، « بعيدة مهوى القرط الجمالي «، إلى الديني في سمته الوثني السائد، وإلى نظر الشاعر الفلسفي للوجود والكون، واحتفائه بالكائنات من إنسان وحيوان وجماد ونبات، وأشياء.
ولم نكن نخفي عن الأستاذ ما كان يصيبنا ويغشانا من ملل وضجر ونحن ننقل خطانا المُدَمّاة بين النبات الشوكي الواخز، ونقا الرمل الحارق، والهجير، والأطلال والصيد، والأثافي، ومشاق الرحلة، والغيلان في الأودية الغامضة. لكنه كان درسا مسلسلا لغويا وأدبيا وبلاغيا، وجماليا لا أعمق ولا أثرى، لا يستطيعه إلا من كان ذا جَلَدٍ وصبر وتحمل، ومعرفة عميقة، وإحاطة علمية بشؤون الشعر وشجونه، برحابته، ومضايقه، بأنفاقه وآفاقه، وبطيّعه وعويصه. وهو ما برهن عليه المرحوم الدناي، برهنةً نالت إعجابنا، بل أبهرتنا. فله مني دعاء لا ينقطع بالرحمة والمغفرة، وحسن الثواب والجزاء على ما قدمت يداه.
وكانت لنا ـ على مستوى آخر ـ مع المرحوم الأستاذ الدباغ، مماحكات، ومناوشات، وسجال في أثناء دروسه. فهو كان شديد التعصب للشعر العمودي القديم، والبلاغة كما قَعَّدَها السكّاكي في ( مفتاح العلوم )، والنحو المعياري الثقيل ثِقَلَ الهم على القلب، بينما كنت وعزيز الحاكم، وحمّادي كيروم، ورفيقتي، شديدي الانتصار للجديد والمحدث، والماضي في وجهه المشرق التنويري العظيم، في روحه الحية النجيبة المتعالية المخترقة. وكان يعرف أننا نكتب الشعر والنقد وننشره. وربما ساءَهُ ذلك واستكثره علينا، ولم يستسغ فكرة وجود طلاب يتتلمذون على يديه، ذوي خبرة وموهبة أدبية، وحضور في المشهد الثقافي العام. وقد نسيَ أننا خضنا تجربة التدريس بنجاح نسبي ـ في الأقل ـ قبل أن نلتحق بالمركز التربوي.
كان المرحوم الدباغ دائم التبرم، والشكوى من علة في كبده. لم نكن نحضر دروسه، وإن حضرناها فلِماماً، وفي أوقات متباعدة، وأسابيع متنابذة. وربما ربّى موقفنا ذاك، وتصرفنا الأهوج، على كل حال، تصرف عزيز وأنا ـ في نفس الرجل غيظا دفينا عبَّر عنه بذكاء وكتمان وانتقام في الاعتراض على عزيز عند التخرج من المركز التربوي أستاذا للتعليم الثانوي الإعدادي، وعليَّ في إبعادي عن مدينة فاس إلى أهرْمومو ( رباط الخير ). عِلْماً أن اختياري المدون بملف الرغبات لم يَحِدْ عن فاس ووجدةَ. وعلما أيضا أن الأستاذ الدباغ نفسه كان أخبرني، فرحا ومفتخرا، أمام ثلة من زميلاتي وزملائي، بأنني حصلت على النقطة الأولى على صعيد المنطقة الشمالية الوسطى، مما جعلني أتوسم خيرا، وأنتظر غيثاً، وإقرارا لرغبتي المعبر عنها.
وكان ما كان. كان أن تمَّ تعيين الشاعر عزيز الحاكم بفاس تخفيفا عنه من الضربة المحبوكة الغادرة. وتم تعيين عزيزتي بفاس لبخْتِها وسعدها، وحسن حظها الذي لم يدُمْ أكثر من شهرين.
لم تفد اتصالاتي بمن أعرف، لضرورة بقائي بفاس إلى جانب زوجتي. فقبلت مُغتَمّاً مُرغماً، الالتحاق بمقر تعييني يثانوية رباط الخير ( ثانوية مولاي إدريس الأكبر حاليا ). ومُكْرَها، ألحقت زوجتي بي لنخوض جنبا إلى جنب، معركة الشرف والنبل، معركة التدريس والتعليم لفائدة بنات وأبناء أهرمومو التي كنا نجهل عنها كبلدة كل شيء، ما خلا ارتباطَها باسم المارق الكولونيل أعبابو الذي حاول أن يؤَسْطر نفسه، قبل أن يلقى حتفه المستحق كعسكري مجنون جَرَّبَ أن يدخل البلاد في دوامة لا أول لها ولا آخر، في معارك إثنية، وتصفيات قبلية لا تبقي ولا تذر لو نجحت لكان المغرب غير المغرب، ولكُنّا غرقى ـ إلى اليوم ـ في بحار من الدم. ولكن الله سلم.
غير أنه جرَّ عقابا على البلدة وساكنتها المظلومة، تجلى في تهميشها وإهمالها هي التي دفعت ولا تزال تدفع ضريبة جريرته، وجنونه، وخروجه عن الثوابت والنظام العام.
على صعيد آخرَ، نَما إلى علمنا أنَّ البلدة تتشح ببياض على مدار أشهر الشتاء ويزيد، بياضٍ يُزْري ببياض ملح البحر الميت. وأن الصقيع الضريبَ الذي يكسو أسحارها وأفجارها، وأصباحها، هو عنوانها وتاجها وما يُمايزُها ـ مثلا ـ عن بلدة المَنْزَل جارتها القريبة منها / البعيدة على بُعْد صيحة أو طلقة.
قلتُ: فَلْأقْضِ الصيفَ مغتبطاً قريراً، ثم مفكراً مخططاً بعد ذلك. ولكل أجَلٍ كتابٌ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 24/12/2021