نبضات : جُمُعاتُ سيدي مُحَنَدْ أُوصالَحْ، وعُطَلُ الأضرحةِ الأخرى

 

من تكونُ تلك الضئيلةُ الوَقورُ، المقرورةُ الصَّبورُ التي تمشي مِشْيَةَ أنثى الرِّئْبالِ برغم سوء الحالِ، في طرقات الثلج، وبين ممرات الدُّور والأشجار، لا يُثْنيها عن هدفها، وعما قررته في دخيلة نفسها، قَرٌّ ولا ضَرٌّ، ولا تَوَعُّكٌ، ولا حِمْلٌ ثقيلٌ. وكان الطفلُ هو ذاك الحِمْلَ الثقيلَ الذي يُدَنْدِلُ رِجْلَيْهِ شمالا ويميناً على ظهرها، بعد أَنْ لم يعدْ يَقْوَ على المشي، مُيَمِّمَةً به شطر المشفى الوحيدَ العام المنذورَ للعمال، البعيدَ عن سكناها وسكناهُ، مقدار أربعَة كيلومتراتٍ حيث الطبيبُ الشهيرُ المعروفُ بـ ( اليوغوسلافي )، والممرضةُ الذائعةُ الوديعةُ ( حليمة )؟
ملايين النُّدَفِ القطنيَّةِ البيضاءِ تتساقطُ سابحةً متراقصةً في الفضاء الرمادي، قبل أن تحُطَّ، مُزَقْزِقَةً مُوَشْوِشَةً ومُنْطفئةً على رأس المليكةِ، أنْجُماً ولا أنْصَعَ؛ وعلى مُحيّا الأديمِ سجّاداً ولا أبدَعَ. سَجّاداً عريضا ممدوداً مستحوذا على كلِّ شبر ومساحة، وفراغ، سجاداً أبيضَ وَضّاءاً: بهجةً للنظر، ومتعةً للنفس، وبلسماً للقلب والفؤادِ. سَجّادٌ عظيمٌ يَسْمُكُ ساعةً بعد ساعةٍ، فيصيرَ بحراً لُجيّاً من زجاج يُزَحْلِقُ ويُسْقِطُ الصغارَ والكبارَ إِنْ هم أسرعوا، وحاولوا قطعَ الطرقات الملتبسة المختلطة، المدفونةِ تحت ركام الثلوج، في أقصر مدَّةٍ.
الرشيقةُ الصبورُ، العظيمةُ الوقورُ تغُذُّ الخَطْوَ في الصباحات الباكرة، قاطعةً الكيلومتراتِ الأربعة، في صمتٍ، من دون تَبَرُّمٍ، ولا شكوى إلاَّ ما كان من تنهداتٍ وأنفاسٍ متلاحقةٍ تخرج من فمها بخاراً تلوَ بُخارٍ كما فرس تجرُّ عَرَبةً، وقوائمها تضرب في الثلج ضرْباً متتابعاً، وتغوص عميقاً مخلفةً آثاراً وندوباً، ورسوماً تجريديةً على وجه الأرضِ الأبيضِ كالْبَفْتِ.
التاسعةُ صباحاً تنادي. اليوغوسلافي وحليمةُ ينتظران قدومَها حاملةً طفلها، كما اعتادتْ واعتادا؛ طفلَها الذي يعاني ـ منذ فترة ـ دَرَناً سكن رئتيه، ما جعله يَنْحُلُ ويَهْزُلُ، ويصفَرُّ جِلْدُهُ، ويشْحُبُ إهابُه، وينخرطُ ـ صباحَ مساءَ ـ في سعالٍ متواصلٍ يخْتَرِمُ صدرَهُ، وبُلْعومَه، وحنجُرَتَه، ويَقُضُّ راحةَ أمّه، ومضجعَ أبيه.
تَضَعُ العظيمةُ الضئيلةُ طفلًها بين يديْ الطبيبِ، مُمَدّداً على طاولة جلدية بيضاءَ مستطيلةٍ ليجسَّ نبضَه وهواءَ رئتيه حتى يتأكدَ من أنَّ الشفاءَ يفعلُ فعلَه، ويُواصلُ طريقَه بنجاح، وأَنَّ الأقراصَ واللَّعوقَ، والأمْبولاتِ ذات السائلِ المُرِّ الدَّاكِنِ التي وصفها، تقوم بوظيفتها أحسنَ قيام.
طلب اليوغوسلافيُّ من حليمةَ ملْءَ كيس بلاستيكي صغير بدم الطفل لِمَاْرَبٍ يعرفه. أذْعَنَتْ الضئيلةُ الحُمَيْراءُ التي لم تكنْ سوى أمِّهِ، فَكَّكَتْ أزْرارَ قميصه، وأعْطتْ يَدَهُ للإبرةِ. دارت الأرضُ دورتها في وَمْضَة البرق، وتوارت الوجوهُ في رَمْشَةٍ فإذا هو غائبٌ عن الوجود، مُعلقٌ بين الحياة والموت، تتقاذفُهُ الغيومُ، البُصاقُ يخرج من جانبيْ فمهِ على شكل زبدٍ ورغوةٍ، وشخيرُه يتعالى ويزدادُ كخروف ذبيحٍ، بينما أمُّه العظيمةُ تنظر إلى الطبيب، وإلى الممرضة، وإلى ابنها يصارع منجَل الموتِ الحادّ، وهيَ صامتَةٌ كأنما ذاهلةٌ، تقرأ الفاتحةَ، والمُعْوِذَتَيْن بصوتٍ مرتجفٍ وناشفٍ. وبعد دقائقَ، حَسِبَتْها الأمُّ دهراً، عادت إلى الطفل الحياةُ، أوْ هو من عاد إليها ليشْقى طيلةَ أشهر عرف فيها الآلامَ، والأوجاعَ، ونحيبَ أمه، والحرمانَ من المدرسة حتى لا ينشرَ عدوى دَرَنِهِ / سُلِّهِ بين زملائه وأساتذته.
وكان أنِ استمرتْ أمه تحرسه وترعاه، ثم تدخل وإياه مارَاطوناً آخرَ بموازاة ماراطون الذهاب والإياب اليومي إلى مشفى 150 ( هكذا كان يسمى )، ومشفى ( لاَزَيّي ) بالحي المغربي. ولم يكن ذاك الماراطونْ سوى البدءِ الذي سيتناسل بزيارة الولي سيدي مُحَنَدْ أُوصالَحْ ( هو ذا اسمه، ولعله أن يكون فقيها مجاهدا أمازيغيا أو شلحاً )، كل جمعةٍ، وما يَحُفُّ بها ويسبقها من طقوس: تهييئا وإعداداً، واستعداداً، وذهابا وإقامةً في مبنى ضريحه البسيط. وكانت الزيارةُ « الاستشفائية « الميتافيزيقيةُ تَتِمُّ بصحبة عدد من جارات أمه حيث يهيئن الكسكسَ ( الطّْعامْ )، أو طاجين اللحم، ويشترين علبَ شمع، ثم ينطلقْن في الصباح الباكر، ماشياتٍ ـ والأطفال والمريض بينهن كالجِراءٍ ـ قاصداتٍ الولي الصالحَ؛ على يمينهن ويسارهنَّ، جنَّةٌ عابويَّةٌ زاهيةٌ قِوامُها أشجار الحور والصفصاف، والبلوط والعرعار، والكاليبتوس، والسِّدْر، ونباتات وأعشاب: كالحلفاء والدّومِ، والزعتر، وفْليّو، والقثّاء، والجرْجير، والهَنْدُباء، والبوبالْ، وما لا نعرف من أسماء. وساكنتها: حيوانات برية من كل الأنواع والأصناف بما في ذلك الحيوانات المفترسة كالذئاب، والضباع، والثعالب، والقيوط، والمخربة كالخنازير. وملائكتها: طيور من كل صنف ومن كل جنس: البراطل، والهداهد، ومّي سيسي، والزرازير، والحساسينُ، وقُبَعْشاشْ.
ـ بُشْراكِ اَللَلاَّ الكامْلَةْ ( اسم أم الطفل )، يقول « مْقَدَّمْ الضريحْ «، القيِّمُ على صندوقه وأثاثه، وأشيائه، ونفائسه، المراقب لحركات وسَكَنات الزائرات بالخصوص. وكنَّ بين طالبة ملتمسة للإنجاب، ومتضرعةٍ من أجل الزواج، وأخريات يعملن ما في وسعهن للحفاظ والاحتفاظ بالأزواج، وغيرهن يَسْتَجْلِبْن الفطنة والذكاءَ، وسرعة الحفظ لأبنائهن وبناتهن.
ــ بُشْراكِ، فقد رأيتُ الوَليَّ الصالحَ في المنام يُبَشّرُني بقرب شفاءِ ابنكِ، وقربِ تدفق الرزق عليك.
تنْفَحُه الزائراتُ سنتيمات كهباتٍ، وتنفحه أم الطفل درهمين كاملين، وَتَهَبُهُ ديكاً أحمرَ أو أسودَ نزولاً عند رغبته في الجمعة الماضية.
توالت الجمعاتُ « المقدساتُ «، وتوالت هدايا الدّيَكَةِ كقرابينَ ونذور، وتوالى سعال الطفل، لاَ مِنْ مُهَدّيء، ولا من بُرْءٍ، ولا من سيدي محند أوصالحْ، ولا من غيره.
وحارَ أبوه، كما حارت أمه بين من يشير عليهما بعرضه على أولياءَ آخرين كسيدي ميمون ( الموجود بين وجدةَ وتاوريرتْ )، الذي يُبْريءُ المرضى، ويرد العقل للمجنون، والصواب للمسحور، والعودة إلى الجادَّةِ للمِتْلاف والمأفون، وبين من يحاول إقناعهما بنجاعة الطب العصري، ومهارة الطبيب اليوغوسلافي، ووجوب الاكتفاء بهما.
لكنَّ الراسبَ الخرافيَّ، والواقعَ الشَّعْوَذيَّ، والأميةَ الظالمةَ، غَلَبَنَ. وهكذا، انطلقت الرحلةُ المكوكية المنهكة: حزمنا صُرَرَنا، وأعددنا ألحفتنا وبطانياتنا، وسُكَّرَنا وزيتنا، وطحيننا، وديوكنا قرابين للضريح، والباقي نوزعه على الزوار المقيمين المرابطين بالضريح، وبما حول الضريح، ونتقاسم الأكل والشراب مع القادمات والقادمين من هنا ومن هناك وكلهم رجاءٌ أنْ يُطْلقَ « سيدي ميمون» سراحهم، بالوقوف عليهم في المنام، وهم بين البرد والزكامِ، محشورين في الملاحف الوسخةِ، رؤوسهم وأرجلهم على مواعين المَرَقِ والإدامِ، ووجوههم مدفونة في الرُّغامِ.
استغرقت رِحْلاتُ السيدة الجليلةِ مع ابنها وقتا طويلا إذا ما قسمناه على عدد الجمعات، وعطل السنة، وتراخيص أبيه، وعدد أيام الآحاد.
ثم بدأ الطفل يتماثل للشفاء: قَلَّ السعالُ، وعاد الاحمرار إلى وجنتيه، واستعاد سُمْرَتَه نسبياً، ومَرَحَه وشيطنَتَه، واستعادتْ أمه الحميراءُ العظيمةُ نشاطَها، وحيويتها في الطبخ، وزيارة الأقارب والجارات، واصطحابهِ إلى المدرسة التي لم تكن تَبْعُدُ عن منزله إلاَّ بمِئَةِ متر أو يزيد قليلا.
وليس من شك في أن غيابَ الطفل الاضطراريَّ، أثَّرَ في دراسته وتحصيله إذْ وجد نفسه أضيَعَ من الأيتام في مأدبة اللئام. فكيف له أن يجيب عن أسئلة حول دروس لم يحْضُرْها، وقواعدَ لغويةٍ لم يسمعْ بها، ونشاطٍ تربويٍّ داخليٍّ فاتَهُ وأُبْعِدَ عنه مُضْطرّاً، ولا يدَ له فيه؟. لذلك صار، عندما يجيب، يثير ضحك التلاميذ. وعندما يخرجه المعلم البشير، مثلاً، إلى السبورة للشكل والإعراب والصرف، يُصبح نكتةً تلوكُها الألسنُ، ويُرْمى بألقاب شتّى، وكُنىً غريبة كالنَّمْس، وابنِ عِرْسٍ، وبُوبْريصْ، ولْمَزْوَدْ الخاوي، و» المَخْبوزْ «. لأنه أراد أن يُصحح لتلميذ أخطأ في شكل آخر كلمة: خبز، فوقع في المحظور. وقع في ما أضحك القسمَ والمعلمَ، ضَحِكاً امتد إلى الخارج، وإلى توصيفه ب « المخبوز «، إذْ عوض أن ينصب آخر الكلمة فقط، شكلها هكذا: ( الخَبَزَ )، ظَنّا منه بأنها الأصَحُّ والأفصحُ.
شَمَّرَتْ أمه عن ساعدَيْها، وقررتْ أنْ « تؤطّرَه «، وتُشْرفَ على حفظه، ومراجعته لدروسه، بعد أنْ كان يأتيها باكياً ساخطاً ويائساً، وبعد أن رَسَبَ في الامتحان الإشهادي نهاية الابتدائي. كانت تجلس قُبالَتَهُ الساعاتِ ترْعاهُ، تضع الكتبَ والدفاترَ، والأقلامَ على مائدة الطعام، وتأمره، ثم تتوَدَّدُ إليه أنْ يحفظَ ويقرأَ ما يطالع بصوت عالٍ، بينما تقوم هي بتحضير الشاي والزبدة المذابة فوق الفرن مع الخبز الساخن ( ولم تكن تفهم شيئاً مِمّا يقرأ ).
وما هي سوى أشهرٍ حتى انشرحَ صدرُهُ، وانفتحَ قلبُه، وتيَقَّظَ عقلُه، وتوثَّبَتْ حواسُّه، وتجدّد نشاطُه، فراح يَطْحَنُ الدرسَ طَحْناً، لمّا شرَعَتْ غوامضُهُ تَنْجلي، ولِحاءَاتُه السميكةُ تتقشَّرُ بقوة عزيمته، وفولاذية إرادته التي أخذها واقتبسها من قوة وفولاذية أمه الحميراءِ العظيمةِ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 12/02/2021