نبضات سونا

نُفيق مع بكرة أبينا ـ عوضا عن المثل العربي الذائع: ( جاؤوا عن بكرة أبيهم )، الذي يعني شيئا آخر. كم كنت أحب هذا المثل، فأرصع به إنشاءاتي المدرسية إذا كان موضوعها يتصل بالعمل والجد والمثابرة. إنها العبارة / المثل المتوارث أدبيا، المسكوك تاريخيا الذي أدركت معناه ومغزاه ودلالته الحية من إفاقات أبي الصباحية الباكرة ـ أكان الفصل دفئا أم كان بردا ـ استعدادا لعمله المُضْني. وهي الإفاقات المعذِّبةُ التي كانت مبرمجةً ـ في ما أذكر ـ في الساعة الخامسة كل صباح، كل بزوغ فجر مُبلل أو يابس. وكان رحمه الله يوقظني بنخسي في قدمايَ، أو يصب قطرات ماء باردة على رأسي أو قفايَ.
يفيق مع الديك لأداء صلاة الفجر، وللذهاب إلى العمل، وأنا ـ بين بطانيتين، بين الدوخة والصحوـ مترنحا أشرع في حفظ درس التاريخ أو الجغرافية أو العلوم الطبيعية، أو درس التربية الإسلامية والوطنية. ( وكانت جل الدروس بالفرنسية ما خلا الإسلاميات، وقواعد اللغة والمطالعة التي كانت تدرس، طبعا، بلغة المتنبي ). بينما تقوم أمي، رغم عللها وأوجاعها، بإيقاد المدفأة التي سرعان ما تحمر وجنتاها بفعل فحم « الأونتراسيتْ «، فتنشر الحرارة والضوء اللذين يمنحاني نشاطا أكبر، وتهيؤا أوفر، وإقبالا أكثر على التهام الخبز مدهونا بالزبدة « الرومية «، أو بالزيت « البلدية «، وعَبِّ الشاي عَبَّ الظاميء الصائم. وبعدها، أحمل كيسا من كتّان بمثابة محفظة مدرسية، وأتوجه، كالسهم، نحو الثانوية المحفوفة طريقها المتربة، قبل أن تزفت، بأشجار الصنوبر الزاهية الساهرة او الزاجلة بفعل الريح والمطر، تحت مراقبة أعين صفصافة سامقة مُعَمِّرَة دائمة الخضرة، كانت لنا فيئا، وراعيا لأحاديثنا، ومكانا لتجمهرنا وتجمعنا، وانتظارنا مرور البنات.
لكنما يأتي يوم، بل أيام تتكسر فيها الرتابة هذه، وينسحق الروتين هذا، يحل فيها النشاط الفياض، والحبور الضّاجُّ، و» الاستثناء « العظيم. ومن هنا، فإن الإفاقة الباكرة أو المبكرة التي صارت كأنها قَدَرٌ لائِطٌ بنا، ووَطَرٌ لصيق بحياتنا، في طفولتنا وصبانا، تلتمع مختلفةً، إفاقة أخرى باذخة، مزركشة، مفعمة بكل ما افتقدناه، وما كنا نرنو إليه رُنُوَّ الخِشْف إلى الظبية، أو خبط الرضيع بحثا عن ثُدَيّ أمه.
إنه يوم / أيام العيد التي توقظنا باكرين مبكرين. لكن هل نمنا حتى نستيقظ؟. نجد أمهاتنا قد سبقننا إلى إيقاد المواقد، وتصفيف الموائد، فإذا هي مزدانةٌ مزخرفة بكل ما لذ وطابْ من أطعمة شهية، وأشربةٍ عِذَابْ، استباقا لوقت ذبح الأضاحي بعد تأدية صلاة العيد بالمُصَلّياتِ متى كان الجو مشمسا ورائقا، التي كنا نستثقلها لأن صبرنا ينفد ويعيل، وانتظارنا يطول ويحرق كأننا على جمر الغضا.
وها هي الذبائح ممددة أومعلقة تثيرنا، وتوقظ الوحشيَّ فينا، فنتلمظ ويسيل لعابنا ككلاب « بافلوفْ»، ونحن ننظر إليها نظرة الذئب إلى الحَمَل الأعزل في قاع الوادي على رأي الحكاية، مستعجلين اقتلاع سقيطها، وبعض أحشائها كالكبد والقلب، وغيرهما، لننعم بشهي وطيب لحمها وشحمها، ونتلذذ برائحتها وطعمها وهي تُشوى وتتقلب على الجمرات النَّهِمات. نتحلق حولها كما نتحلق حول راوٍ أو حكّاء، وكما يتحلق المُبْتَرِدون المَقْرُورونَ حول التنانير والمدافيء والنيران. وفجأةً، يخترق آذانَنا ضجيجٌ وعجيجٌ، لَغَط ٌوأصوات عالية مختلطة متداخلة تصيح وتنادي على إيقاع واحد مُدَوْزَنٍ كأنه إيقاع مارشْ عسكري: ( سونا بْغاتْ لْكَديدْ والعيدْ ما زالْ بْعيدْ ). فنطير نحو مصدر الأصوات التي تعج بها الأحياء والأزقة، تاركين خلفنا الذبائح، والأكباد التي تشوى أو تقلى أو تطبخ. ولن نعود إليها أو إلى ما بقيَ منها إلاَّ بعد أن يَهدنا الإعياء، ويعضنا الجوع، ويلدغنا العطش.
سُونَا ـ إذاً ـ خرجتْ من كُمونها، وطلعت علينا حاملةً بهجة أخرى، وفرحا جديدا ينضاف إلى أفراحنا ومسراتنا ومباهجنا على قلتها خلال العام. نتبع سونا منادين مرددين عبارتنا / شعارنا الموروث: ( سونا بغاتْ لْكدّيدْ..). تمتزج أصواتنا بأصوات السابقين الآتين من كل حدب وصوب، فنشكل جمهوراً عريضا، جمهور أطفال في ثياب العيد يرفلون، ويتباهون، ينظرون إلى بعضهم بعضا وهم يتصافحون ويتصايحون، ويكادون من فرط فرحهم ببذلهم، واختلاطهم، يطيرون، ويسبحون في الهواء.
مطاردة سونا مستمرة ما تفتأ، والتصفيق الحار لا يهدأ، والتنادي بالأسماء لا يَنِي يتعالى، وأرجلنا الصغيرة تضرب الأرض ضربا مُمَوْسَقاً، تعبيراً عن هناء وانتشاء.
سونا ترقص، تغني، ومُرافِقُها يُشعل البنديرَ دَقّاتٍ مَنْغومة ًهادرةً. قَرْناها الحادان يغمزان، وفروة الكبش التي ترتدي، تهتز وتُجَفْجِفُ، ولحية التيس المدلاة من ذقنها، تومض وترتجف. كأنها خرجت، للتو، من فُرْن الأسطورة، ومن شجر البُطْم الطوطمي، وسلالات الوعول المقدسة، وأجران القرابين الوثنية الأولى.
من دار إلى دار، تدلف غير عابئة بمن فيها ـ وكانت منازلنا مكشوفة للقريب والغريب في كل الأيام، ولا تغلق أبوابها إلا عند ارتخاء سدول الليل على المدينة، فيعم الصمت والظلام، والأحاجي الملغزة وراء الأستار والأسوار. تدلف ولا تخرج إلا وهي غانمة راضية، في يدها قطعة لحم، أو سَقَطٌ من سقيطة الذبيحة؛ فتدخل، حينها، في جدبة غريبة دونها جدبة الدراويش، أو هكذا كان يخيل إلى الصبي الذي كنتُهُ. جدبة يشعلها البندير، ويثيرها التصفيق والاهتياج العام. جدبةٌ تسري، وتتغلغل فينا فنهتز اهتزازاً تفاعلا مع « سونا «، كأنما قرَصَنا قارصٌ، أو لسعنا زُنْبور « سيبويهْ والكسائي». وبعد أن تخف الجدبة، وتتناقص، وتهدأ تماما، ننصت إلى سونا وهي ترتجل بعض الأمثال والحكايات الموجزة، ارتجالاً، داعية الجمهور الحاشد المحتشد لمسايرتها في توقيعها وأدائها الفُرْجوي الماتع، ومستدرجة إياه لمجاراة رقصها وتطبيلها، وغنائها الذي كان، في الأغلب، شعبيا محليا. فرجةٌ وأيُّ فرجةٍ، لهاثٌ وأيُّ لهاثٍ ونحن جرياً نجري، ورقصا نرقص، وهتافاً نهتف بحياة سونا، ورغائب سونا: ( سونا بغات لكديدْ، واللحم بْغَاتْ تْزيدْ ).
فهل كانت سونا تعي ما تقوم به، وتدرك مدى البهجة التي تنشر وتشيع بيننا وفينا؟. هل كانت تعرف أن فُرْجَتَها كانت شكلا من أشكال مسرح الشارع والساحات شبيها إلى حد ما بمسرح « البرودْوايْ « الأمريكي؟، ولونا من ألوان المونودراما الذي ستوضع له الخصائص والقواعد بعد التقدم المعرفي، ومجاوزة البساطة، والتلقائية، والارتجال؟
هل كانت تعلم أنها تؤسس لرؤية، ورأي، وموقف نقدي يطولُ السلطة والمخزن، والتقاليد البالية المرعية؟ ويعيد الاعتبار للفن، وإنْ فطريا وساذجا وعفويا، وللتاريخ بما هو نهرٌ لا يتوقف، وضَرْعٌ حلوب أرضع الإنسانية، ألباناً شتى ملؤها الفيتامينات المنشطة، والبروتينات المغذية والمقوية، ما ساعدها على بناء الثقافات والحضارات، وبناء كينونة جديدة للإنسان، وموجودية بمعنى من المعاني، صنعته ورفعته إلى الذروة، بل وألَّهَتْهُ إذ جعلته سيد نفسه، وسيد مصيره، ومقياس كل شيء، وسيد الكون وخادمه وعبده في الآن ذاته.
فصلٌ بهجويٌّ آخر، صفحةٌ أخرى، حلقة ذهبية في سلسلة أيامنا الصدئة. فهل كنا سنبتهج بعيد الأضحى، ونمتص حلاوته ولذاذته امتصاصا، في غياب سونا؟، في غياب الجري واللهاث وراءها طلبا لفرجتها، واحتكاكا بجلدها المستعار، وفروتها الطوطمية، ولحيتها الرعوية المجلوبة من قاع الميثولوجيا، وقرابين المعابد الغائصة في خزائن الكهوف الوثنية العتيقة، وبين ثنايا الجبال الضبابية الرهيبة؟
بعد أيام، ترحل سونا مخلفة ذكرى مونِقَةً، وأثراً لا يمحى، وبهجةً لا تحدُّ. بعد أيام تأتينا أخبارٌ/ نمائمُ عنْ مَنْ كان ذاك المُقَنّعُ الذي لعب دور سونا، وتقمصها، وتماهى معها. فمن قائل إنه» بوشتى البويحياوي»، ومن قائل إنه: « الميلود الكيلي «، أو « قادا الحاجّي»، أو « بوجمعة العمراوي»، أو « الريموش السوسي»، أو « العربي الزكراوي»، أو « بوعلام اليعلاوي»، … الخ.
لم نكن نصدق الأخبار تلك؛ كنا نعتبرها مُغْرِضَةً وزائفة، ومُنَغِّصَةً علينا أفراحنا ومباهجنا. ربما، إمعانا مِنّا في الإبقاء على جذوة الخرافة مشتعلة، وبَلَلِ الأسطورة سارياً، وروعةِ الغموض والخفاء، قائمة. وخوفا من معرفة الحقيقة والواقع حتى لا نصاب بالإحباط، إذ كانا من العنف والقتل الرمزي ما جعلنا نتشبت بالأوهام والخيالات، وكل ما يَمُتُّ بصلة إلى الغرائبي والعجائبي» والميتافيزيقي « الأسطوري كالعفاريت، والجن، والأشباح، والغيلان، وما إلى ذلك.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 11/12/2020