نبضات : فاس أو السفر إلى متاه الفتنة والظلال ( غزلية بودويكية )

(تروم فاس أن تكون لغزاً. رُمَّانَةً تَضُمَّ حَبَّاتِها إنها غيابٌ في مرارة الحجارة)
الطاهر بن جلون

ها نحن، إذن، على موعد لاستدراج القصيدة، للبوح، ولترجمة الأشواق، وللصداح بين يديها، وسفح دم الأغاني والأناشيد قربانا لها، وزُلْفى إليها. لكن، ما الذي يستدرج الشاعر: القصيدةُ بعنفوان لغتها، واخضرار أعطافها وتيه أذيالها؟ أم فاسُ بأعشاش طيورها وحواريها، وعبق تاريخها، وروح تراثها، وشموخ رجالاتها، وفتنة نسائها، وسلطان جغرافيتها، وصمغ فقهائها؟
مَنْ يستدرج مَنْ؟ القصيدة أم فاس؟
ثم أليست فاسُ هي القصيدةَ التي تَنْكتِبُ منذ الأزل في مرايا الشمس الساطعة، وألواح الدهور المتلألئة بالحبر الإلهي، والدم القرباني، والأنشودة الزاهية، ونغم النوافير الزُّمُّردية، وصرير الأبواب، والأقواس، والمدارس، والحمّامات، والأزقة الأندلسية المُوَّشاة بالفسيفساء النيلية، والزخارف الغاوية، والرطوبة الخرافية، واهتياج العناصر الغامضة، والألوان القزحية المتواثبة، ونداء الحبق والبَابُونْجْ في أفنية الدور، والأفاريز، والشرفات المبحوحة الهائمة المفتوحة على الأسرار والبخور، وإثمَدِ الليالي الزرقاء؟.
الدروب متاهاتٌ، والأزقة الخرافية الظليلة المُندّاة، طواطمُ وقبعاتٌ طبيعية تَصُدُّ القيظَ اللاَّهبَ المتساقط شراراتٍ، كنيران الحَدّاد، على الرؤوس المتكاثرة المتناكبة في الزحام الذي لا يَني يتوالد ويتزايد متلألئا بالروائح، مشبعا بالألوان، ومختلف الأفاويه، مثقلا بالماضي التليد، والصُّموغ التي تَهُبُّ ناضِحةً بالأسرار والأجْفار والطَّواسين من المخطوطات والكراريس والكنانيش، ولفائف الخوابي والجِرار المنسية، وسُماق الصفائح المشوية. طحالبُ ونباتاتٌ متسلقة، ولبلابٌ أبديُّ الاخضرار أفعوانيٌّ مُلْتوٍ يتصاعد ليحَلِّقَ، وجَفْناتٌ وعناقيدُ عنبٍ معرشةٌ معلقة تُسيلُ لُعابَ الثعالبِ وبناتِ آوى والمجاذيبِ والعابرين المستعجلين. أفْنيةٌ مُونَقة مزوَّقة مكسوة شجراً أخضر. حنفياتٌ، ومراجلُ، وبابوراتٌ وصَوَانٍ وأباريقُ، وطاسات، وبُرْمات، وأوانٍ نحاسيةٌ أخرى أبدعها « مْعلْمينْ» مُحَنَّكون مُحَكَّكون فنَّانو الفطرةِ الوارثون. ونوافيرُ تضحك، نوافير من جبصٍ ورُخامٍ ومَرْمَرٍ يَهْزِجُ ماؤها تشْنيفاً للأذن، وفتنةً للنظر، وشِفاءً للقلب والفؤاد والبصر. وإذاً، هي مخارجُ ومداخلُ، مضايق والتواءات، ومنعرجات، وأبواب تاريخية ثابتة راسخة كأبي الهول، تَخْضَرُّ، مع ذلك، مثل الطحالب في الإهمال والنسيان، تتَأَرَّجُ بالبابونج، ومسك الليل، والغنباز، والأزهار، والحوريات اللاَّمرئيات، وتغتسل بنسائم الجنة: روح وريحان وجنات نعيم.
تَتَخَطَّفُني بُروقُ النساءِ المُجلْبَباتِ والسَّافرات. يتخَطَّفُني بَريقُ عيونِهنَّ اللوزية الفلكية، تأوُّدُهُن.. تنَهُدُهنّ.. تَثنّيهنَّ. تُرَقِّصُني العطورُ الفاغماتُ المُتَضوِّعاتُ التي تُرَقِّص حتى الحمير والبغالَ الصاعدةَ النازلةَ بالطّالْعتين الساحرتين، فما بالك بالرجال؟. يتخطفني جمالُ الغيد، ومَلاَحَةُ الأماليد. يتخطفني المارد التاريخيُّ العتيد فأتوهُ. أتُوهُ كالمُسَرْنَم متمنيا أنْ لا أعودَ إلى عقلي وصوابي، وألاَّ أُفيقَ من ذهولي وإعجابي، ومن الإشراق الفجائيِّ المصبوبِ فيَّ، والنداءِ الغامض المشْبوبِ الذي يُشْعلني فيحرقني.
وثمةَ أفنيةٌ وأفياءُ، و(غُرفٌ على غرفٍ يجري تحتها ماءٌ ألذ من الرحيق السَّلْسَل)، على حد قول الشاعر المغيلي. غرفٌ تَضُوعُ بالعطور والبَخور من صندل ولُبان، وجاوي، وند، وعود لقماري، يشهق لها الزائرون والمقيمون والمكان، فيحضر الملأُ الملائكُ، ويختفي الشيطان.
مصابيحُ أو سُرجٌ في أحضان مِشْكَوات، وخدود الأماسي المتأودات الراقصات تتورد وتتودد، الأماسي المزخرفة بلذيذ الحكي والمسامرة، وبديع القص والرواية، ووضاءة النساء وملاحتهن. سهرات مخملية، وأسمار مبهجة يُذْكي عذوبتَها ورقتَها وانسيابَها، ضوءُ القمر أو سُرُجٌ متوهجة الوَجْنات، تستحضر بحرقة الحنين كله، ووامق العشق جميعه، عروبيات فاس: ( رباعيات نساء فاس )، تلك الأشعار، بالعامي والفصيح الماتعة، الحَرَّى، المرفرفة، التي تنشدها وترددها على الأراجيح في البساتين الغَنّاء، والحدائق السندسية، وبوادي الجواهر الذائع الرائع، فتياتٌ ونساء وقد برَّح بهن الهوى، أو حملهن التوق والشوق إلى الحبيب البعيد، فهن يعبرن عما تختلج به أنفسهن، ويُهَجِّج عطشهن. كما تستحضر الأماسي الرائقات حكايا ومرويات « حرّْبَا «، و» عسّالة «، و» عيشة قنديشة « الساكنة نهر سبو، والغيلان الليلية السائحة بين السفوح والبطون، والأودية والكهوف، وباقي حراس الدروب والأزقة المعتمة، والمقابر» المُتْرَفَة « حيث مراقد الملوك، والعلماء، والشعراء، والمتصوفة، والفقهاء، والصلحاء، والمجاذيب، وعِليَّةُ القوم طُرّاً.
فاسُ صهوةُ ضوءٍ، نهرٌ للحلم والهذيان، للسحر والاستيهام، وَمُرْتَقَى نَوَارِجَ كَرَاماتية ومعارجَ أوليائية، ونواعيرَ تاريخية، وعطورٍ لاسعةٍ لنساء «فَتْخَات»، «مَسْرارَاتْ»، ومُنْشآتٍ كالأعلام، حفيدات فاطمة الفهرية، ووَلاَّدَة بنت المُسْتكْفي، وكَالِيبْسُو، وأَفْرُودِيتْ. (بياضهن من زبد البحر أو رغوة أفراسٍ مجنحة طالعة من صهيل الأسطورة، وحرير العُرْي الثلجي، ودَانْتِيل نوار اللوز)1.
وفاسُ هي القصيدةُ الأبدية التي ما فتئت تغزل الأماسي المُتْرَعَاتِ بالفُتُون، والمسقوفةَ بالظلال الرَّوَّاغةِ اللّعوبِ، والسراب الرَّخيِّ والتيهِ الضّاج، وتنسج للآتي تآويلَ اللاَّزَوَرْد، وشهقة الورد، وعنفوان الجمال، ونعمة اللون والمداد.
إن الشعر إمكانٌ لغوي رفيع يسمح بأن نَرَاكِ يا فاسُ بشكل مختلف، ونَتَهَجَّاكِ كأطفال حليقي الرؤوس يُغَالِبُهم نوم الصباح، وَيْؤَجِّجُ شهْوَتَهُم عُّنَّابٌ في الباب المُوَارَب يسقي أُصُصاً عطْشَى، وينثر الحَبَّ، في خَفَر، لطيور صَدْيانَة لاَجِئةٍ. ونُصْغِي عميقا إلى أحلامك وجراحك، ونَرْحَل خطاطيف مخطوفة إلى شقوق حيطانك، وأنفاس طينك، وماء فَسْقِياتك، وصلصال حَمَإك، وفتنة رُوَائِك، ونقول ماضِيَكِ وَحاضِرَكِ وَغَدَكِ، بهَفَهاف الكلام، وسحر البيان، وسلطانِ النشيد والتغريدِ أيتها الملتفةُ بنداوتها على بَضَاضَتِهَا المتجددة كامرأة خارجة للِتَّوِّ من الحُبِّ.
ومَنْ لم تُلْهِميهِ شعراً أو نُتَفاً من القول الشعري، بالأحرى، ففيهِ العَيُّ والفهَاهَةُ والحُبْسةُ.. لا فيكِ أنتِ:
أيتها الشامخةُ في رِقَّة وَعنفوانْ
الفارِعةُ في شَبَهِ البَانِ والخيزرانْ
.. السَّنِيَّةُ السامقةُ
ذاتُ الجيد الأمْلُودِ ..
أيتها الغزالةُ المستنفرةُ
كأنما على قلقٍ
أو خوفٍ من بطش باطشٍ،
يَا قَمرًا بُرتقاليا يَرُشُّ الضوءَ والسكر على صفصافة العالمين المترامية.

هــامــــش:
1 ـ ألمْ تقل أنَاييسْ نَانْ في نساء فاس: (جئت لأنظر إليهن، لأن جمال وجوههن كان خرافيا. وقد تبين أن الأمر خالٍ من أية مبالغة، كانت وجوههن مكتملة الجمال، بعيون واسعة كالجواهر، وأنوفٍ رفيعة ومستقيمة مع تباعد كبير بين العينين، وشفاهٍ مكتنزة وشهوانية، وبَشَرَة في منتهى النعومة. ولهن دائما هيأة الملكات. كان من الأجدر نَحْتُ هذه الوجوه بدلَ وصفِها، لأن ملامحها كانت في غاية النقاء والوضوح، كنت أظل مشدودة إلى وجوههن».
( ورد هذا الكلام في كتاب: « فاس مقام العابرين «. ــ تأليف محمد العلوي البلغيتي // ـ ترجمة: محمد الشركي. ).


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 05/11/2021