نبضات : في قدميه ريشٌ وريحٌ

 

حلما لازَوَرْدياً كانت وجدةُ. فيلماً رومانسيا ملونا مبهرا، وهدفا عدنيا وأرْكادياً. يوتوبيا بوجيز العبارة بالنسبة للطفل الذي كنته وهو يراهقُ الخمسةَ عَشْرَةَ، ويفتح عينيه على الضيّق والمديد، البدوي والحضري، المَدَري والوَبَري؛ ويَزْهَقُ من وجع الآلام والوساوس، وضغط المشاكل والعتمات، والمراقبة العائلية، والجدولة الصارمة ليومياته. وكانتْ بغيةً لا بغية بعدها تتخلل نهاراته ولياليه في سنته الإعدادية الأخيرة بسمائه الأولى جرادة. أشهرٌ معدوداتٌ تفصله عن جنته المعبودة، وأرضه الموعودة التي تعج بالحدائق والنمارق، وتزدهي بالأشجار المصفوفة المشذبة المحلوقة بعناية ورعاية الجمعيات والجماعات المحلية. كما بالمقاهي المتلألئة بالنيون، المبثوثة على جنبات شوارعها المستوية المعبدة العريضة، وصوامعها وجوامعها البديعة، والباب الغربي ذي العبق التاريخي، وباب سيدي عبد الوهاب العتيد الهاش والباش للغادين والرائحين، والزائرين العابرين، والقاطنين المقيمين. وبقاعاتها السينمائية الفسيحة التي ستكون للفتى قِبْلةً، وموئلا ومنتجعا وحياضا يطفيء فيها غلته، ويبل فيها عطشه النفسي والمعرفي، ويشعل فيها رغبته الدفينة في أن يحاكي أبطالها وعشاقها الرومانسيين، لأنه كان يزاوج، متفرجا، بين الأفلام الهندية والمصرية بسينما « النصر»، والأفلام السياسية التي كانت من اختصاص سينما « باريس»، وأحيانا سينما « كوليزي»، قبل أن تظهر سينما « رويال»، وتنافس سينما « باريس» نسبيا، وإن ظلت باريس هي باريس.
لكنه يذكر أن خرجته من جرادةَ إلى وجدةَ، كانت خرجتين يتيمتين خاطفتين لم تستغرقا أكثر من نصف نهار في المناسبتين: خرجة مثَّل فيها، إلى جانب تلميذين، ثانوية جرادة وهي تنافس ثانويتين إعداديتين ربما بركان ووجدة. وكان مسرح التمثيل هو إذاعة وجدة الجهوية ضمن برنامج» بين المدارس» الذي كان يعده ويشرف عليه، ويقدمه الإعلامي القدير المرحوم: العابد السّودي القُرَشي. وخرجة مدرسية إشهادية قوامها أعداد وفيرة من تلاميذ السنة النهائية إعدادي لاجتياز مقابلة ديداكتيكية شفهية بالفرنسية بإحدى ثانويات وجدة، أيام كان لدبلوم نهاية الطور الأول من التعليم الثانوي، قيمة، وسمعة، واعتبار. ولا يسمى ناجحا إلا من حصل على معدله العام الجامع بين الكتابي والشفهي: ( يتم الاختبار الكتابي بجرادة، بينما تدور وقائع الشفهي بوجدة). وجرت العادة أن يعلن عن ذلك في حفل باذخ يقام بسينما جرادة حيث تهتبل المناسبة للإعلان عن الناجحين الذين سيتابعون دراستهم وتحصيلهم في شتنبر المقبل بوجدة، ولتوزيع جوائز التنويه والتشجيع والاستحقاق على النجباء اللامعين. حفل باذخ وعظيم تملأ فيه القاعة عن آخرها، بل وتفيض بالحاضرين والمدعوين، والمتطفلين الذين يقتعدون السلالم الحجرية، والأدراج الإسمنتية، أو يستمرون واقفين إلى نهاية الحفل.
كل الأعيان ورجال السلطة ووجهاء القبائل، والشيوخ والأساتذة، وآباء وأمهات التلاميذ، يحضرون وهم في شوق ملتهب، وفضول كاسح إلى سماع أسماء الناجحين والناجحات الذين أفنوا سنوات أربعة في الإعدادي باحتساب قسم الملاحظة، الذين سيرفعون « رأس « جرادة عاليا، و» يُحَمِّرون» وجهها.
طرت من مكاني وأنا أسمع اسمي يتردد في القاعة الفسيحة حتى خلت أن الناس يرددونه مع المردد، وأن الأسوار تتصادى معه، وهم وقوفٌ يصفقون تصفيقا يكاد لا يتوقف، وبيرق وجدة يخفق في خافقي منتصرا، وعلى قُنَّة الأمل مومئا ومبشراً.
وها إنني نجحت، وجُزْتُ الإعدادي إلى الثانوي التأهيلي، بعد أن احْتَفَنْتُ في الحفل المذكور، كتبا وموسوعات بمثابة جوائز، فكأنما كانت تلك الجوائز تصديقا لنجاحي، وبرهانا للحاضرين على اجتهادي، واستحقاقي ذاك الفوز المبين، ودخول وجدة دخول الفاتحين.
وفي لحظة كأنها الطيفُ، كأنها الخطفُ، حَزَّ في نفسي أن أغادر سمائي الأولى، ومربعي ومجالي نشأتي وترعرعي. وعزَّ عليَّ الفراق والبعاد والفطامُ. لكن صوتا في داخلي هوَّنَ علي ما كنت فيه إذْ ذكرني بأن جرادةَ ستظل قبلة العودة، ودار الرجوع في نهايات الأسابيع بعد أن يسلخ الفتى الأيام االخمسة في الدراسة والتحصيل، واللهو والعبث، والحب، والسينما. ويسلخ السنوات الثلاث في الكتابة والادعاء بأنه وجودي سارْتْري، وكاموي عبثي، وعدمي نِلْسوني، ومادي ماركسي. وغير مؤمن إلا بالواقع الحي العيني الملموس والمحسوس. فأما الماورائي والسماوي والميتافيزيقي، والديني فلاشأن له به. أليس هو من استعبد الناس، أو وضع على لسان المستبدين ما به استعبدوا الناس، وهيمنوا عليهم وتجبروا؟
كانت مقولة ماركس: « الدين أفيون الشعوب « التي اقتلعناها من سياقها، ومن دون فهم، إنْجيلَنا ومُضَلِّلَنا حتى تهنا في ما لم يكن لنا عهد به ولا دراية ولا علم. وطفقنا نخوض في قضايا سياسية وإيديولوجية أكبر منا وأبعد شأواً.
اِنْفَضَّ الحفل البهيج، الحفل التاريخي الموشوم في قلب وعقل وذاكرة الفتى المرقوم إلى اليوم. فكأنه ما يفتأ يقام أمامي، وكأن أضواء كشافات الضوء وزغاريد النساء، والأعداد العديدة الهائلة من الحاضرين والحاضرات، وصفوف أساتذتنا المغاربة والسوريين والفرنسيين المشكلين نصف دائرة مزدوجة على الركح، يتوسطهم مُقَدِّمُ الحفل الذي لم يكن سوى المعيد محمد واعلي ابن خالتي تغمده الله برحمته، ومنظِّمُهُ والمشرف التقني على إدارته، المرحوم الميلود عبّي، لا تزال تضيء أيامي، وتطرد بالبهجة الدائمة عتمات روحي، وكآبتي وأساي.
انفض الحفل في القاعة، لكنه استمر متلألئا في منزلنا الصغير، وقد حَفَّ بي الجارات والجيران، وأفراد العائلة، وأبي الأبيّ، وأجمل الأمهات: أمي.
اكتظ المنزل بالمتقاطرين والمتقاطرات المهنئين والمهنئات، وضجَّت أركانه ومساحته على ضيقها، واصطخبت بالغادي والرائح، الزائر والمودع. وتزاحمت النعال والأحذية والقباقب على العتبة. وفجأة، اشتعل بنديرٌ وطبلٌ، وغيطةٌ، واشتعلت معها حناجر النساء وهن يرددن بصوت واحد حاد وعالٍ: ( أمحمدْ القَاري ستّينْ، حَطّْ لَمْظَلّْ وْسَلَّمْ على الزّينْ ).
أُلْبِسَ الفتى فوقية بيضاء فضفاضة، وحُشِرَتْ قدماه في بَلْغَة أبيه الصفراء، ثم رفعته زنود الرجال المفتولة، والأذرع القوية المتشابكة التي شكلت « عَمّارية « كأنه عريس. أطلقت النساء شعورهن، وفككن ضفائرهن، وصرن يجذبن في كل اتجاه، ورأَسَتْ أمه الجذبة، واهتز جسمها النحيل كأنه ورقة في يد الريح. ونطَّتْ وعَلَتْ ونزلت كريشة في مهب الجنون. لم يرها ابنها يوما تجذب حد الإغماء. فهل كانت جذبتها من فرح أو من ترح، أو من سلوى وعزاء وقد قطع ابنها الفيفَهَ الخالي، والبيداءَ الموحشةَ الأولى، والوادي الغضبانَ الهادر، ونجح في العبور؟. وفي الأثناء، وأنا في اللجة أعوم، أغوص وأطفو، وفي المنطاد أحلق، و بين الأمواج أخضخض، رأيت جدتي العظيمةَ لَفْقيرَة فاضْمَة تتقدم ملوحة لي بيديها البيضاوين الناعمتين، ملفوفة في إزارها الثلجي الحريري الفاتن، وفي يدها مسبحة خضراء الحبات تدحرجها مبتسمة مستبشرة ومنشرحة. رأيت الدموع تتجمع في عينيها، دموع الفرحة بفرْخها يطير وقد صار له ريش. فلعلها جاءت لتبارك نجاح سِبْطِها الذي أحبته فوق كل حب، ورعته مع أمه فوق كل رعاية. وملأته ثقة بنفسه ما كان له أن يحققها لو لم تكن لفْقيرة فاضْمة راعيةً ومربيةً له، ومشرفة عليه، وموجهة لخطوه أيام كان كثيرَ العِثار، جَمَّ التردد، غزيرَ الأكاذيب، ثَرَّ الأعذار والخيالات المريضة. آآآه… يا جدتي الحبيبة: لو كنتِ الآن معنا. لو كنتِ مع عريسك الفتى المتوج وقد نجا من الضواري، وشق غابة الذئاب، وألقى عصاه في وجهها ففرتْ، وتفرَّقتْ أيدي سَبأ، كأنه إيليا، أو كأنه موسى.
رُدَّ الفتى إلى الواقع على صوت غليظٍ أجَش آمِر، يطالب حامليه بإنزاله لتلقي هدايا الزائرات والزائرين. وكانت الهدايا عبارة عن مال « وفير « لم يجمعه طيلة سنواته الفائتات. مال ذهب سريعا قربانا في لذيذ الطعام، وسائغ الشراب مع الأصدقاء والزملاء والزميلات والأتراب.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 25/06/2021