نبضات : ليلةَ أمطرتِ السماءُ ملائكةً، وشوهِدَ عَكْنوشْ بين الغيومِ

حدَثَ ذلك ذات ليلةٍ مقدسة مباركةٍ من ليالي القَدْرِ، وقد استمر الإمطارُ الملائكي إلى مطلع الفجر. نزل الملائكُ مُسَوِّمينَ بأجنحة لُجينية ومُفَضَّضَة، ومزخرفة بالتِّبْر والسندس. نزلوا ينشرون الرحمةَ، ويطلقون البِشارةَ بقبول رب العالمين دعوات المؤمنين، وابتهالات الصادقين الخاشعين المُتهَجّدين الذين ما فتئوا يصلون ويصومون، ويقضون الساعات الطوال في أداء النوافل من دون شكوى أو ضجر أو تَبرُّمٍ. الملائك ـ إذاً ـ استجابة مشخصة من لدن العلي القدير، لطلبات عباده الصالحين القاطنين بجرادة وضواحيها.
هَبَّ الناسُ قاطبةً: رجالا ونساءً وأطفالاً. اعتلوا سطوحَ منازلهم، وملأوا الدروبَ والأزقةَ والساحاتِ، كلهم نَظَرٌ إلى الأعلى، إلى مصدر ومنبع المطرِ المُضيءِ كالبرقِ المتلاحقِ وما هو ببرقٍ، والمُشِعِّ كالنورِ الوَهّاج وما هو بنورٍ. وتعالتِ الصيحاتُ، والتسبيحاتُ، وضَجَّ الجميعُ يلهجون بالحمد والشكر والعِرْفان، إذْ أنَّ طلباتِهم المحمومةَ المنتظرةَ، من زمان، ستحققُ، وأمنياتِهم الغزارَ أنْ يُغْذِقَ الله عليهم الرزقَ والصحةَ، والمالَ، والوِلْدانَ الأبرارَ، قدْ رَضيها المولى، واستجاب لها، وقضت حكمته أن ترى النور، وتتبلورَ مُجَسَّدَةً على أرض الواقع.
غير أن الحكماءَ العقلاءَ، العارفين، و» الراسخين في العلم «، انبروا يرفعون أصواتهم الآمرةَ الناهيةَ بإيقاف الضجيج، والإنصاتِ إلى ما سيقولونه لمعرفة، وإدراك ما يقع أمام أعينهم، وما يرونه من أنجمٍ تتساقط، ويتشظى ضوؤها مُتذَرِّراً على قُنَنِ الجبال، وأعماق الأودية، وهامات الأشجارِ. فواقع الأمر غير ما يدَّعيالجمع الهائج المائج، وما يُرَوّجه المتسرعون الجاهلون. فما يرونه، ويبصرونه إِنْ هو إلا شواظٌ من نار ونحاسٍ مُرْسَلٌ على الشياطين الذين ضُبِطوا يتلصصون على الملإ السماوي الأعلى، ويَسْتَرِّقون السمعَ لملائكة الرحمان، وهم يسبحون للذات العليَّةِ، آناء الليل وأطراف النهار. ولا شك أنَّ التسبيحَ يزداد ويتعاظم، ويملأ أسماع الكون والكائنات، في الشهر الفضيل: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس، وبينات من الهدى والفُرْقان ).
فتلك الشُّهُبُ الرَّاجِمَةُ، والحِجارةُ السّجّيليَّةُ اللاَّهبةُ، وشظايا النيازكِ المحمومةِ، إنما هي دفْعٌ ورَدْعٌ للشياطين والأبالسةِ، وصَدٌّ لهم ليعودوا أدراجهم ويتقهقروا إلى قرار سَقَرِ ، وباطنِ الجحيم، أو يهيموا على أوجههم الكالحة في ملكوت الله، تطاردهم لعنته الأبديَّةُ، وخَزْيُهُ العظيمُ إلى يوم الدين.
وفسَّر الحكماءُ للدَّهْماءِ الهائجةِ، والأطفالِ الأغْرارِ، أنَّ الأمرَ سواءٌ: فإبعادُ الشياطين، هو إفساحُ الفضاء الكوني المتراميوالمتراحب، للملائكة حتى يوزعوا الحسنات والرحمات، ويُعينوا المؤمنين والمؤمناتِ على تجاوز العقباتِ، وتخطي الحواجزِ والنكباتِ، طبعاً، بإذْنٍ من فاطِرِ الأراضي والسماواتِ.
استوعبَ الرجالُ، مستبشرين، منشرحين، ما ذهب إليه حكماؤهم، فرفعوا عقائرهم بالتسبيح والتمجيد، والثناء والتحميد، وهلَّلوا، وحوْقَلوا، بينما عبرت النساءُ عن فرحتهن، وتهليلهن بالزغاريد، وترديد: ( الصّْلاَ والسّْلامْ على رْسولْ اللهْ، إلاَّ جاهْ، جاهْ سيدنا مُحَمَّدْ، اللهْ معاكْ الجاهْ العالي ).
وها هو وقت السَّحور يُبَوِّقُ، وصوت الله أكبر يرتفع إيذاناً بتناول الوجبة « المقدسة «، فالفجر اقتربَ، والنوم استبدَّ.
اِنْجَحَرَ الجميعُ في بيوتهم، ثم خَلَدوا إلى النوم، تؤَرْجِحُهُم الأحلامُ، وتُهَدْهِدُهُم البِشاراتُ. وفي وقت الظهيرة، وكنا ـ نحنُ الأطفالَ ، نتوهُ ونتسكع، فينا الصائمُ، وغيرُ الصائمِ، رأينا شابا على مبْعَدَةٍ: يدٌ مشلولةٌ مقبوضةٌ إلى صدره، ورِجْلٌ عرجاءُ مجرورةٌ، يتجه نحونا. عرفنا أنه الذائعُ الصّيت، الشهيرُ: عكنوشْ لَحْبيبْ. توقعنا أنْ يحدثنا عن المَلائكِ، وعما رآه أوْ « أُلْهِمَهُ «. وكنا نعرف أنه بارعٌ في نسج « الأكاذيب «، فسيحُ الخيال، بعيدُ مَهْوَى التوهم والخَبالِ. هو ـ إذا شئنا ـ الوجهُ الثاني لِ « الشّْريفْ « الذي خصصتُ له ورَقةً سابقةً، الوجهُ المكمِّلُ والنقيضُ في آن. لا يجتمعان أبداً، وإذا اجتمعا فإنهما لا يسكتان. يستأنفان كلاما لم يَبْدَآهُ، ينتهي، غالباً، بتبادل الشتائم النَّكْراءِ، والسِّبابِ اللاَّسعِ المُؤْذي، والكلامِ النّابي البَذيءِ. الواحدُ يُكَذِّبُ الآخرَ فيما هما يكذبان معاً، فينعشان الجلْسْةَ، والحلقةَ، ويُجمِّشانِ آباطَ الأوقات، ويدغدغان مُشْطَ أقْدامِ الساعاتِ والأيام. كانا ـ رحمهما الله ـ ملحَ جرادةَ وبَهارَها، وطعمها الآخرَ، وَوَجْهَها المتخيلَ والمُتَوَهَّمَ، والمحبوبَ مع ذلك، والمعشوقَ الذي لن يأتي.
فإذا كان قد أوثرَ عن « الشريفْ «، دَسُّ أنفِه في السياسة، والاغتياب، والقيل والقال، ومَهارتُهُ في تسخير جسده وخيالهِ في مِهنٍ متعددة بينها: تكليمُالبندير في الحلقة، والتَّسوُّل أحياناً، وحضورُ الجنائزِوالتَّثْبير، وعشقُ السينما والتبريحُ في الأسواق، والحواري، ف» عكنوشْ « أتْقنَ نَسْجَ الحكيِ المتخيل الفنطاستيكي الذي كنا لا نشبعُ منه، ومن كَذِبِهِ المُشْتَهَى، وبراعةِ نَسْجِهِ المُنْتَظرِ.
من ذلك، أنه في ليلة القدر التي أومأنا إليها، والتي ظن الناس أن الملائكةَ نزلتْ فيها بإذن ربِّها على شكل طيورٍ ألماسيَّةٍ لامعةٍ، ونجومٍ وضيئةٍ، وأنوارٍ ربانيةٍ لاَ قِبَلَ للناس بها؛ حَدَّثَنا، وكان وَصلَ إلينا وحيَّانا ضاحكا ومُنَحْنِحاً، عن طيرانِه هوَ بين الغيوم في الليلةِ ذاتها، كأنما حَطَّعلى فراشه ـ وهو بين النوم واليقظة ـ طائرٌ عملاقٌ هائلُ الحجم لعله طائرُ الرُّخِّ الأسطوري، فَشَدَّهُ من وسطه، ورفعه إلى الأجْوازِ العليا، بعيداً عن الجاذبية، ورَماهُ بين الأرض والسماء فإذا هو سابحٌ بين الغيومِ الرمادية والسوداءِ المتناثرةِ كالعِهْنِ المنفوشِ في جنبات السماء، يرانا، ويرفع يديه مُحيّياً وهاتفاً منادياً بأسماء أصدقائه الخُلَّصِ، ومُحِبّيه. ثم راح ينظر إلينا منتظراًرَدّاتنا، وهو يُقْسمُ بالله، وبأولياءِ جرادةَ الصالحين: ( سيدي أحمد بن الشيخ )، و ( سيدي مُحَنَدْأُوصالحْ )، بأن ما يقوله حدَثَ ووقعَ، وقد ناداه بعض الناس باسمه في ( حاسي بْلالْ)، و( سيدي لخضرْ)، و( عَكَّايَةْ )، وقالوا: إن الله أحبه ورفعه، وأكرمه باصطفائه من بين السكان، واختياره من بين عباد الله. قلنا بصوت واحد: ولِمَ عدتَ إلينا؟، لِمَ عُدْتَ إلى الألم والبؤس والعذاب؟، ولماذا لم تطلبْ من الله سبحانه أن يعيدَ إليك صحتك، ورجليك، ويديك، لتصبحَ سوِيّاً كباقي خَلْقِ الله، كنحنُ مثلاً؟، ويعطيك ما يُغْنيكَ عن « كْحَلْ الرَّاسْ «؟
غَضِبَ، وتَمَيَّزَ غيْضاً، وطَفِقَ يشتمنا ويلعننا: ( اللهْ يَنْعَلْ وَلْديكُمْ أوْلاَدْ لَحَّرامْ.. تْفو.. تْفو لْكَنْسْ الناقصْ، واشْ لَمّكُمْ أنْتُمَا قَرْيِينْ بْحالي بَشْ تْهَزّْكُمْ الملائكةْ، وتْعَليّكُمْ فَسّْما. خَصّْكُمْ تَعَرْفوا بَلّي هذاكْ الطّيرْ لَكْبيرْ هو الشافْ دْيالْالملايْكَةْ. تْفو.. تْفو ).
ومن غرائبهِ وبدائعهِ، وأسرارِهِ ـ رحمه الله ـ أنه كان يختفي لأيام، طبعا في منزله الكائن بدوار أولاد سيدي علي، أو دوار بني كِيلْ، إنْ لم تخُنّي الذاكرة، مُدَّعياً أنه سافر إلى الهند والسند، وإلى روسيا، وبلدان أخرى لم نسمع بها أبدا، والتقى بعظماء الصين واليابان، وسِيخِ الهند، وسنادبَةِ العُرْبان. وأنه رأى هاجوجاوماجوجاً، وَعَجائبَ لم نَرَها، ولن نراها، لأننا صغارٌ، ودون علمه و» بركته «. وإذا استُزيدَ بإلْحاحٍ ومُناشَدةٍ مِنّا، ينطلق في رواية ما رأى في الخيال، والوهم والخَبَالِ، من دون توقف كأنه يقرأ في كتاب، أو كأنَّ ما يحكيه عِيشَ فعلاً، وما يرويهِ رُئِيَ واخْتُبِرَ. ثم يضيفُ بأنه كان ولا يزالُ عاكفا في (مختبره) بمنزله، على تحضير خَلْطةٍ عجيبة من أعشاب مختلفة جمعها من غابة إِفْ 4، ممزوجة بأملاحٍ ومعادنَ جَلَبَها من دكان الحاج لْمَصْطْفَى، من شأنها أَنْ تُقَوّيَ الباهْ، وتعيدَ إلى العجائز والشيوخ، نَضارَةَ الشباب، بل: وتطيلَ الحياةَ.
أَعرِفُهُ كما يعرفه أطفالُ وصبيانُ وغِلْمانُ جرادةَ؛ بل كان زميلي في المدرسة. جمعنا نفس القسم في الخامسة ابتدائي بمدرسة ابن سينا. وكان يكبرنا سِنّاً: جسم ضخمٌ، ورأسٌ كبيرةٌ، يرتدي معطفا « غوغوليا « أزليا، وعَطبٌ خِلْقيٌّ في اليد والرِّجْلِ على رغم ادّعائه بأن العطبَ الجسمانيَّ نتيجةَ سقطةٍ من سطح عالٍ مقدار طوله عشرون متراً، والحالُ أنه لم يكن في جرادةَ ـ زَمنئذٍ ـ منزلٌ، ولا مَبْنى ولا عِمارةٌ تَبْلغُ هذا الطولَ. وعندما ينسى، إذ أنَّ حَبْلَ الكذبِ قصيرٌ، يقول بأن شللَهُ هو من فِعْلِ جنيَّةٍ انتقمت لرضيعها لما سَلَقَه بسَطْلِ ماءٍ ساخن صبَّه في المرحاض بين العصر والمغرب.
وأذْكُرُ فيما أذكرُ، أنه كان يقوم وسط الحصة، والمعلم عُصْفورْ يشرح الدرس، ليرقص رقصا جنونيا غير آبهٍ بِ « حُرْمة « الدرس، ولا بحرمة المعلم. ذكَّرني بِ زورْبا: بطل الرواية الرائعة لنيكوسْكازَنْتْزاكيسْ التي تحمل العنوانَ نفسَه. يرقص مُقلدا إلْفيسْ بْريسلي، وكان ـ أيامئذٍ ـ ذائعا رائجا، ورقص الرّوكْ والتّْويسْتْ على كل رِجْلٍ وجسم، ولسان.
وكأنَّ المعلمَ عصفورْ اليزْناسْني، وقد اسْتَمْرَأَ رقصهُ الذي يكسرُ رَتابةَ الحِصّةِ الثقيلةِ، كان يأذَنُ له، أحيانا، بالرقص في الدقائقِ الباقياتِ من حصة الدرس، تحت تصفيقاتنا، ومَرَحِتَصْخابِنا، الشيء الذي كان يجذب انتباه المدير أنْطونا، فيأتي ليستطلع جليّة الأمر، كل مرَّةٍ، فيبادر معلمنا سي عصفور إلى طَمْأَنَتِه بفرنسيته المُضْحِكة، بكونِ الحصةِ فنيةً تقتضي المَسْرَحةَ والتمثيلَ.
وكانَ أَنِ انقطع عن الدراسة والتحصيل، أو قطعوه لأنَّ رسوباتِه توالتْ حتى أزْمَنَ في الخامس ابتدائي ( المتوسط الثاني باصطلاح اليوم).
ــ لم نعد نراك في المدرسة، ولا في الثانوية، فأين تدرسُ يا عكنوشْ؟
ــ ما عَنْدْكُمْ خْبارْ.. في روسيا، لْبارَحْ عادْ جيتْ.
نتظاهرُ بتصديق ما يقول ـ متغامزين ـ ونَجْهَدُفيكَتْم ضحكنا وتعليقنا:
ــبْرافو، برافو. تْبارْكْ اللهْ عليكْ. إلا الشّْريفْ فإنه ينعته بالكَذّاب، والمُمَخْرِقِ، مضيفاً: ما يَقْراعْ.. ما يَعْواجْ غيرْ البَلاَ المسلط؟
ــ وأينَ أنتَ، الآنَ، يا عكنوشْ؟
ــ في دار البقاء.. في مقعد صِدْقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ.
فليرْحَمكَ اللهُ، ولْيَغْفِرْ لنا ولك ما تقدم من ذنبك وذنبنا، وما تأخَّرَ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 29/01/2021

أخبار مرتبطة

بمناسبة عيد الأضحى، الذي يحل يوم الاثنين 17 يونيو 2024 ، الموافق لـ 10 ذي الحجة لعام 1445هـ، تتقدم مجموعة

أعلنت حديقة الحيوانات «كروكوبارك» أكادير، الخميس، أنها ستستقبل 16 تمساحا من نوع «سوكوس» (suchus) من حديقة حيوانات «أكواتيس» (Aquatis) في

جددت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في بيان أمام الدورة العادية للجنة الـ24 التابعة للأمم المتحدة، بنيويورك، تأكيد مواقفها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *