نبضات : … والــعـَــوْدُ أحـْــمَـــدُ

أصبحت كالجمل الهائم الهامل، وكالشقي الضال الضائع بين الحواري والدروب، الواقف على قارعة الطريق، بل قارعة الحياة والوجود، أعلك هواء الفراغ كسنجاب متوحد، وأقضم شارداً أظافر الملل من الألم، منتظراً كِسْفا من السماء، أو رغيفا ساخنا شهيا خارجا من تنور خرافي لم تعجنه يدان، ولم يخبزه إنسان، أو كِسْرةَ عيشٍ حافيةً يابسة مطروحة في إحدى زوايا الحي كأي سَقْط متاع. تساءلت حائرا، مُفيقاً وساهرا، متوفزا وخائراً: هل سأظل غاديا رائحا، ذاهبا آيباً بين جرادة وبركان، أراوغ ظلا ثخيناً إخاله يتعقبني، وشبحا مَسْخاً أحسبه يتهددني بالنشل والخطف، وشرب الدم، وهَوَاماً مخيفا يتوعدني، ومينوتوراً رهيبا يترصدني عند المنعطف في متاهة قَدَري. ثم، ماذا يريد مني هذا الذي يَخْزِرُني حانقاً، ويتظاهر بالنظر إلى ثقب في السماء، أو نجم في عز الظهيرة، وذاك الذي يَحْدِجُني بطرف عين ذئبية، مؤمِّلا أن يلتقط فحوى أو فتات فحوى ما يدور بيننا ـ نحن الصّحابَ ـ في المقهى، ليبهج به المكتب الذي على البال، ويرتقي بي ومن خلالي، درجا حديديا صدئا ومنخوراً، درج السفالة والنذالة والاغتياب، متصوراً أنها فرصته الثمينة في مشواره، إلى الرياسة والكياسة، ومدخله الوثير إلى القيادة والريادة، بل: إلى الاتِّضاع والقِوادة؟
السنة الدراسية تدنو من الصيف، وتوشك على الانتهاء، وأنتَ حيث أنتَ معلق كمِزْقةٍ على غصن شجرة، بين أعوام فائتة كالسعد أشرقت، وكالنجم لعلعتْ وَوَمَضَتْ، ثم سرعان ما خبا إشراقُها، وتلاشتْ لعلعتُها، وذَوَى وَميضُها، وبين عامين حاليين: 75 / 76، بقدر ما مَلآكَ عزْما وحزما، وعنفواناً، ونشاطا غير مسبوق، بقدر ما ضيعا عليك، وفَوَّتا هدفا سعيت مُجِدّا إليه، وعملت ما في وسعك من أجل تحقيقه، ذاك الذي تَمَرْأى وتجسد في رغبتك الجامحة، وتصميمك القُطْرُبي على مواصلة تكوينك الجامعي، وتحصيلك العلمي بما يُثيبكَ ويزيدك ثقافة ومعرفةً، ورحابة في التفكير والإضافة، وسعةً في الأفق والقيافة.
فماذا قررتَ قبل أن يلفظوك لفظ النواة، ويطرحوك في صندوق قمامة مثلما تطرح قشور التين الشوكي الذي لا يمتع ولا يفيد على الأقل في تقديرنا وتشبيهنا ـ وإلاَّ فإن نفعها لعميمٌ، وتلك قصة أخرى ـ كأنْ يُلْحِقوك بالإدارة البائسة الرتيبة، أو يعرضوا عليك تدريس اللغة الصينية هذه المرة، ولِمَ لا: الهيروغليفية؟، فكأنك أضحيتَ بلسما لكل جرح فاغر، وترياقاً لكل سم زُعافٍ غادر، وموئلا أثيراً لكل مشرد سادر، وماءً زُلالاً لكل ظمآن، ومفتاحا سحريا لكل باب عَسُرَ فتْحُه، واعْتاصَ فَضُّهُ، والدُّلوف إلى حَوْشِه وفِنائه؟
فهل تعود إلى الكلية بعد أن تختلقَ الأعذارَ لنفسك، وتخترعَ تبريراتٍ تُرْضيك، وتُشْفيك، وتُبْريءُ حيرتك وتمزقك، وتمنحك وَهْماً تتشبت به، وتصدق « لاواعيا « أنه الحقيقة وغيره السراب، دَرْءاً لِحَنَثٍ، ونَقْضاً لِمَا غزلته الأيامَ والليالي ذوات العدد مثل بينلوبْ، وما عاهدتَ نفسك عليه؟
لكن، أنسِيتَ أنك حَصَبْتَ فكرة العودة إلى الكلية حَصْباً، وأقسمتَ بأغلظ الأَيْمان بأنك لن ترجع إليها ولو قلَّدوك الوَجاهَةَ، وأوْلَجوكَ السنةَ التي أَخْسَروكَ، من دون امتحان ولا اختبار ولا يحزنون؛ بل ولو رفعوك عريساً مُتوَّجاً فوق هودجٍ مُوَشَّى بالحرير والدمقس والديباج، ومُمَوَّهٍ بماء الفضة والذهب؟
لَكَمْ ينخدع الإنسان ـ في فترة من فترات عمره قد تَقْصُرُ وقد تطول ـ بشبابه وقوته، وفورته، وفتوته، فيحسب أن الكونَ كرةٌ بين قدميه، وأن الزمانَ دابةٌ ذَلولٌ منقادةُ يُسَيِّرُها كيف يشاء، ومتى يشاء، وأَنّى يشاء، ويستنزف، مِنْ ثَمَّ، ما جُبِلَ عليه، وما راكمه، واكتسبه، وجمعه من نجاح وإخفاق، وما سامَهُ من هوان وعذاب، وكابده من معاناة وغَلَبَة وخذلان، منتشيا أكثر الأحيان، موجوعا ملتاعاً في النادر أو الهادر من عصف وخزي وامتحان، غير آبهٍ ولا مكترث بما تخبئه الأيام التي هي جزء لا يتجزأ من طاحونة الزمان تلك التي توَهَّمَها الإنسانُ دابة، وماهي سوى تنّينٍ ذي أسنانٍ حجرية حادة قاطعة، تَجْرِشُ عمره على مهل، وتَهْرِسُ عظام جبروته وهي تدور، غَضْبى، ذات اليمين، وذات الشمال، ضاحكة في وجه الإنسان الذي ينسى بأنه قشة إلى زوال، منذور للامّحاء والنسيان. وقد لا نَتَفَطَّنُ إلى ما يَحِيقُ بنا من مكر سيء وبهتان، وما يَعْترينا ويباغتنا، ويبلبل حساباتنا إلا بعد فوات الأوان. وقَلَّ مِنّا مَنْ يَتَوَقَّى الحَدَثان، ويستشرف الغد في الإبّان، ويروح يبني لإقامته في الأرض ما يحميه من غائلة الحوادث الطارئة، والمستجدات المفاجئة، والتيارات المعاكسة، ويُعَبِّدُ طريقا سالكا لاَحِباً إلى ما يُضْفي على وجوده معنى، وعلى حياته دلالة وجدوى.
ولقد كنتُ النموذجيْن معاً، المِثاليْن كليْهما: تهور واندفاع بغير حساب، وتُؤَدَة وأناة ممتدان فوَّتّا عليَّ ما كان يستوجب الجرأةَ، ويتطلب المُبادَاَةَ والجَسارةَ. ألم يقلْ الشاعر سَلْمَ الخاسر:
من راقبَ الناسَ مات غَمّاً /// وفاز باللذة الجَسورُ
وبينهما، أيْ: بين النموذجين، المِثالين، واصلتُ تحليقي وتمزيقي، وخبطَ الريح عشوائيا برجلايَ كأنني على سَرْج دراجة هوائية طائرة، وقدماي داخل دوَّاسَتَيْن لا تتوقفان عن الدَّوَران السريع المُدَوِّخ والمجنون. ومن ذلك، أنني صرت نَهْباً لأفكارٍ وآراء تتجاذبني، ولا تنفك تناوشني، وتنهشني لجهة الحسم في تثبيت قدمي، وحيال القطع في قرار أيِّ السبيلين أسْلُكُ، وأيِّ النَّجْدَيْن أهتدي وأتَخَيَّرُ: أفي الإقامة المتواصلة بجرادة وسط الأصدقاء والعمال الذين ألفتهم وألفوا وجودي بينهم مناضلا، مؤطراً وَمُحرِّضا حتى يتحقق المطلوب والمنشود والمحلوم به، أو في وجوب بناء حياتي، والالتفات إلى مستقبلي المهني من دون تفريط فيما نذرت له أيامي، وندبت له نفسي حتى لا أقلب ظهر المِجَنّ لِمَا تَشَرَّبْتُه خلال مساري، وصار ضوءا هاديا لخطوي وإبصاري. تفلسفتُ وقلت: إن العقل لا يرقى إلى الصواب إلا عبر مزالق الخطإ والعثرات. والإرادة لا تصيب المرمى إلا عبر المعاودة والتحدي، وركوب الأخطار، واستسهال الصعاب.
وكان أَنْ أَتْلَعَ المنطقُ رأسَهُ فَأنْصَتُّ إلى صوت الضمير، ونداء الواقع، ورغائب الأسرة والأصدقاء، ولعنتُ الشيطانَ ثلاثاً، وطردتُ الوسواسَ الخنّاس أرْبعاً، وتوكلت على الله، كما دائما، بدون حساب.
وهكذا، تقدمتُ إلى مباراة الالتحاق بالمركز التربوي الجهوي، وخُضْتُ التجربة. كان الاختبار / المباراة بوجدةَ، والتعيين، لسلخ سنتين تكوينيتين بيداغوجيتين، بفاس. أقلتَ فاس؟، نعم، وأيم الله، لقد أعادتني فاس الحبيبة إليها، فاس التي شَغَفَتْني حبا، وشَغَفْتُها حبا، مرددا على لسان الشاعر المدني الحمراوي:
إنَّ الزمانَ الذي قد ساقني عَرَضاً /// إليكِ يا فاسُ لم يعبثْ بإحساسي
جدَّدْتُ عهداً قديماً ظلَّ في خَلَدي /// ما كنتُ يوماً بساليهِ ولا نـَـاسي
فما ذريعتي وعِلَّتي يا ويلتي لإقناع نفسي اللَّوَّامة التي انْبَرتْ تحاسبني على زَلَّتي، زلةِ الاكتفاء بما دون ما كان في نيتي الارتقاءَ بمهنتي، أنا الذي ما وَنَيْتُ أدّعي قدرتي على صَوْنِ مساري وسمعتي، والتعويلِ على « صولتي « في استعادة طَلْعَتي؟
بسملتُ وحَوْقَلْتُ، وقلت لها: هوِّني عليكِ يا نَفْسُ، وقُرّي عينا، فإن الذي صارَ صار، ولست الأولَ الذي غيَّر المسار، وانكفأ على وجهه في الطريق المقفل أو الطريق السيَّار، وكَبا بعدما حَبا وَصَبا إلى ذُرىً مشروعة، ورُبىً مرفوعة.
فتهيَّءْ ـ إذنْ ـ وودِّعْ أصحابَك وأحبابك عمالا وأساتذة وتلاميذ. اِحزمْ حقائبكَ، ففاسُ في الانتظار هاشَّةً باشَّةً، على أحرِّ من الحب والجِمار.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 17/12/2021