نحْو طوبوغْرافِيَّة بَصرِيَّة للعَلامَة

ليست التعبيرات البصرية أجناسا جديدة أو عابرة في مجتمعات الغرب الإسلامي وإفريقيا بعامة، بل ظلت ممارسات متجذرة منذ عصور قديمة، شكلت الحضارات العربية- الأمازيغية من خلال العمارة والزخرفة والسجاد والفسيفساء والنقش والحلي ومختلف التزاويق المتعلقة بالفنون التطبيقية المتجلية في كثير الحِرَف البنائية والمشغولات اليدوية التقليدية.
كان لا بد أن تستأثر هذه المرجعيات التراثية، وضمنها أصناف الكتابة الحروفية والرمزية باهتمام التشكيليين، بحيث يتخذ الحرف الأمازيغي بُعده الإشاري والرمزي والدلالي، كوحدة تشكيلية منفصلة تتجسد بين القراءة والتعبير. فالكتابة الأمازيغية الموسومة بـ»تيفيناغ» تبقى أبجدية عتيقة، ظلت تستخدم في شمال إفريقيا بين الأمازيغ لتدوين اللغات الأمازيغية المختلفة. وقد تم توثيق أقدم شكل من أشكال هذه الأبجدية في اللغة اللّيبية منذ القرن الثالث قبل الميلاد في جميع أنحاء شمال إفريقيا.
محليا، يبقى الفنان أحمد الشرقاوي (1934- 1867) أحد المراجع الأساسية في هذا السياق، إذ اعتمد حروف تيفيناغ ورموز الوشم والزربية، وذلك عبر رؤية تقوم على إيقاع علاماتي مفعم بالحركة والتلاعب الضوئي، داخل مشهدية تُناشِد الحداثة بخلفية تراثية مدفوعة بغنى التعبير وثراء الدلالة. في حين، نشير إلى توظيف العلامة لدى الفنان فريد بلكاهية (1934- 2014) الذي حرص على تطبيق إلزامِيَّة تلوينِيَّة تتلخص في الأصباغ Teintes الطبيعية (المحلية) كخيار جمالي يُمليه مبدأ التوافق بين السَّنَد والعناصر اللونية التي تتوغل في جسد الجِلْد (جلد الخروف) الموصول بـ»الوشم» المترجم عبر أبجدية تيفيناغ الطوارق، بوصفها وحدات خطية تتجاور وتتجاوب مع كافة الموتيفات الزخرفية وهي ترسم إيقاعها الذي يبعث على تجديد التَّذَكُّر والذّاكرة، ضمن تصويرية إيثنوغرافية منفتحة على الرمزيات البصرية ذات الجواهر التاريخية والثقافية والاجتماعية والحضارية. بينما حفر الحسين الميلودي عميقا في الرموز الشعبية، بعد عودته من باريس، ليقيم في الصويرة، المدينة الروحية المفعمة بالرموز والطلاسم، ويخلق لنفسه قاموسه الرمزي الخاص عبر كائناته الدالة، المختزلَة والمُصاغة بحس هندسي صارم ودقيق في التوليف الشكلي، داخل متوالية من الرُّقَع العلاماتيَّة الصغيرة المُتَجمهرة والمتناسلة باستمرار، لتتطاير من محيط الدائرة الكبيرة التي تُحاكي الكون، في تماهٍ بصري يقودنا إلى دوامة الولادة والتكاثر، من النطفة إلى الأجِنَّة، ضمن كتابة إشارية تعكس صور مجازية لميلاد العالم؛ ليجعل أعماله في وضْع مُحاوَرَة بَديعة مع أعمال أحمد الشرقاوي، وفق رؤية متينَة، مستقلة ومُكَمِّلة في ذات الحين.
بطبيعة الحال، لا يمكن حصر الاشتغال على العلامة في هذه التجارب فحسب، إذ تظل متفاعلة ضمن نماذج أخرى (عبد الحي الملاخ، بوجمعة لخضر، عبد الله أوريك، محمد نبيلي، عبد القادر مسكار)، ومنها تلك المتعلقة بالمعرض الثيماتي ذي الصلة «الرمز الأمازيغي: رؤى تشكيلية» (نظمته الجامعة الصيفية بأكادير، فضاء سوفيتيل، دجنبر 2022)؛ الأعمال التي تدعونا للوقوف عندها للتساؤل عن مدى اعتماد الرمز الأمازيغي وكيفيات صياغته وتوظيفه، وإلى أي حد تَوَفَّقَت فيه هذه المباحث التشكيلية التي تقترحها ثلة من التشكيليين الذين يمثلون مختلف الأجيال اللّاحقة؟
لنبدأ بالفنانين الذين اختاروا المعالجة التشخيصية التي عملت على تأليف مشهدية «واقعية» بأجواء تُحيل على جانب من ثراء الثقافة الأمازيغية. يضعنا عبد الله أوريك أمام وضعية تُمَثِّل «صورة» امرأة بلباس أمازيغي تقليدي، منهمكة في نَسْج زربية، يعكس نصفها الأسفل طبيعة التزاويق المكونة من وحدات زخرفية أمازيغية وفق نظام رائق، فيما يثير النصف العلوي تصفيف الخيوط، في تَسامٍ نحو الأعلى، وذلك بحس تعبيري يشي بمهارة الفنان الذي ظل وفيا ومُتمسكا بثقافته وانتمائه الأمازيغي، من خلال مواقفه، وعبر مواضيع الكثير من أعماله التي واكبت مساره الفني الطويل والمُثْمِر. بينما يستعمل جمال مشعار تقنية تمثيلية رشيقة في معالجة مواضيعه، كما هو الحال في اللوحة التي ترسم مظاهر الزينة لدى سيدة مُعاصرة، بلباس تقليدي باذخ وأنواع الحلي (الفضية) ذات الأصل الأمازيغي، وذلك وفق تأطير (Cadrage) «فوتوغرافي» يُبْرز بذخ الوِضْعَة (Pose) وجاذبية اللباس والأكسسوارات.
في حين، يمكن تأطير مجموعة من الأعمال داخل مَيْل شِبْه تجريدي (Semi-abstraction) يقوم على أشكال مقروءة ودالة. فعلى شاكلة قرص مضغوط مُكَبَّر باعتماد سند خشبي دائري، يرتسم زَوْجٌ من أداة على شاكلة مشط معدني في لوحة رضوان شلاف؛ حيث تنغرس الآلية المُسنَّنَة في ما يشبه بِرْكَة (مائية) محدودة بخط الأفق الذي يتماهى أفقيا مع أسلاك شائكة تمتد إلى المحيط، مع استنبات كتابة أمازيغية مَطْبَعِيَّة في الأسفل كدلالة على التسمية والإشارة، ما يجعل العناصر في كُلِّيَتِها جَماعٌ عَيْني يستدعي فِعْل التَّحَرُّر والاختراق. فيما تقربنا عائشة دكوير من حيطانها، حيث حياكة القشرة الجيرِيَّة البيضاء موسومة بحروف تيفيناغ، ككتابة رمزية تتحاور مع مساحات الأوكْر الدينامية وفق تناغم ضوئي يستحضر العتاقة بنُصوعه وانطفائه. العتاقة التي نتلَّمسها في لوحة رشيد بكار من خلال اليَدَيْن المُجَعَّدَتَيْن الماثِلَتَين في وثيقة الكولاج التي تتوسَّط رُقْعَتَيْ الأخضر والأسلاك والعلامات المنكسرة الضّامِرَة، في الوقت الذي تنطبع فيه المساحات والرموز والخطوط المتداخلة من فائض المَغْرَة (بني مُصْفَرّ يغطي السواد)، من أديم الأرض، حيث يعيدنا الإمام جيمي عبر زخم إشاري يرتب من جديد ملحمة الرموز الآتية من جَوْف التاريخ، حيث تتداخل العلامات الأمازيغية وأشكال النقوش الخطية، البِنْيَوِية والمُختصَرَة (شخوص، فرسان، طيور، حيوانات ضارية، أوراق نباتية) التي طالما شكلت مَباحِثه الحَفْرِيَّة، ليقحمنا وإياه في أركيولوجية سحيقة ترسم تَنامي الحَرْف وتكوينه عبر شريط الخلفية الثلاثي الذي أبان سرائر الكتابة وحكايتها مع الأقوام الضاربة في الزمن. وفي المقابل، يتخذ التجريد الغنائي قراءات أخرى، كما هو شديد الانفتاح لدى عبد العزيز لغراز من خلال أشكاله المحدودة والسائلة، وتَبْقيعاته المُتراكِبة ضمن كروماتيكية تركيبية عالية الشفافية، بحسب ميزان ضوئي يحتفل بمعنى الصفاء وألق التَّضادّ. التَّضادّات (ِContrastes) التي ترتدي عنفوانها لدى فيصل حميشان تبعا للكثافة اللونية والمادية التي تَمْلأ التَّرسيم البيضوي، في مقابل الفراغات والعلامات الخطية والحلزونية المختزلة في تناسُلها الأفقي، في الحين الذي يرتفع فيه السهم وتنبعث نتف الخطوط واللطخات وفق تفاعل ذاتي مدفوع بحركة الفعل المُمْتَد. وبفراغ مادي، يفسح الفضاء انبثثاق علامة صليبية، وحدها تفصل اللوحة، عند ابراهيم أشيبان، لتُثير الملامس البُنِّية اللّامِعَة كزجاجة مُصَفَّحة تعكس الضياء؛ بما يشبه الغَيْم.
على إيقاع تبادلات إشارِيَّة، تندرج العديد من اللوحات ضمن عملية تركيز محوري على الاستثمار التشكيلي للعلامة، التي أتت بحس إقلالي (Minimaliste) لدى سميرة آيت المعلم ورشيد الحاحي وحكيم أهلال؛ بحيث انبثقت، وفق ترنيمة خطية دقيقة، من سطوة الأحمر (المونوكروم)، كتَبْئير لدينامية الدوائر والمنحنيات الباعثة على اشتغال آيت المعلم الدؤوب حول الجسد. الجسد الذي يمكن استحضاره من خلال رموز الوشم التي تنبثق بدورها من طبيعة المونوكروم المادي (لمسات الأبيض الفِضّي العريضة) الذي جعله الحاحي تفريشا ضوئيا يوحي بالحركة، التي تتضاعف في سُمْك الحرف الراقص عند أهلال الذي اعتمد تضادا نورانيا موصولا بظل العلامة وما يتبعها من تَرْميد الجوار. بينما تتخذ العلامة بعدها الزخرفي والتعبيري بحس خطي بديع عند مصطفى بلقاضي الذي أَوْجَدَ لتركيباته نسقا كروماتيكيا رفيع النقاوة والتكامل، وفق تلاعب موزون يُؤَلِّف ملحمة علاماتية حيَّة؛ الحيوية التي ارتسمت بتركيب مُفارق في عمل عبد العزيز أوصالح الذي عمل على توليف العلامات على شاكلة مَتاهَة تقوم على الموجَب والسالب (المملوء والفارغ) برؤية حداثية بادية، كما هي عند حسن عاشق الذي اعتمد الأسود والأحمر (السائدين في التراث البصري الأمازيغي) لتوليف تركيباته ضمن هندسيَّة تبرز السطوح المحددة والرموز التي صاغها في صور مُنَمْنَمَة للسجاد، المُتبادَل مع أشكال هندسية دقيقة (النقطة، المثلث، المربع). فيما تُمسي العلامات مختصرة، في عمل بوزيد بوعود، عن طريق التكبير والتوزيع المُتكافِئ للمساحات البارزة بمعالجة لونية متراكِبَة وكامِدة. مع عمر أجبور، تتخذ موتيفات الوشم صفتها الهندسية في التكوين كما في الترسيم المُنْبَني على تَفْريش يُتيح البروز المتدرج للرموز، من ضبابية العُمْق (الأسفل) إلى وُضوح السَّطح (الفوق). وبرؤية مخالفة، تنطبع العلامات وتتفسخ لدى محمد ملال، داخل متوالية حركية (Gestuel) موصولة بالتداخلات الخطية واللونية (الرماديات). وفي عمل عبد الفتاح لوقيد، تتناسل المُعَيَّنات التي تشكل علامة مُركبة عمودية، لتخترق محور اللوحة المُتَلَألِئَة بخلفيتها المُشتَعِلَة والدينامية للغاية. وفي مقابل ذلك، يقترح عبد الهادي موريد مقاربة تشكيلية مُكَوَّنَة من عدد من الصُّحون التقليدية (12 طاجينا)، تثير مختلف الدرجات الضوئية بين حُمرة الفخار وسواد احتراقه، ومن قواعد الصحون، تنبثق أشكال كُتَلِيَّة محفوفة بالبُقَع والسوائل والإشارات، ضمن مُجاوَرَة ومُحاورَة تضعنا للتَّوِّ أمام أنموذج لتأويلية رمزية تتوسَّل بالنحت المُركَّب البارز.
إذا كان هؤلاء قد جعلوا تكويناتهم، في مجملها، قابلة لتنويع الرموز وتَوْليدِها، فإن آخرين اختاروا مقاربة انتقائية ترتكز على العلامَة الأُحادية في حد ذاتها. ففي الوقت الذي قام فيه سعيد الراجي بتكبير الرسم الحروفي الأمازيغي الأبرز (نصفا دوائر مُتعاكسة عبر محور عمودي يتوسطه خط أفقي) وإنعاشه بأسهم موجِّهَة وأرقام وخطوط ونقط وحياكات متضاربة ومُتدبدِبَة على الخلفية، عَمَد رشيد فسيح إلى بَسْط رسم العلامة (الشكل المركب) ومنحها مساحات ومقاسات خطية عريضة في صورة تكوين هندسي صرف، مُثْبَت على خلفية مائلة، ما يُحدث إحساسا بدينامية رصينة، تُشكل فيها مُسَطَّحات الألوان المتكاملة (برتقالي/ أخضر، أبيض/ أسود) قُطب الرَّحى. بينما نتلمَّس رؤية حفيظ ماربو المعاصرة، من خلال الرمز المَخْصوص بالمُستقيمات السميكة التي تطبع حرف «الزّاي» (الأمازيغي) على هيئة «جسم بشري» مُؤَسْلَب، بحيث ترتسم العلامة بتقنية الإبقاء (الفراغ الأسود)؛ أي ما تبقى من تعمير الخلفية عبر الكولاج، المُشَكل بإلصاق «بطائق» الرموز المشفرة (كود بار) (Etiquette autocollante- Code barre scan) التي تُحدث تأثيرات بصرية من خلال تكثيف الخطوط الرقيقة وتكرارها، ولعل هذه المعالجة المنيعة بإيجاز شكلي وتركيبي، تؤكد قوة إبداعيته المعهودة باستمرار.
في هذه العُجالَة، نلامِس حدود هذه المقاربات الإبداعية التي قد تشكل مَشتلا خصبا لتكثيف الرموز وإعادة تحليلها وتفكيكها، إذ يمكن اعتبارها امتدادا لمباحث سابقة، تفضي إلى تأطير هوية بصرية للتشكيل المغربي المعني بإيجاد الصيغ الملائمة لإبراز كل المكونات الحضارية المحلية، المتعددة الأبعاد، مما يستدعي التَّوْفيق الواعي بين الوفاء لجماليات التراث والحس التجريبي الذي يراجع ويستكشف تجارب الآخر، في اتجاه استدراج صفات التاريخ الرمزي الأصيل وإعادة تشكيله داخل منظومة تعبيرية تتوخى التنوع والتعدد ضمن وحدة أسلوبية منفتحة، يتخذ فيها الرمز والعلامة الأيقونية الشعبية مركز الصدارة، مع استشراف الأفق لمُسايَرة المسالك الجديدة في الفن وأنماط نقدها وقراءتها في ضوء المزاوجة بين المحلية والكونية المعاصرة التي صارت ناصعة الرؤية في عصر الشاشات.

تشكيلي وناقد فني


الكاتب : بنيونس عميروش

  

بتاريخ : 18/03/2023