نصوص سردية:امرآة تغطي نيرانها بكمها الأيسر

امرآة تغطي نيرانها بكمها الأيسر

كان صوتها يُسمع من بعيد. هل كان عليه أن يعلم أن الحكاية التي وضعتها على كفه قبل أن تنصرف ستشعره بحرج بالغ، وأن الهوة ستتسع بينهما بلا هوادة؟
امرأة تواصل انزلاقها لترتطم بقوة على ما يجعلها تتلاشى تماما. لا تريد أن يتبقى منها شيء. تهتز فتنفلت من ثقوبها كل الحرارة التي طالما تأرجحت بين ذراعيه، ضماَّ وعناقا واتقادا. هي تقول إن الخط انتهى هنا، وأنها غير مستعدة لتظل ممسكة على طرفي شارب هذا الرجل الذي تتطاير أطراف غيرته الفاقعة عليها. كلما رأته ينام بجوارها، على السرير نفسه، يختفي العالم بأسره، ويخفق قلبها لكوكب آخر.
كان يدرك أن هذه المرأة التي تمتلئ بالينابيع قادرة على الابتعاد بارتفاع تام عن كل ما يشدها إلى أسفل، وأن المسافات كلها ترتعش تحت قدميها. لمحَ في عينيها عنادا تتعمد رميه بتهذيب على هلعه من فقدها. قالت له إنها ستفعل كل شيء كي لا تصبح لاشيء، واعترفت له بمنتهى التصميم بأنها ستخرج منه لتبحث عن حرارتها التي انكتم خريرها منذ أن أصبحت أمّاً.
انتابه إحساس بأنه يقف خلف آخر حاجز رملي قبل أن يتلقى طلقة في الرأس. قال لها إنها امرأة شديدة الإزعاج، وأنه ليس مغفلا كبيرا ليعرف أنها تمتحنه بالإساءة إلى قلبه. قال لها أيضا إنه ليس مستعدا ليسكب تاريخه معها في كأس أخرى غير كأسه، وأنه سيسحقها بين أصابعه إن فكرت في أن تتركه للأنياب.
لم تجب. رفعت رأسها نحو سحب بيضاء تلتف حول بعضها البعض، وفكرت في المطر القادم. غدا ستصنع من أمومتها تذكارا، وستفعل ذلك بما يليق بامرآة تغطي نيرانها بكمها الأيسر. هذا الرجل لا يعرف ماذا يعني إغلاق امأة حارقة، ولا يعرف أن الجحيم يلمع على صدرها..

فك اللفائف والأزرار

تُرى لماذا كانت تظن أنها امرأة وحيدة محاصرة بأعداء كُثْر؟ هل ذلك يكفي بالفعل لتسبح في الاتجاه المعاكس لرغباتها؟
قبل أن توليه ظهرها مثقلة بحزن متخمر، فخخت جسدها بوجع لا يطاق وأخبرته أن لاشيء يشبع فضولها الآن. تريد أن تتحول إلى طوربيد لتبتعد عنه بسرعة، وإلى أقصى مكان ممكن. تريد أن تستبدل وجهها بوجه آخر، والانسحاب من هذه السهرة التي أرغمت على صب كل موسيقاها حتى الطفح في كؤوسها. يتذكر جيدا أنها كانت مغرمة بالموسيقى الإيرانية. تقول إن روح العاشق تتحول إلى عراك نغمي يغزله مشايخ العزف على قلبها، وأنها تغمض عينيها لتُسقى بما يجعلها تطلق رصاصة على أقرب رجل إليها.
رآها تبتعد. تركته شبه مفلس، والشيء الوحيد الذي كانت متأكدة منه أنها لم تترك خلفها الجزء الأكثر بريقا من حياتها. القادم وحده هو ذلك الطائر الأبيض الذي بوسعها أن تجعله يلمع ويتغلغل في جوف الأشياء كلها. لم تعد متمسكة بحرارة ذراعيه كما كانت تفعل ذلك، ولم تعد تتذكر ذلك الشاطئ المهجور الذي ناما فيه معا، وتبادلا القبل اللاهبة وفك اللفائف والأزرار. لا تذكر أنها فتحت عينيها على اتساعهما لتهتبله بالكامل.
لماذا نسيت كل ذلك؟ ولماذا تضع نفسها على ارتفاع شاهق من الغيمة التي حملتهما على أريكتها إلى هذا الذي يسميه الحب الجارف، وتسميه هي «الإصرار على الرضوخ للسقوط»؟ من أين أتت بكل هذا الحَوَل الذي ينتزع القارورة من عطرها؟ من عَلَّمها أن تقايضه على الصباح الذي ربَّياه تحت رموشهما؟ من يتسلى بإحراق تلك الأوراق الكثيرة التي ارتدياها واستمتعا بحفيفها على أرشيفهما المشترك؟
لم ينتبه إلى أنها كانت تغور في جرف صخري لم يفطن لاقترابه منها. مرات كثيرة كان يسمعها تصرخ وهي نائمة، لكنه ظل يقترب منها ببطء ليمسد أحلامها ويجعلها تتسلل إلى السطح قبل أن يركها خارج الغرفة. وكم كانت سعادته تكير حين يسمعها تقول: «إن الأحلام تبطل حين نرويها للآخرين»!

قلب معبأ بالتبغ

وضع كل ظباء العشب على ورقة وأشعل النار. لم يختر مطاردة الظباء عن عمد. كان يحاول فقط أن يعبئ قلبه بتبغ جديد عندما رآها تخرج منه بسرعة الضوء، وتُحوله إلى ذرات.
ما كان يريد أن يقدمه لها هو سقف دون انحناءات. لكنها كانت تفضل البراري، تقول عن نفسها إنها امرأة من إعصار، لم تخلق ليطابق جسدها الهادر غرفة باردة يحكمها رجل قصير النظر.
كان يدري أنها تضع الجمرات على قلبه حين كانت تغرق في كتاب حتى ساعة متأخرة من الليل، أو حين كانت تثبت نظرها على السقف لتكتشف ثقوبا يمكن أن تتسلل منها إلى الخارج، إلى الشمس الحارقة، إلى المنحدرات الخطرة، إلى العش الدافئ للأسرار البعيدة. كانت بارعة جدا في صنع مواجهات جانبية عديدة. لا تمل من وضع الخطط كي لا تضطر للالتصاق به ليلا.
يتفحص وجهها المرهق، ويتأكد أنها لم تأكل منذ يومين. تقول له، كأنها توبخه، إن النساء في الخارج أكثر اشتعالا، وإنها غير مكترثة على الإطلاق بما إذا كان سيجد طريقه إليهن.
حين يسمعها تقول له ذلك يشعر بأنها ترشقه بالحجارة، وأنه رجل متوفر بكثرة للنساء العابرات، كأنها تسدل الستائر عن نفسه وتحرضه على الخيانة بصوت مسموع.
كان عاجزا عن إدراك ما يجري مع هذه المرأة التي لم تعد تراه. يسمع تنفسها الثقيل، ويتذكر توهج الأحجار الكريمة التي كانت تتدفق من فمها، وكيف كانت تحرص على أناقة هندامه كل صباح، وكيف كانت ترشه بالعطر قبل أن تطبع قبلة ضاحكة على ثغره.
كيف يمكن لتفاصيلهما أن تتغير بهذا القدر من الشتات البعيد؟ وكيف سيحافظ على المرأة التي أحبها من التلف؟
هي لم تكن ترى أن في الحياة طرقا كثيرة للتضحية. إما أن تتقد بإصرار فتضحي به، وإما أن تبرد فتغفو خلف كل الأحلام التي رأتها تتساقط تباعا من رأسها.
كان يحس بالمرارة تجري في الكلمات التي تسددها له بإتقان تام. امرأة مَمْرُورَة، كل كلمة منها طلقة قاتلة. ترتب أمورها على الرحيل المفتوح، وعليه أن يتدبر أمره لوحده. تريد أن تحقق أحلامها التي لم يتحقق أيا منها. تريد أن تعيش لحظة سلام واحدة..

الكثيب الرملي

الأمر ليس سيئا تماما عندما يهوي أحدنا بفأسه على رأس الثاني. لن يقع شيء، سيدخن سيجارة واحدة، يأخذ من أنفاسا متلاحقة ويرميها قرب الذراع الرخوة المرمية على أرض معشوشبة خلف النبض. هل هذا ما حاولت إقناعه به وهي تدلي قدميها الصغيرتين في الماء؟ من النظرة الأولى، عرف أنها التنين الذي تكور تحت ضلوعه ثلاثين عاما بشكل خارق للمعتاد. شعر به يدخل جسده ويحصر نفسه في الزاوية الموزعة بين المد والجزر. أوقد هناك نارا، وجلس على كرسي وثير ضاحكا ومادا ساقيه. كانت تلك الفكرة من الاتساع ما جعله يعتبر أن الكثيب الرملي الذي انتصب بينهما سيتلاشى قريبا، ولن ينجرف تنينه بعيدا مع الغيمة ولن يتوقف كل شيء. لم يكن بوسعه أن يتوقع منها ذلك. أن تحرق أشجاره وتكسر صخوره دون أن ينال منها الإعياء. أن تختار حياة أخرى خطرة ومهموسة. أن تحول الباب إلى ذرات غبار متطايرة. ظن دائما أنها امرأة رقيقة ومخلصة. رآها تدخل المكتبة بتنورة قصيرة وضفيرتين مشبوكتين بوردة حمراء، وحين خرجت أدرك أنها تركت نظرتها المربكة في عينيه، فاستدار نحوها بزاوية حادة وتزوجها، وظل يلتهمها بمقدار ما تلتهمه. وها هي الآن تريد أن تحصل منه على أي شيء تريده. قالت له إنها مستعدة للانسلال من كل أرجاء جسده بهدوء تام، ودون أن يعتورها أي ندم. لم يعد أي شيء يؤلمها. بذل كل ما بوسعه ليتنفس، وكان يتمنى أن يموت وأن يحمل على الأكتاف ولا يرى نفسه مصلوبا مع امرأة غيرها. إنه يكرهها الآن. المرأة التي يعبد عينيها تحكم عليه بالإعدام وتلعب الورق. لم يكن واثقا من أي شيء، وكان يتفادى النظر إليها وهي تتطارح الغرام مع رجل آخر. هل يمكنها أن تفعل ذلك به؟ لم يكن بإمكانه أن يفعل شيئا. تمنى لو ألقاها على الأرض وشق صدرها. ترى ماذا سيجد.؟.. أغمض عينيه فرأى غجريا يجر عربة ويغني. طفلة لم تعثر بشيء من الحظ في المستنقع المجاور للمنزل. ممثل عجوز يفعص عقب السيجارة تحت قدنيه وينفث الدخان المحتبس في فمه ورئتيه. جداول صغيرة يشكلها المطر. دمى ومشبكات شعر مدفونة تحت طين الحديقة. لم يكن رأسه صاحيا، ونسي أنه مع هذه المرأة لم يفكر في النساء متذ زمن بعيد.

خيانة بصوت مسموع

وضع كل ظباء العشب على ورقة وأشعل النار. لم يختر مطاردة الظباء عن عمد. كان يحاول فقط أن يعبئ قلبه بتبغ جديد عندما رآها تخرج منه بسرعة الضوء، وتُحوله إلى ذرات. ما كان يريد أن يقدمه لها هو سقف دون انحناءات. لكنها كانت تفضل البراري، تقول عن نفسها إنها امرأة من إعصار، لم تخلق ليطابق جسدها الهادر غرفة باردة يحكمها رجل قصير النظر. كان يدري أنها تضع الجمرات على قلبه حين كانت تغرق في كتاب حتى ساعة متأخرة من الليل، أو حين كانت تثبت نظرها على السقف لتكتشف ثقوبا يمكن أن تتسلل منها إلى الخارج، إلى الشمس الحارقة، إلى المنحدرات الخطرة، إلى العش الدافئ للأسرار البعيدة. كانت بارعة جدا في صنع مواجهات جانبية عديدة. لا تمل من وضع الخطط كي لا تضطر للالتصاق به ليلا. يتفحص وجهها المرهق، ويتأكد أنها لم تأكل منذ يومين. تقول له، كأنها توبخه، إن النساء في الخارج أكثر اشتعالا، وإنها غير مكترثة على الإطلاق بما إذا كان سيجد طريقه إليهن.
حين يسمعها تقول له ذلك يشعر بأنها ترشقه بالحجارة، وأنه رجل متوفر بكثرة للنساء العابرات، كأنها تسدل الستائر عن نفسه وتحرضه على الخيانة بصوت مسموع. كان عاجزا عن إدراك ما يجري مع هذه المرأة التي لم تعد تراه. يسمع تنفسها الثقيل، ويتذكر توهج الأحجار الكريمة التي كانت تتدفق من فمها، وكيف كانت تحرص على أناقة هندامه كل صباح، وكيف كانت ترشه بالعطر قبل أن تطبع قبلة ضاحكة على ثغره. كيف يمكن لتفاصيلهما أن تتغير بهذا القدر من الشتات البعيد؟ وكيف سيحافظ على المرأة التي أحبها من التلف؟ هي لم تكن ترى أن في الحياة طرقا كثيرة للتضحية. إما أن تتقد بإصرار فتضحي به، وإما أن تبرد فتغفو خلف كل الأحلام التي رأتها تتساقط تباعا من رأسها. كان يحس بالمرارة تجري في الكلمات التي تسددها له بإتقان تام. امرأة مَمْرُورَة، كل كلمة منها طلقة قاتلة. ترتب أمورها على الرحيل المفتوح، وعليه أن يتدبر أمره لوحده. تريد أن تحقق أحلامها التي لم يتحقق أيا منها. تريد أن تعيش لحظة سلام واحدة..


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 05/08/2022