نصوص سردية

إنسان داخل درقة

بعينين كابِيَتَيْنِ، كان يتملّى العالم حوله؛ من داخل درقته المتصدّعة .. مكتفياً على ما يبدو بتدوير محجريه يمينا وشمالا.. مذهولاً تارة ومذعورا تارة أخرى، أو ربما متحسرا على ذلك الزمن الذي كان من خلال يبسط ساقيْه ويمشي منتصب القامة ! ..
هو ذا الآن يجلس القرفصاء مَكروبا .. مُكوّما .. تَصْطَكّ ركبتاه .. ذابلاً من فرط استجداء أي خرقة تحجب عُريّه الظاهري .. غارقا في بذاءاته المكرورة !
ظل يرطن جملا بلا معنى، وعلى نحو فجائي انتصبت أمامه مرايا ماضيه المشروخة؛ كان يتهجّى بارتياب كلمات تمرّ متسارعة في شريط .. وباحتدام مُوَشّى اعتكر مزاجه فجأة ! ثم دوّى هزيم قوي في وتينه ..
ترى ماذا قرأ ؟!
لقد حشر نفسه في صَدْعٍ ضيق لا تلجه سوى الخنافس والعناكب !! هو الآن يفتّش في أحلام اليقظة عن ذكرى نديّة تبلّلُ حلقه الجاف .. لكن الذكرى علقت كشوكة حادة في جدار مهيض.

اعترافات عند الحلاق

الحلاق أكثر الناس قدرة على انتزاع الاعترافات … كيف ذلك ؟
في بداية الأمر، يسألك أي نوع من الحلاقة تفضل؟ هل تقطن قريبا أم بعيدا ؟ ما مهنتك؟ هل لديك أبناء؟ …
تنهال عليك الأسئلة تباعا، على إيقاع طقطقة حركتي المقص الدائبتين؛ في مشهد أقرب إلى «تكتكة» عقربي الساعة المثبتة على جدار غرفة التحقيقات في مخفر الشرطة ..
لكنه يلوذ بالصمت إذا ما استشعر فتورك أو تحفظك أثناء الإجابة .. وإذ يفرك صُدغك تارة ثم يمسد شعرك تارة أخرى في حركة قهرية على ما يبدو ؛ فكأنما يخضعك لعملية تهويم آلية، في انتظار استئناف فصول جلسة الاستجواب تلك!
ومن ثم يمتد مقصه إلى شاربك الكث؛ إيذانا بقص شريط الافتتاح ..
في نهاية الأمر، يُوفّق الحلاق في انتزاع شعرك؛ وبعضا من النوازل والصواعد التي تشكّلت جيولوجيا عبر امتداد الزمن داخل مغارتك الشخصية !!!

مسافة الصفر

أشعل لفافة ثم وضع الولاعة بعناية فوق علبة السجائر؛ عبّ الدخان بحنكة بالغة.. والتقط بسبابته وإبهامه كوب القهوة كأنما لقاط آلي.. بالكاد لثمه، ثم أعاد الكوب بثبات مبالغ .
انعقف عنقه قليلا إلى الخلف؛ كأنما ساق زهرة ذابلة ؛ ثم زفر الدخان اللولبي بقوة صوب السقف ذي الزخارف الجبسية.. في الأعلى تماهت دوائر الدخان المنبعث من أفواه المدخنين من حوله بدوائر الجبس الكامد .. هوى باللفافة إلى حافة المنفضة ثم طرقها بخفة تشي بدربة كبيرة؛ قبل أن يطبق عليها مجددا بشفتيه المتصلبتين ..
تملّى وجه صديقه الممدد فوق الكرسي.. طرق الطاولة بطرف الولاعة إيذانا ببدء مما حكاتهما المسائية :
– هل سبق أن قرأت مسرحية «ماكبث» لشكسبير؟
بالكاد حرك شفتيه الملتصقتين :
– ليس بعد يا صديقي .
– إذن أنت ماتزال تجهل نتوءات النفس البشرية !
ساد الصمت وارتفع وجيب قلبه .. أحس بدبيب خافت في الرقبة.. تمدد فوق الكرسي حتى كاد ينزلق .. أشرع ساقيه .. ثم هوت ذراعاه في الهواء ..
– هل يعقل، بعد كل تلك السنوات، أن أتعرض لخيانة أناس كنت أثق بهم ؟!
انطلقت كلماته تلك ؛ كالنصال في كل الاتجاهات.. قبل أن يستجمع ما تبقى من كبريائه المتصدع فصاح مجددا بنبرة جهورية:
هل بوسع المرء أن يرمم ذاته بعد كل طلقة غادرة من مسافة الصفر ؟ …
سحق عقب السيجارة بقوة، وربت على كتف صديقه المكدود ثم همس في أذنه مقطعا شعريا لميخائيل ليرمنتوف … «سنفهم أن الحياة ليست سوى مزاح ثقيل
مزاح مبتذل وبليد
ولعب أخرق بالألفاظ «.

(°) قاص، فاعل مدني وتربوي


الكاتب : يوسف عيادي *

  

بتاريخ : 09/09/2023