نـحو مقاربة جمالية لتلقي النص المسرحي

إن أية قراءة نقترحها نـموذجا لمقاربة النص المسرحي ينبغي أن تتلاءم إلى حد كبير مع الـمفاهيم و التصورات التي تصدر عنها التنظيرات المسرحية الحديثة، لذلك فإن كل نـموذج قرائي يصطدم بإشكالية أساس هي إشكالية الـمنهج، فما هو المنهج الـملائم لرصد النص المسرحي؟ وهل الـمنهج هو الذي يفرض موضوعه أم أن الموضوع هو الذي يحدد منهجه؟ كيف تبنى النماذج التحليلية بخصوص نص إبداعي معين؟ ما هي الحدود التي ينبغي احترامها بخصوص منهج تـحليلي يروم مقاربة النص المسرحي مقاربة جمالية؟.

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي عملية استقصاء دقيق عن النموذج القرائي المناسب لرصد النص المسرحي، كما تقتضي مراعاة مجموعة من المبادئ الأولية الـمخصصة لطبيعة المنهج التحليلي المقترح نذكر منها ما يلي:
– إذا كان النص المسرحي كيانا يتوفر على مرونة دلالية تجعله منفتحا وقابلا لأكثر من قراءة، فإن أي منهج تحليلي يعتبر فقط مـجرد دليل عمل يسمح بترشيد الاقتراب من النص ويساعد بالتالي على تذوقه و فهمه و تفسيره.
– إن أي منهج تحليلي يرتبط بفضاءات نظرية وتصورية محددة، ومن ثـمة تختلف مناهج القراءة الإبداعية والفنية عن مناهج العلوم الحقة مهما أوتيت الـمناهج الأولى من حظوظ الدقة العلمية.
إن المنهج هو عبارةعن آليات وأدوات لا تفتح بالضرورة كل مغالق النص المسرحي لذلك ينبغي على القارئ القيام بعملية إبداعية داخل هذا المنهج، وذلك من خلال إعادة بنينته وتكييفه وتنميطه(1).
بناء على هذه الاعتبارات يمكن القول إنه من الصعب على القراءة الواحدة مهما اتسعت آفاقها أن تستوعب الظاهرة الإبداعية والأسئلة التي تطرحها، كما أنه من الصعب أيضا على مقاربة منهجية واحدة أن تقوم بـهذا الاستيعاب مهما كانت درجة دقتها و شـموليتها(2).
لقد عمد «تودوروف» إلى تقسيم فعل القراءة إلى نوعين: قراءة خطية تـهتم بفك ألغاز الصيغة الخطية للمكتوب، وقراءة عمودية يتم بـموجبها اختراق أفقية المنطق الخطي نحو منطق عمودي بـهدف إدراك الدلالات المتوارية في ثنايا المكتوب، ومـن ثـمة فإنه ليس من وسيلة للقبض على طبقات الدلالة في النص الأدبي إلا عن طريق هذه القراءة العمودية، فبواسطتها نستطيع أن نفهم وأن نعي مكونات النص المقروء، وبذلك يتم إخراج النص من صيغته الـمكتوبة إلى صيغة من صيغ القراءة، لتكون القراءة بـمثابة منهج منظم يستقي مقوماته ومسوغات محاورته للنصوص من منظومة مرجعية تتأسس على أنساق من القواعد والفلسفات النقدية(3). وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن القارئ يجد نفسه أمام نوعين من النصوص: نص منفتح وآخر منغلق، يتميز الأول بخرقه للمألوف النصي وسعيه إلى خلخلة البنية النصية الثابتة، بينما يتمثل الثاني في ذلك النص الذي يعيد إنتاج القيم السائدة نفسها، ومن هنا فإننا عندما نـموقع النص في شرطه القرائي نجد أنفسنا أمام تعدد القراءات، لذلك لا يـمكننا أن نأخذ بالأطروحات التعميمية، فما يعـتبره قارئ ما منفتحا يعتبره قارئ آخر منغلقا والعكس، ولا علاقة لهذا بالنص في ذاته، لأن طرق تلقي النص تتحكم فيها عوامل إنتاجه من لدن الكاتب. فإذا كان الكاتب ينتج دلالة نصه أثناء عملية بنائه فإن القارئ بدوره يفتح هذه الدلالة من خلال إعادته بناء هذا النص وفق تصوراته وخلفيته النصية الخاصة. إن الكاتب أثناء إنتاجه لنصه ينطلق عادة من خلفية تشتمل على نصوص متعددة يـحولـهـا في عملية إنتاج هذا النص وهو يتصور في الآن ذاته قارئًا معينا، إن هذا القارئ يدخل عالم النص وهو مـجهز بتصورات قبلية ومسبقة، حيث ينفتح النص أو ينغلق من خلال هذا التفاعل البنائي الذي يتم عبر مستويين اثنين: داخلي (الكتابة) وخارجي (القراءة). وإذا كان زمن المستوى الأول مـحددا، فإن أزمنة القراءة غير مـحددة ولانـهائية، ومن هنا تتعدد القراءات وتختلف إن لـم نقل إنـها قد تـختلف خلال الزمن الواحد ولدى القارئ الواحد، ومن خلال هذا الفعل القرائي يكتسب النص إذا مـا توفرت فيه شروط الإنتاج الحقيقي استمراريته وانفتاحه(4)،
وهكذا فإن النص ليس سوى فرضية يلزمها لتتحقق وتصبح عملا أدبيا إسهام القارئ، بـمعنى أن فعل القراءة هو الذي يـخرج العمل من حالة الإمكان إلـى حالة الإنـجاز(5).
إن نظرية جـمالية التلقي بتأكيدها علـى مفهوم القارئ تعتبر منهجا جديدا لأنـها تسعى إلـى إعادة تقييم دور هذا الأخير، والتركيز علـى العلاقة القائمة بينه وبين العمل الأدبـي، ولعل أهم العناصر المـكونة لهذا الـمنهج الـجديد هي العلاقة الـمزدوجة بين قصدية أو نداء النص وإنـجاز أو استجابة القارئ الذي بإمكانه أن يتحول إلـى مؤلف(6)، والـخلاصة التـي نـخلص إليها بالضرورة هي أن النص – ضمن هذه العلاقة – عنصر متحول، لأنه يتحول مع كل قراءة جديدة، إنـها علاقة حوارية بين طرفين هـما: النص والقارئ، حيث تصبح القراءة حلقة ضرورية ليتم نسج العمل الأدبـي برمته، مادامت هذه الـحلقة وسيلة تـحققه الفعلي ووسيلة ترهينه(7).
وإذا كانت مادية العمل الأدبـي – أي انتقاله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل – ترتـهن بالقارئ الذي يـحققها، فإن دلالته أيضا تحتاج إلى قراءة تـخرجها من مـجال الكمون إلى مـجال التحقق(8). لذلك تـم تقسيم عملية القراءة إلى مرحلتين متمايزتين: مرحلة استجماع الـمعنى و مرحلة الدلالة التي تـمثل الاستيعاب الإيـجابـي للمعنى بواسطة القارئ ، ويقصد بـهذا عملية تأثير الـمعنى في وجود القارئ. إن هذه العملية هي التي تـجعل العمل الأدبي لا يـحمل في ذاته دلالة جاهزة و نـهائية بقدر ما يكتسب دلالات جديدة عند كل قراءة جديدة، إن هذا التـحول هو الذي جعل نظرية جـمالية التلقي تفترض وجود أفق انتظار خاص لكل قراءة، ذلك أن القارئ حينما يتلقى العمل الأدبي لأول مرة ينتظر منه أن يستجيب لأفقه أو لآفاق انتظاره الـمحتملة، بـمعنى أنه ينتظر منه أن ينسجم مع الـمعايير الـجمالية التي تكون تصوره الخاص لطبيعة العمل الأدبي، مع العلم أن ما يـحقق لـهذا العمل تفرده و أصالته هو الـمسافة الـجمالية، ذلك أنه كلما ابتعد العمل الإبداعي عن الـمعايير والقيود الـمسيجة لأفق انتظار الـمتلقي كلما تـحققت جودته، لأن النص الـجيد هو ذلك النص الذي يفرض مسافة جـمالية بينه وبين ما هو مألوف ومتداول(9).
انطلاقا من الاعتبارات السابقة يـمكن القول إن بناء معنى النص الـمسرحي لا يـتـحقق إلا بعد تدخل ومشاركة القارئ الذي يعد بنية تـجريبية موجودة بشكل مسبق في هذا النص، غير أن هذه الـمشاركة وهذا التدخل لا يتمان إلا من خلال تشغيل مـجموعة من الـميكانيزمات والآليات النصية الـمعتمدة في إطار نظرية جمالية التلقي كالذخيرة والإستراتيجيات ومواقع اللاتحديد ووجهة النظر الـجوالة، التي من خلالـها نستطيع أن نـحدد طبيعة التفاعل بين بنية النص الـمسرحي وقرائه، ذلك أن القارئ له الـحرية الـمطلقة ليشارك في النص الـمسرحي بواسطة ملء فراغاته وبياضاته، إلا أن هذه الـحرية تبقى مقيدة بالنماذج النصية المسرحية التي تتشكل من أنساق دلالية ومن نصوص سابقة تنتظم بـموجب استراتيجيات محددة، ومن ثـمة فإن المعنى الذي سيتم بناؤه من لدن القارئ سيكون نتيجة لذلك التفاعل القائم بين معطيات النص المسرحي وتأويلات قرائه، مع العلم أن المتلقي حينما يتلقى النص المسرحي لا ينطلق من فراغ ولكنه يستحضر في مـخيلته تلقي قراء يعيشون معه في المرحلة الزمنية ذاتـها التي ينتمي إليها، وهذا ما يـجعل تفاعله مع هذا النص يحمل أبعادا متعددة تكشف عن تأويلات وقراءات مـختلفة ومتعددة أيضا، تغني النص تنميه وتكشف عن مظاهر الخفاء فيه، فإذا كانت جمالية التلقي تؤكد أن عملية القراءة ينبغي أن تسير في اتجاهين متبادلين: من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، فإن القارئ بمجرد ما يتلقى النص يضفي عليه أبعادا جديدة قد لايكون لها وجود في هذا النص، ومن هنا فإن عملية قراءة النص المسرحي لا تنتهي إلا بإحساس القارئ بنوع من الإشباع وبتلاقي وجهات نظره مع هـذا النص، وعندئذ تكون عملية التلقي الـمسرحي قد أدت مهمتها، لا من حيث إن النص المسرحي قد استقبل من لدن القارئ، ولكن من حيث إنه قد أثر فيه وتأثر به على حد سواء. إن القارئ وهو يتقدم في قراءة نص مسرحي ما يقوم بين الفينة والأخرى بـمجموعة من التوقعات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بقدرته الـموسوعية وعوالـمه الـممكنة، وهي توقعات متعددة وتـخضع لاحتمالات كثيرة، مع العلم أن القارئ قد ينجح في إصابة ما كان متوقعا وقد لا ينجح في ذلك، إن العوالم الممكنة في النص المسرحي هي عبارة عن بناء ثقافي يسهم الكاتب في إنتاجه، وقد لا تكون هذه العوالم متطابقة مع الواقع الخارجي أو مع مـجموع ما يتشكل لدى القارئ عنه، وقد تختلف العوالم الـممكنة باختلاف العصور، لهذا كان العالم الـممكن جزاءا من نظام تصوري معين لدى القارئ. فأثناء عملية القراءة تطرح أمام القارئ عوالم خاصة ومتنوعة، ومن ثـمة يمكن اعتبار النص المسرحي آلة لإنتاج العوالم الممكنة(10).
إن النص المسرحي يقتضي من القارئ القيام بعمل دؤوب لـملء البيـاضــات والثقوب التي تتخلله، ويعني هذا أن النص المسرحي في حد ذاته يعد آلة ذات افتراضات مسبقة تؤدي بالقارئ إلى الترهين النهائي للنص، وتلك هي مهمة القارئ إزاء النص المسرحي الذي يعتبر بناء معقدا بـموجب مستوياته التركيبية والدلالية و التداولية، إن هذه المستويات تنطلق من مستوى التعبير حيث التجلي الخطي للنص في علاقته بشروط التلفظ الزمانية والـمكانية،وما تؤدي إليه على مستوى المضمون الـمرهن حيث التوسيعات الـمؤقتة وتوقعات القراءة وصلاتـها بالبنيات التواصلية الـمشكلة للنص المسرحي، لهذا يتوقع الكاتب الـمسرحي من القارئ أن يقوم بالتأويل أثناء عملية القراءة، كما ينتظر منه أن يثري العمل الـمسرحي بإضافات شخصية. وبـما أن النص الـمسرحي يعد من النصوص الغامضة في أساسها، يعمد القارئ كلما واجه نصا مسرحيا إلى امتحانه و اختبار مدى قدرته على تـحمل الـمعاني الإضافية بـموجب ما ركب فيه من مواطن غامضة تتـحمل التأويل. إن هذه العملية هي التي تثري النص المسرحي، ومن ثـمة كان النص المسرحي من وجهة نظر جمالية التلقي أثرا مفتوحا، وهذا الانفتاح هو الذي يستدعي القراءات والتأويلات المتعددة(11) .
إن العمل الـمسرحي يتكون من نصوص متعددة ومختلفة، يتشكل من تداخلهـا وانسجامها الخطاب الـمسرحي وهي النص الدرامي والنص السينوغرافي ونص المتلقي، إذ من الضروري التساؤل دائما حول الظروف التي تتحقق بـموجبها العلاقة بين منتجي الفعل الـمسرحي ومتلقيه، وهذا التعدد النصي هو الذي وسم الخطاب الـمسرحي بسمة المفارقة حيث اعتبره العديد من النقاد والدارسين فن الـمفارقات الذي يشتمل على عوالم متعددة ومتباينة تتنـوع بين اللغــوي والشعــري والفلـسـفي والنفسي والاجتماعي والأنتربولوجي وغيرها من الأبعاد الثقافية والفكرية، ومن هنا فإن مراعاة تعقد شبكة العلاقات في الخطاب الـمسرحي يعد شرطا أساسيا في بناء أي نـموذج قرائي يسعى إلى مقاربة النص المسرحي، فالقارئ الـمسرحي يجد نفسه أمام نوعين متباينين من الأدلة: أدلة النص وأدلة العرض، ويعني هذا أنه سيحتـاج إلى أدوات معرفـية وإجـرائية متعـددة ومـختلفة، تـحتم عليه الانطلاق من مقاربـات وتصورات تستند على أسس ومنطلقات معرفية متعددة ومتباينة هي الأخرى، وذلك بهدف تحديد الخاصية التي تـميز النص المسرحي وهي خاصية التمسرح.
إن الخطاب المسرحي – كما سبقت الإشارة – هو خطاب فني مفارق، حيث تتمثل أولى مفارقاته في كونه إنتاجا أدبيا وعرضا متحققا في الآن ذاته، غير أن هذا التداخل أصبح اليوم مسألة متجاوزة، خصوصا وأن الـممارسة المسرحية الحديثة قد أعادت الاعتبار للنص الـمسرحي واعتبرته الـمنطلق بغض النظر عن عملية التدوين أو الطبع و النشر، ذلك أن هذه العملية تتميز بكونـها قد تسبق أو تتزامن أو تعقب عملية خلق العمل الدرامي فوق الركح، وهذا ما يسمح للنصوص المسرحية حين تدخل مـجال الطباعة أن يعـاد قولـها أو ترجمـتها أو عرضها بصفة لا نـهائية(12) .
إن الخطاب المسرحي في بعديه النصي و الركحي يعتبر مـجالا يصعـب على الـمقاربات والقراءات النقدية مهما بلغ نضجها النظري والمنهجي والتطبيقي رصده وتحليله، ولعل هذا ما جعل النقد الـمسرحي الذي يقوم على أسس ومنطلـقات نفـسية أو اجتمـاعية أو سيميائية يواجه بعض الـمشاكل النظرية و الإجرائية التي لا يـمكن تجاوزها إلا بالاستعانة بحقول معرفية أخرى تفرضها طبيعة الخطاب الـمسرحي المركبة، بمعنى أن الخطاب الـمسرحي هو ذلك العالم أو الفضاء الذي يـمثل مشروع بناء فني متكامل، سواء في ذهن الـمؤلف أو الـمخرج أو الـممثلين باعتبارهم مقترحـين وواضـعين للأسس الفنية والإبداعية/الجمالية التي تحكم هذا العالم/الفضاء. أو في ذهن و خيال الـمتلقي باعتباره متصورا و متمثلا للفعل الدرامي، ذلك أن الخطاب المسرحي من خـلال أدلته الـمتعددة و الـمتنوعة يحتوي على معطيات افتراضية، وهي تلك الهيأة المبدعة الخلاقة للخطاب الـمسرحي التي تعبر عن نفسها في ظروف قرائية معينة وتسمح بانتقاله من مستوى الـملفوظ إلى مستوى إنـجاز هذا الاحتمال الدراماتورجي أو ذاك الذي تتنـوع دلالتـه وتتعدد بـموجب عملية التلقي/القراءة، ويؤكد هذا أن الخطاب المسرحي هو خلق جماعي يلعب فيه القارئ دورا جوهريا، كما يعني أنه لا يـمكننا أن نتصور تحققا فعليا ومـلموسا للخطاب الـمسرحي في غياب مقوم من مقوماته الأساسية هو عملية التلقي/القراءة، ذلك أن هذا الخطاب لا يـجد صداه الفعلي وتكامله الفكري والفني إلا عند المتلقي/ القارئ باعتباره مؤولا أساسا لهذا الخطاب(13) .
إن الخطاب المسرحي فعل تواصلي وممارسة ذات دلالة لأنه يضع ممارسة (الـمؤلف، المخرج، الـممثل) في موقف علاقة إنتاج لشبكة معقدة من الرموز والدلائل و العلامات التي يـمكن للقراءة أن تقاربـها وأن تحاول رصد وتحليل بنياتـها. إن المرسلات المسرحية ليست مرسلات بالمعنى العادي المتداول، لأنـها تقوم بدور الـمثير الذي يولد استجابات متعددة لا تتوقف عند عملية الفهم والإدراك، بل تتجاوزها إلى ردود فعل وجدانية ومادية، ويعني هذا أن التلقي الـمسرحي يـختلف كل الاختلاف عن التلقي العادي، لأن عمليـة البث والإرسال في الـمسرح هي عملية بث وتلق في الآن ذاته، ومن هنا يشترط في الـمتلقي الـمسرحي ألا يكتفي بفك رموز ودلائل الخطاب الـمسرحي، بل يشترط فيه أيضا أن يكون تغذية راجعة تبطنها شحنات وجدانية و مضامين فكرية وآثار فيزيولوجية ذلك لأن التلقي الـمسرحي لا يقف عند حدود إدراك الـمعنى بل يتجاوزه إلى تـماهي الإرسال بالتلقي، حيث يفقد الإرسال هويته ليتحول إلى إرسال وتلق في الآن نفسه(14) ، يقوم القارئ بـموجبهما بفك الرموز والدلائل والعـلامات الـمسرحية على ضـوء تـجاربه وقدراته التواصلية العامة، وكذلك انطلاقا من حمولته الفكرية والثقافية التي عودته على تفكيك وتذوق البنيات الجمالية للخطاب الـمسرحي، وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن النص الدرامي – إذا ما توفرت فيه شروط فنية وجمالية معينة – يستطيع أن ينقل إلى القارئ شيئا من تأثيره الـمسرحي خصـوصا إذا كان هذا القارئ ذا حساسـية إدراكية متمـيزة و قدرة على الخيال و التصور، لأن من شأن ذلك أن يجعل النص الدرامي المقروء أعمق فاعلية وأوفر أثرا.
إن العناصر الـمشكلة لتواصلية الخطاب الـمسرحي هي عناصر متعددة، لها إمكانات متفاوتة في إثراء معلومات الـمتلقي وتصوراته، فبعض هذه العناصر يحتوي على معلومات يعرفها المتلقي بالفعل أو يـمكن استعادتـها من خلال سياق الخـطاب الفكري والفـني والتاريـخي مثلا، وبعضها يشتمل على معلومات جديدة، وعندما ينظر القارئ إلى هذه العناصر من الزاوية التواصلية/التفاعلية يجد أن قدرتـها على تحريك الفعل الدرامي متفاوتة أيـضـا، ويعني هذا أن النصوص المسرحية الجيدة هي تلك التي تتخللها فراغات و بياضات ينتظر من القارئ أن يـملأها بالتعامل مع هذا النص تعاملا فنيا جماليا، لذلك فإن القارئ كثيرا ما يتوقف أمام هذه الفراغات للبحث عن المعنى المغيب(15) .إن القارئ يخضع لـمجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية ( نفسية، اجتماعية، فلسفية، فنية، ايديولوجية…) مـما يجعله يسند إلى النص المسرحي الواحد دلالة أو دلالات ليست بالضرورة هي الدلالة التي يقصدها الـمؤلف، وذلك بواسطة عمليات التأويل والتفسـير والتعليـق والشرح أي بواسطة فعل القراءة. إن هذا التصور يـحتم علينا اعتبار النص المسرحي نسقا مفتوحا يستلزم التأويلات المتعددة ويتقبل القراءات الـمختلفة ليزداد بـها ثراء على ثرائه، غير أن التعدد القرائي الذي تفرضه الطبيعة الإبداعية للنص الـمسرحي لايعني انفتاحه انفتاحا كليا، لأنه ومهما تعقدت فيه درجة الغموض والالتباس، فإنه يرسم لنفسه بعض الـحدود التي تـجعله يـمتلك دلالات معينة على القارئ أن يتقيد بـها أثناء عملية التأويل،وهي حدود ترتبط ببنياته اللغوية و بـمستوياته غير اللغوية التي تلزم الـمتلقي بنوع من الموضوعية أثناء عملية القراءة، وهذا ما يفسر حاجة القارئ الـملحة و الضرورية للأبعاد الذهنية و الطبيعية التي تشتمل على ما هو إدراكي وما هو حركي، كما تشتمل في الآن ذاته على ما هو جمالي، إن هذه الأبعاد هي التي تشكل و تبني في النهاية معنى النص المسرحي أو دلالته (16) .
من هنا يتضح مدى صعوبة قراءة النص المسرحي لأن القارئ وحده هو الذي يدرك أن العلاقة التي تربطه بـهذا النص ليست علاقة أحادية الاتجاه، يقتصر دوره فيها على تفسير الـمرسلات وفك الشفرات، كما يدرك أن الـمتعة الـمزدوجة تكون في حال انـخراطه واشتراكه في ترهين النص المسرحي. إن انخراط القارئ ومشاركته لن تكون كذلك ما لم يـملأ ثقوب النص ويقوم بمجموعة هائلة من الإضافات في حالة فهمه وإعادة تفسيره لمجموعة من الأفعال المسرحية التي يتضمنها النص، إن هذه الإضافات تعتمد أساسا على الـمستوى الثقافي والفكري والمعرفي للقارئ. إن المشاركة الوجدانية والعقلية للقارئ هي التي تـمكنه من استيعاب النص الـمسرحي ومن إماطة اللثام عن الـمناطق الخفية التي تتجمع فيها بذور الدلالة، غير أن هذا الاستيعاب يتوقف دائما على قدرات القارئ الذهنية والشعورية، وكذلك على الـمعطيات الجمالية للنص الـمسرحي التي تساعد على تحقيق الاندماج أو الانفصال أو المشاركة، ومن ثـمة كانت العلاقة بين القارئ والنص المسرحي عملية ثقافية معقدة ، حيث يختلف فيها التجاوب الشعوري و الذهني من متلق إلى آخر ومن نص مسرحي إلى آخر.
إن هذا التعقيد يفرض علينا طرح مجموعة من الأسئلة نذكر منها ما يلي:
– كيف يتم تـحقق النص المسرحي من قبل القارئ؟هل يتم هذا التحقق بالدرجة نفسها في كل أنواع و أشكال النصوص المسرحية؟ ماهي الأسس و الآليات التي ينبغي أن يقوم عليها هذا التحقق؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تعتبر مسألة واردة لأن من شأنـها أن تساعدنا على حصر آليات التلقي الـمسرحي وميكانــزمـاته وعلى تخصيصه وتـمييزه عن غيره من أنواع التلقي. فالسؤال الأول يفرض علينا أن نتناول الإشكالية الـمتعلقة بدور القارئ في علاقته بالنص المسرحي، ذلك أن القارئ لا يساهم فقط في بناء دلالات النص وفي خلق التمسرح النصي، ولكن يتوقف عليه الاعتراف الحقيقي بالوجود المسرحي ذاته. أما السؤال الثاني فيطرح لدينا مسألة اختـلاف أشكال العلاقة بين الـمـتلقي والنص الـمسرحي من حيث طبيعتها وشكـل فضائها، على أسـاس أن لكل نص مسرحي ضوابطه التي تحدد طبيعته وانتماءه إلى اتـجاه من الاتجاهات المسرحية الـمعروفة، بينما يقودنا السؤال الثالث إلى عمق قضايا ذات طبيعة نفسية ومعرفية تتعلق أساسا بالعمليات الانفعالية والذهنية والإدراكية للقارئ، وهي عمليات تشتغل بشكل متداخل أثناء عملية التلقي الـمسرحي.
لذلك فإن بناء مقاربة جمالية لتلقي النص المسرحي العربي تستدعي القيام بعدة إجراءات تـحليلية سبقت الإشارة إليها في الفصل الأول من هذا البحث نذكر منها ما يلي :
– تشغيل القدرات الدرامية للمتلقي المسرحي وما تشتمل عليه من مهارات ومعارف موسوعية .
– توظيف الـمعطيات شبه النصية التي تشتغل داخل النص الـمسرحي كالأنساق التاريخية و السوسيوثقافية.
– بناء استراتيجيات نصية تعتمد على وضع الافتراضات القرائية ومحاولة اختبارها لنسج توقعات استدلالية مـمكنة.
– توضيح العلاقة أو العلائق بين العوالم و الفضاءات الـممكنة داخل النص الدرامي.

الهوامش:

1: نجيب العوفي: ظواهر نصية – عيون المقالات ط.1 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء: ص: 8 -9
2: نفسه/ صص: 14 – 15
3: محمد أديوان : القراءة كبناء – مجلة الفكر العربي المعاصر – ع 61 (1989) ص: 106
4: سعيد يقطين: انفتاح النص الروائي: النص، السياق – المركز الثقافي العربي الطبعة 1 (1989) ص: 76
5: رشيد بن حدو: مدخل إلى جمالية التلقي – مجلة آفاق – عدد 6 (1987) ص: 12
6: منفريد كوستيجر : الأدب المقارن وجمالية التلقي – ترجمة عبد الرحمن طنكول – مجلة آفاق – عدد 6 (1975) ص 41
7: علي آيت وشان : الشعر والتلقي عند الفلاسفة المسلمين – الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي 16 دجنبر (1994) – ص. 7
8: رشيد بن حدو: م س ص: 12
9: منفريد كوستيجر: م س – ص: 42
10: أمبرطو إيكو: القارئ في النص – عرض: سعيد يقطين: مجلة آفاق عدد (1975) ص : 4
11: حسين الواد: في منهاج الدراسات الأدبية – منشورات الجامعة (1984) ص: 88/89
12: richard momod les textes de theatre – CEDIC – 1977 p/15
13: ميلود بوشايد – دروس مادة المسرح- السنة الثانية من السلك الثاني – شعبة اللغة العربية وآدابها – كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك سيدي عثمان – السنة الدراسية 2000/2001
14: محمد مصطفى القباج: التلقي المسرحي: قراءة استبطانية جمعية – مجلة الوحدة
15: anne urbersfeeld /lire le theatre 1 – ed – sociales – paris -1982 p/24
16: ميلود بوشايد: م.س


الكاتب : د. محمد فراح

  

بتاريخ : 28/01/2022