نوري بوزيد: فن جدلية الاشتباك مع الواقع

ليس من العادي والمألوف دائما في عالم السينما المحاصر بسياج راس المال الصناعي و الرقابة و الأذواق المتعددة بتعدد المرجعيات الفكرية و الثقافية للجماهير أن ينحاز مخرج ما للمغايرة، و ذلك بالمغامرة في النبش في القضايا الحساسة لمجتمعه، أو باختراق الأسلوب الفني بحكي يربك عين المشاهد بثورة على ما هو مألوف بحثا عن عدم تكرار ما هو موجود من اجل فرض رؤية سينمائية جديدة وخاصة غير متملقة ،فحينما نقل ازنشتاين مبدأ الصراع من البنية العامة للسيناريو إلى داخل اللقطة نفسها، كان يرمي إلى زعزعة جمود التلقي و إستنفار ذهنية المتلقي لاستنتاج الدلالات من خلال المونطاج الجدلي، وحينما دمر المخرج «جان لوك جودار» مؤسس الموجة الجديدة الفرنسية بنية السيناريو التقليدية بالتمرد على خطية الزمن السردي وتكسير قواعد تراتبية الفصول عدا إخلاصه لفن المونتاج، كان يهدف إلى محاربة التكلس الذهني للمتفرج،وتاريخ السينما يعج بتجارب و تيارات قادت ثورتها على السينما من داخل السينما، وحكمت على النقد في كل مغامرة جديدة البحث عن صياغة منظومة نظريات جديدة تنقده من حالة الاغتراب، وهي حالة عاشها النقد السينمائي العربي أمام تجارب ثائرة عن الأسلوب بالمعنى الرمزي كحالة أفلام «شادي عبد السلام»أو «مومن السميحي» من المغرب خصوصا في شريطه « قفطان الحب» الذي وصف بالفيلم ما وراء طبيعي،أو أفلام تمتح موضوعاتها من مؤثرات الواقع السياسي و الاجتماعي مستفزة وجريئة دون أن تدعي الواقعية كتيار، وذلك بوضع المتلقي وجها لوجه مع الحقيقة المغيبة بتدمير مبدأ السينما كمستوصف للعلاج النفسي، وجعل الفيلم مرآة للحقيقة حتى و إن كانت مجرد تركيب فني، يكفي أن نشاهد بعض أفلام» يوسف شاهين»، او»نبيل عيوش» أو «يسري نصر الله» ،لنعرف كيف أن هذه الخيارات نفت البطل النموذجي و أعلت من شأن المهمشين، غالبا عن طريق النبش في الذاكرة فردية كانت أم جماعية .
من بين أهم مخرجي السينما العربية الذين اختاروا هذا النهج المخرج التونسي «نوري بوزيد» والذي يعتبر علامة من علامات السينما عربيا، وأحد صناع الفترة الذهبية للسينما التونسية خلال الثمانينات ،من خلال أفلام تندرج في إطار المحرم مشاهدته، لقد إستتمر نوري بوزيد التقاليد السينمائية التي أسس لها الناقد التونسي الراحل « الطاهر شريعة» من خلال الفيدرالية التونسية لنوادي السينما منذ 1949، وعوض تأخر السينما التونسية تاريخيا قياسا إلى بعض السينمات العربية الأخر إلى جانب مجايليه من السينمائيين بطفرة تجاوزت محدودية انتشارها،بإثارة الانتباه لها من طرف المتتبعين و العديد من المهرجانات الدولية خلال فترة الثمانينات التي تعتبر الفترة الذهبية للسينما التونسية بامتياز،والتي عرفت ظهور جيل جديد من السينمائيين رسموا مسارا فكريا جديدا لموضوعاتهم من قبيل « منصف دويب»و «فريد بوغدير» و « مفيدة الثلاتلي» وغيرهم ، في تزامن مع ظهور منتجين مغامرين من مثل « حسن دلدول»،و «طارق بنعمار» و « أحمد بهاء الدين عطية،……..مما شجع ذلك الجيل الجديد من السينمائيين على اختراق المناطق المحرمة للحديث عن السلطة و السياسة و الجنس و الهوية الثقافية للوطن،بجرأة نادرة مثيرة للتعجب و القلق،بل و التذمر من طرف البعض الذي رفض أن يرى الحقيقة دون مساحيق ، حيت و صفها البعض بالإباحية، في حين اعتبر البعض «هذه السينما الجديدة التي تطل علينا من تونس جريئة لكنها تخاطب الجمهور الغربي أكثر مما تخاطب الجمهور العربي»، والواقع وبدون تحفظ يمكن اعتبار «نوري بوزيد» عميد هذه المغامرات التي تخترق المحظور في السياسة و الدين و المجتمع دون تنازلات،وبفنية سينمائية عالية ، لأن «نوري بوزيد» لم يدخل عالم السينما بالفطرة والعشق فقط، بل علاقته بالسينما علاقة تشابك معرفي بها وبلغتها،فهو مؤطر سابق في نوادي السينما، قبل أن يدرسها في المعهد العالي لفنون الفرجة «INAS»، ليساهم فيما بعد في كتابة بعض السيناريوهات من مثل « «الحلفاوين» و « عصفور السطح « لفريد بوغدير و « السنوات العشر» للمخرج «ابراهيم باباي»… و لينتقل لمغازلة الكاميرا كمساعد مخرج للعديد من السينمائيين التونسيين و العالميين من قبيل « عبد اللطيف بنعمار» و « رضا الباهي» و «ستيفن سبيلبرغ « و آخرين، وهذا ما مكنه من امتلاك الأدوات الكفيلة بانتقاله إلى عالم الإخراج ، لدرجة اعتبر البعض نوري بوزيد خريج مدرستين : مدرسة السينما و مدرسة التمرد: ، لأنه و عكس مجايليه كان يفكر بصوت عال و هو يرسم مثلثا رؤوس أضلاعه السياسة ،والدين، و «الهوية ليس رفضا لها لإلغائها بل لإعادة تشكيلها من جديد» كما عبر عن ذلك
يوما، بوصلته في خطاباته العودة إلى الذات بوضع قراءاته الخاصة التي تحاكم المجتمع التونسي ومن خلاله المجتمع العربي ككل، وهو ما أشار إليه « هشام عبد الحميد» بالقول : ( طرح نوري بوزيد سينما جديدة، بأبجديات مختلفة، قوامها الجدل الجمالي و الموضوعي ،والاشتباك مع الواقع السياسي و الاجتماعي في حالة نقدية تأملية حرة ومثيرة للدهشة).
لقد استطاع نوري بوزيد أن يدمج أطروحاته الفكرية داخل نسق سينمائي شاعري، مستخدما اسلوبا مقطعا لاختصار الزمن، «دون السقوط في مزايدة على الطريقة الموجودة في الإعلانات» كما يقول،محاولا أن يتماشى مع علاقة الإنسان بالزمن، وهذه ما جعل البعض يرى أن أفلامه تتواصل مع حركات الحداثة التي أنتجها كل من « فيلليني» و « بازوليني»، خصوصا من جانب البحث عن القطيعة سواءا مع الأسلوب أو حتى في بناء شخصياته بمفهوم جديد، تلك الشخصيات التي يقتبسها من قاع المجتمع ، وهي كلها شخصيات خاسرة و مقموعة و معتدى عليها. وهو الخيط الناظم لكل بنيات أشرطته سياسيا كم في شريط « صفائح من دهب» ، أو اجتماعيا كما في أشرطة « ريح السد» و «بزناس»، أوبعض الأفلام التي تناولت قضايا المرأة كما في أشرطة « بنت فاميليا» و « عرائس الطين»،و»ماانموتش»، أو دينيا كما في شريط «آخر فيلم» حيث الدعوة إلى إعادة تقييم دور الإسلام في المجتمع، ما يميز كل هذه الأشرطة هو الهزيمة المرفوضة من خلال شخصيات تكتشف أنها لا تستطيع تحقيق الشيء المطلوب منها، فبطل ريح السد « هاشم» يكتشف عدم قدرته على الزواج لكون رجولته ناقصة، و»يوسف سلطان» في فيلم « صفائح من دهب» يكشف عن انهزام الأنتلجانسيا دون أن تكون للبطل القدرة على القيام بمهمته التاريخية كسياسي ،وبهمته الاجتماعية كأب،و» روفا» في فيلم «بزناس» غير قادر على تأدية مهمته نثيجة قسوة الزوجة،و في شريط « أخر فيلم» يستسلم الشاب العاطل المولع بالرقص للتيار السلفي ، ولتبذأ معاناته في الحياة خاصة حينما تتعارض هواياته مع الطريق الجديد الذي يسلكه، هي نماذج من شخصيات عاجزة في معظم أشرطة نوري بوزيد، وهو عجز نثيجة اعتداء، كان اعتداءا سياسيا كما في «صفائح من دهب»، أو جنسيا كما في « ريح السد» ، أو نثيجة التغريب كما في شريط» بزناس»، هذا الشريط الذي تعرض للنقد من طرف الشرق و الغرب على حد سواء، فالغرب اتهمه بأنه يصوره بشكل مشوه جدا ،ليرد المخرج بالقول ( لقد رفضوا أن يكونوا بصورة كما يراها الشرق) مضيفا (علينا أن نصور الغرب وفق حساسيتنا الثقافية الخاصة، علينا أن نتحرر،لأن اهتمامات السوق و الاعتبارات التجارية قد تغرينا بالانزلاق نحو الغرب،لقد وصفت كل أفلام نوري بوزيد بما فيها الأفلام التي عالجت قضايا المرأة من مثل « عرايس الطين» و « مانموتش» و « بنت فاميليا» وغيرها بالجروح التي تعبر عن إخفاقات و انكسارات، وتصور الواقع بعنف غير مهادن يخلخل الجمود الفكري،فهي بصيغة ما أفلاما فكرية لكن بأسلوب سينمائي يعتمد التقطيع الفني كأساس للتبليغ و استنتاج الدلالات.
إن المتتبع لتجربة نوري بوزيد ومخاض البدايات لابد و أن يتوقف عند تجاربه الثلاثة الأولى ،لأنها تعتبر التجارب المؤسسة لسينما خاصة ترتبط كل أفلامها بخيط ناظم يكاد يقربها من تيار مستقل داخل السينما العربية، سينما ترفض الانغلاق، وتنطلق من الموضوع القطري الذي يتجاوز حدود جغرافيته ليلامس المشترك من المعضلات السياسية و الاجتماعية في كافة الوطن العربي
في أولى تجاربه «ريح السد» يحكي بوزيد عن قصة شاب تونسي « الهاشمي» يعمل نجارا ويرفض الزواج، وعن طريق الاسترجاع يفصح عن السبب الذي يتعلق بالاغتصاب الجنسي الذي تعرض له حينما كان صبيا ، وهو الجرح الذي يصبح محددا لك علاقاته ، اعتبر الفيلم من طرف البعض بالفيلم لذي قدم جميع الشخصيات العربية مهترئة وشادة مقابل تصوير شخصية اليهودي بأبعاد إيجابية، مما اعتبر مغازلة لليهود وهو ما رد عليه المخرج بالقول( إما أن أكون متسامحا أو لا أكون فهوية اليهودي ليست معادية لهويتي، إن الصهيونية معادية للفلسطيني، هذا صحيح ، ولا أحب أن تعطى لي دروسا في التسامح)، لقد نبش بوزيد في الذاكرة الاجتماعية ليحكي عن شخص كبير بعقلية طفل صغير بدليل قوله ( إن من أخرج الفيلم هو الطفل الذي بداخلي و ليس الكهل ،في تجربته الثانية « صفايح دهب» عبأ المخرج جملة من العناصر الاجتماعية و الثقافية و السياسية لتوليف صورة تقريبية عن المناخ الاجتماعي و السياسي بتونس، من خلال قصة « يوسف سلطان» الخارج من السجن و الباحث عن ماضيه، والذي يعاني من أجل أفكاره شتى أنواع التعذيب، اعتبر الفيلم سيرة ذاتية للمخرج كمعتقل سياسي سابق، لكن نور بوزيد لا يعتبره كذلك، إنه و على حد تعبيره (كتابة بلغة المخاطب، أي أشياء معاشة بشكل ما، بمعنى أن شخصيتي و شخصية البطل قريبتان من بعضهما).
يختار بوزيد في هذا الفيلم ليلة عاشوراء كزمن لبداية السرد، ومن خلال عتمة الليل و ما تحمل ليلة عاشوراء من دلالات للخلاص يقتحم المسكوت عنه، ويزيل الأقنعة عن الجنس و السياسة ، عن الجنس لأنه لم يتردد في تصويره ببلاغة سينمائية تبتعد عن الأيروتيكا المرضية من أجل الجنس فقط، و عن السياسة لأنه أماط اللثام عن الإنسان المهزوم، عن هذا الفيلم كتب الناقد المغربي «محمد صوف» :(صفايح دهب شريط عالمي أمر لا جدال فيه،لا على مستوى الطرح ، بل على مستوى التقنيات و التحكم في الكاميرا و رسم الإيقاع) وهذا صحيح ،لأنه على مستوى الموضوع اعتبر الفيلم سفرا روحانيا في العديد من المحطات، أما على المستوى التقني فيعتبر ابنا بارا لمدرسة المونطاج الجدلي السوفياتي ، حيث استنتاج المعاني لا يتم إلا على المستوى الذهني وبمجهود استتنائي من المتلقي لفك رموز التوليفات البصرية، تعرض هذا الفيلم لمقص الرقيب لكن المخرج فضل عرض الفيلم على أن يعرضه ناقصا.
في تجربته الثالثة سيعود نوري بوزيد لطرح قضية ذات بعد اجتماعي ،لكن في علاقتها مع محددات الواقع،وذلك من خلال فيلم «بزناس»، حيث أصر مرة أخرى على الغوص في المحظور، من خلال الحكي عن فئة من المجتمع التونسي التي تحترف التعامل مع السياح الأجانب بأسلوب هامشي و غير مقنن، و «البزناس» في اللهجة التونسية هو ذلك الشاب الوسيم الذي يبيع جسده للسائحات الغربيات، يضع بوزيد شخصي ( روفة) لتدبير الأحداث، و(روفة) هو الشخصية المنقسمة الشخصية إلى شطرين، شطر يحمل كل الإرث العاطفي و التقليدي إزاء خطيبته،والشطر الآخر هو التي تتماهى فيه الشخصية مع نفس مسار المجتمع التونسي الواقع على عتبة التحديث فيما ثمة عناصر تقليدية قوية تجذبه، إنه شريط عن علاقة الشرق بالغرب،أو علاقة نحن بالآخر، لكنه فيلم مكتوب من وجهة نظر شرقية من خلال معالجة ظاهرة اجتماعية أصبحت عنصرا ضروريا في اقتصاد السياحة، لقد أراد بوزيد التطرق لعلاقة الشرق بالغرب،أو علاقة نحن بالآخر،وقوة الفيلم تكن في طريقة الحكي بالصور، ويعتبر مشهده الأول من المشاهد النادرة التي تختزل المعنى العام للموضوع دون التفريط في دفع المتلقي للمساهمة الوجدانية في تتبع الأحداث و المساهمة في التنبؤات لما بعدها، بل و تدفعه للبحث عن أسباب تصادم الحداثة بالتقليد، و كحالة أفلام بوزيد السابقة أنقسم النقاد السينمائيين العرب حول رفض الفيلم أو تبنيه بحذر،»فحبيب الأسود» كتب في مجلة فن قائلا: (يبقى شريط بزناس من الأشرطة العربية التي تتجاوز السائد بحثا عن سينما تعبيرية تصدم المشاهد، و تبعث فيه رغبة في معايشة الواقع و التعمق في سلبياته للقضاء عليه)، في حين وصف البعض الفيلم بالفيلم الذي يشوه الإنسان العربي، بل انتقد حتى في جانب أسلوبه السينمائي كما كتب «أمير العمري» قائلا : هذا الفيلم يعبر بوضوح عن ارتباك شديد و رغبة غير مفهومة في الإمساك بكل الأطراف في وقت واحد ، التحليل النفسي و الهجاء السياسي، ومغازلة الجمهور الأجنبي بنظر استشراقية مع مراهقة تقنية لا عهد لنا بها في فيلمي بوزيد السابقين).
من المؤكد ان الأفلام اللاحقة ظلت تناور بنفس الأسلوب و نفس التحدي للفصح و الفضح، و هي تجارب مشتركة مع العديد من المخرجين العرب الآخرين، مما يفيد بإمكانية الدراسة لهذه التجارب المتباعدة و المتقاطعة في نفس الآن لمعرفة ما مدى الحسم من عدمه في توصيفها وتصنيفها ضمن تيار سينمائي دو خصوصيات نافدة تسمح له بذلك، لا على مستوى الأساليب البلاغية السينمائية المختلفة، بل على مستوى المواضيع التي تعني بالإجابة عن المعضلات الكبرى في الوطن العربي.


الكاتب : عبد الجليل لبويري

  

بتاريخ : 10/12/2022