«نوميديا» للروائي المغربي طارق بكاري لعنة الذاكرة وأزمة الذات

 

تدورُ أحداثُ الرواية حول قصة (مراد الوعل ) المريض النفسي الذي اقترح عليه طبيبه أن يقضي بعض الوقت في قرية «إغرم» التي تعود به لطفولته الحافلة بالألم والمأساة ، إذ يجد نفسه لقيطاً ملفوظاً ، تتبنّاه عائلة وتسمّيه « أوداد» التي تقابل في معناها الوعل ( وهو تيس الجبل ) ، ما إن يبلغ الخامسة من عمره حتّى تخبره بالحقيقة.  يقضي «اوداد» سنوات طفولته بين الجبل والوادي ومقام «سيدي موسى» الذي نبتت فيه شجرة من دم الشهيد وحرّم على الناس الأكل منها ، وإلحاق اللعنة بكلّ من انتهك هذا العرف. ومع أنّه مكروه  من طرف سكان القرية لأنّه لعنة كما يسمونه، إلّا أنّه كان متفوقاً في دراسته.
الحسين رجل من المدينة ، يأخذ « أوداد» ليتمّ دراسته،  فيعدّل اسمه إلى «مراد» . يتعرّف على الاستاذ مصطفى الذي يناوله بعض الكتب ويُعرّفهُ  على مبادئ  الاشتراكية  من خلال كتاب « رأس المال « لكارل ماركس . يتأثّر «مراد» بالفكر الاشتراكي،  ويبرز هذا التأثّر في المواجهات الدامية التي كانت تدور رحاها في ساحة الجامعة بين الرفاق والجماعات الإسلامية المتطرفة . يلاحق الإرهاب الأستاذ مصطفى حتّى يلقى حتفهُ على أيديهم وتتواصل التهديدات التي يتلقّاها « مراد» .
في أول عهد مراد بالمدينة يرتاد وكر بغاء ، فيعرف أول امرأة وهي «حياة « التي كان يرى أنّ كلمة بغي لا تليق بها ، استطاع النفاذ إلى مسامّ روحها المظلمة واستنطاق حكايتها ، ثم تختفي في ظروف غامضة .
يتطارحُ مراد وخولة الحبّ ، ويختفي مراد ويغيب،  ليعرف فيما بعد أنها حبلى منه وقد أقدمت على الانتحار مخلّفة مذكرة ظلّت تنكأ جرح القديم في ذاكرة الماضي.
تقع نضال ، الشاعرة المناضلة في سبيل الاشتراكية، في حب مراد خلال المرحلة الجامعية،  وتلحق به إلى «إغرم « لتشبع شبقها من جسد مراد في حب يستلهم قوته من التحام جسديهما أثناء الجنس.
يأتي هذا السرد المتقطع على لسان مراد وهو يعيد تركيب خيوط حكايته ، معوضا ضمير المتكلم بضمير الغائب،  لجوليا الفرنسية . يندمج مراد في حبّ لا يقل شبقا عن الحب الذي تطارحه إياه « نضال» ، حيث تعلّقت جوليا بجسد مراد ، كما انّ مراد يعتبر الجنس هو الوسيلة التي يجابه بها المرض،  مراد الذي ينضح رغبة جنسية لم يستطع أي جسد ردعها.
يكتشف مراد خيانة جوليا ، التي تواطأت مع طبيبه النفسي واشترت ملفّه الطبّي ، مستغلة حكايته كمشروع روائي ولكن هذا لم يمنع مراد من الاستمرار في اللعبة ونهب ثروة جسدها.
في الوادي الذي يقضي فيه مراد وقتا طويلا ، يلتقي بفتاة أمازيغية خرساء أطلق عليها اسم «نوميديا» فيحبّها ، وهي الوحيدة التي ينسى معها رغبته الجنسية،  وقادته للجنون والهلوسة والهواجس المضطربة بعد غيابها.
بعد كلّ هذه المأساة،  يجد مراد نفسه أمام شجرة التين الملعونة   فيأكل منها ويفقد وعيه ، إلى أن يجد نفسه معلّقاً على الشجرة وأمامه فقيه القرية يقوم بصرعه مدّعياً أنّ نوميديا (سيدة الحصان ) كما يسميها مراد ، و (جنية الوادي) كما يسميها الفقيه قد سكنته وتتكلم الأمازيغية بلسانه.
يذهب مراد لقمة الجبل صارخاً باسم نوميديا،  ولا يشعر إلا بطلقة الرصاص تدوي في السماء حاسمة التحذيرات المتتالية من طرف الإرهابيين.
في مسوّدات رواية « مراد الوعل « لجوليا ، تعترف هذه الأخيرة بكلّ ما اقترفته في حقّه ، معبّرة عن ندمها الشديد ، كما تعترف أنها كاتبة كل التهديدات التي كان يتلقاها  ظانّا  أنها من الإرهابيين.  يختفي مراد أو يموت.  ويبقى السؤال الذي يحفر خنادق في القلب :
–  لكن ماذا نوميديا ؟
تنفتحُ رواية نوميديا للكاتب المغربي « طارق بكاري» على  واقع سياسي واجتماعي ونفسي   مريرٍ،  تتجسّد فيه الذات  المتألمة  متشظية الهوية  غير قادرة على الانفتاح  والتواصل بسبب  الأزمة التي تؤجّجها  صراعات  الأنا  والغير  . «  نوميديا « روايةٌ ذات حمُولةٍ تاريخية تحتفي  بالثرات الأمازيغي الذي ينبضُ في قلب  أمكنتها  التي تفوحُ بعبقِ  الحضارة الأمازيغية،  وفي  شخصية « نوميديا « التي تشغل مساحة هامّة  في القِوى الموجّهة لمسار الأحداث،  بحيثُ وهبها طاقة أسطورية مستمدّة من التاريخ الأمازيغي وهي اسم نوميديا ، الملكة الأمازيغية الهاربة من كتب التاريخ،  على حدّ وصف الكاتب ، وذلك الحضورُ المجلجل إنّما هو حضورٌ لثراتٍ لا تمحوه  الحضارات مهما تطوّرت   و ترّسخُ صورة «نوميديا «  إنما هو ترسيخٌ للثرات الأمازيغي في الذاكرة الفردية،  قبل الجماعية.
يعالجُ  الأستاذ طارق بكاري  هشاشة المبادئ الإنسانية في زمن العولمة  وتسليع الإنسان ،  فالطبيبُ النفسي خان مبادئه وهو يخون مراد ببيع ملفّه الطبّي لجوليا بمقابل مادّي ، هذه الأخيرة التي تتوخّى جعل الإنسان الشرقي المُستنزف مادّة أدبية  تؤسّس بها لمشروعها الروائي،  تتفشّى الخيانة في سردٍ متقطّعٍ  لتكشف  زيف العلاقات الإنسانية  القائمة على المصالح،  يصبح الإنسانً سلعةً ، مجردا من كلّ بعدٍ إنساني  ، فيقول طارق بكاري على لسان أحد شخوص روايته:
« تبّاً لوطنٍ تعوّد أن يبيع كلّ شيءٍ»  (ص300) . المبادئ الإنسانية  الهشّة ، التي تحكم باللعنة على إنسان  بريء لا ذنب لهُ في مصيره المحكوم بالخطيئة،  وتستمرّ في طرده متجاهلة معاناته  التي  تتجشّم صراع  الخرافة  والتشدد  وتشظي الهوية .
يحتفي الكاتب بالجسدِ ،  ويصوّره  كقوة للتغلّب على  هشاشة الروح،  فبطل هذه الرواية الهش  والمستنزف يتمتع بفحولة ورغبة جنسية قوية لم يستطع أيّ جسد ردعها  ،  ويعتبر أنّ الجنس يساعد البطل في التغلّب على المرض الذي يفتك بهِ .   الحبّ  روحيّ صرفٌ، ولكنّه يبقى ناقصاً في غياب  الجسد  وهو ما يثبته السرد،   لا يكتمل الحب إلا بالالتحام الجسدي  ليس فقط من أجل الجنس كرغبة؛ بل نشداناً للأمان والسكينة .  (اعتقدُ أنه لا توجد حدودٌ صارمة بين العاطفة والجسد ، في النهاية الجنس بدون عواطف حبّ ناقص، وكذلك العاطفة بدون جنسٍ ) (ص310).
جاء هذا الاحتفاء ليبني تصوّراً مغايراً عن المألوف، الذي يهمّشُ الجسد،  ويجعل الحب روحيّاً صرفاً ،  فهذه الرواية إذن تتحدّى التصورات المثالية للمشاعر الإنسانية  وتستفيد من الفلسفات المعاصرة التي تجعل من الجسد والروح مكونين فعالين ولا يستقيم عملُ أي مكون بمعزلٍ عن الآخر .
من يقرأ « القاتل الأشقر « ثمّ يتلوه بـ»نوميديا» يدرك  مشروع الكاتب، الذي يتحدّى الإرهاب والتشدّد والتطرّف ، وينتقد الإسلام السياسي الذي  اجتاح الشرق بعد أحداث الربيع العربي ،  يبدأ هذا النقد من المرحلة الجامعية  عندما كانت تدور معارك طاحنة بين الفصائل الطلّابية ،  وما شهده من عنف وهمجية جعله يحقد على الإرهابيين الذين يشوّهون  صورة الإسلام ، مع أنّ الإسلام كدين ووضعٍ إلهي بمعزلٍ عن هذا النقد.
(وأنا أحبّ الله أيضاً ، ربّما أكثر من برابرة الزمن الرديء هذا)
(ص240) .  ويقول أيضاً :
«الدين تواضع وحنان في قلب المرء قبل لباس،  كرمٌ في التعامل ، تسامح وحرية ، وإغداقٌ في حبّ الله بصدق ، والتفكير فيه أكثر من الانشغال بكره الآخرين عن حبّه « (ص314) . يتبّنى الكاتب فلسفة كونية تستمدّ مشروعيتها من السلام والأمن وتقبّل الآخر ، ونبذ كلّ أشكال العدوان والتطرف.
يؤسّس الكاتب  تيمة الرواية بشكل عام  على الذاكرة باعتبارها   قوة تعصفُ بكيان  البطل،  وتحيلهُ على الآلام ،  فتنفجر شرارات  الأزمة  التي تؤججها الذاكرة على شكل سردٍ متوهجٍ  بالشاعرية التي تغوص في أعماق النفس ، وتشرّحها  على منصة  الحكاية ، فتعلقها على صليب الحقيقة لتندلق دماء الخيال والوهم، الذاكرة الفردية التي تنخر الذات ، وتجعل الهوية مستعصية الفهم،  وصعبة التحديد.
يقول طارق بكاري :
«في غمرة  الرؤى والذكريات التي تومض وتختفي ،  تذكرتُ خولة، تذكرت حبها العنيف الذي جرّها نحو الانتحار «(صص70-71) .
«إنّه داء فقدان التحكّم في الذاكرة،  للآسف أنا لا أنسى وهنا تكمن المأساة « (ص102 )
الذاكرة في بعدها الفلسفي التي  تحدّد هوية الفرد،  وتجعل من حياته وأفكاره وهواجسه شريطاً  متقطّعاً  يعبر على ذاكرة الإنسان.  الذاكرة هي مصدر الآلام التي يعيشها البطل ، وما هذا البطل إلا رمزٌ  للإنسان العربي العربي المقهور  المتأثّر بواقع الأزمات منذ 1948.
تأتي الخيانة كموضوعة مهمة .  الخيانة في علاقات هشة تستنزف طاقة أطرافها،  وفي المبادئ المهنية عند الطبيب الذي  جعل مريضه سلعة ، وفي مبادئ الاشتراكية التي ليست إلا طموحاً واهماً للإنسان الباحث عن العدالة الاجتماعية في زمن الظلم وميزان القوى الحاكمة . يتعرض البطل للخيانة من طرف طبيبه النفسي الذي باع ملفه الطبي، ويتأثر بانخداعه بحبّ جوليا، الذي كان ذريعة لتحقيق أهدافها،  يتأثر بالذين خانوا مبادئ الاشتراكية .  ستبقى الاشتراكية مجرد حلم الشعوب ما لم تصوب رصاصاتها التائهة وتوحد غاياتها فالثورة الفردية لا تجدي   وتعدد الأهداف لا يجدي أيضاً .
«- والاشتراكية يا مراد ؟
– أخطأنا الفهم ربّما  أو ربّما ، كانت مجرد حلمٍ جميل كان علينا أن نكتشف مبكرا أنه مجرد حلم ،لا يصمد أمام هول الواقع بكلّ تناقضاته،  كان حريّاً بنا أن نستفيد من أخطاء من سبقونا ، وأن نعلم أننا في وطن لا يًحبّ الأحلام كثيراً .. «
« أتعرفين من المفلس يا نضال؟
-من ؟
من يكرر الخطة نفسها ، التفكير نفسه .. وينتظر نتائج مختلفة «  (ص-322-323)
في ظلّ هذه الخيانات المتتالية والذكريات التي تتناسل في الذاكرة يتمنى البطل الموت الذي يجد فيه الخلاص، ولكن في كل مرة يتأجّل منذ أن حاول الانتحار في طفولته.  لكن  حبّ نوميديا، هو  ما أشعل في قلبه نور الحياة، وجعله يتمسك بخيوط الأمل البعيدة،  بحثاً عن خلاصٍ آخر يكون  في حب نوميديا .   وهكذا تتداخل ثنائية اليأس والأمل،  الحب والحقد،  الخيانة والوفاء ، الموت والحياة،  النور والظلام، لتؤجج الصراع في ذاكرة البطل وتؤسس لهوية متشظية يمكن أن نطلق عليها : الهوية العربية المتشظية.
ويبقى السؤال الذي يحفر خنادق في القلب :
– ماذا عن نوميديا ؟ أو ماذا عن رأس الخيط من الأمل الذي يتمسك به كلّ عربي ثم يضيع منه ويختفي؟ وماذا عن الثرات الذي  يطلّ عبر نوافذ التاريخ ثمّ يحتجبُ ؟


الكاتب : الحسين بلحاج

  

بتاريخ : 02/09/2022