هذا أوّل أصدقائي

( كاتب، قاص وروائي تونسي)

هذا أوّل أصدقائي…
عندما عدت إلى البيت مزهوّا بمحفظتي الصغيرة وملابسي الجديدة, لم يكن شيء أسعد عندي من أن أخبر أمّي بأنّني قد أصبح لي صديق حميم.
وقفت قريبا من أمّي وأخبرتها أنّ ولدا في مثل سني بالضبط وسّع لي في الصفّ، ودعاني قائلا لي :» هذا صديقي…»
لا أدري كيف تفاعلت أمّي مع الخبر. والأقرب للظنّ أنها لم تنتبه إلى ما قلت لأنّني أتذكّر جيّدا أنها واصلت رحيها حبات الزيتون وحديثها مع خالتي.
ولمّا دخلنا القسم أوّل مرّة دعاني الصّديق إلى منضدة قريبة وجلسنا معا. وأعاد عليّ قوله:» أنت صديقي…»
في التعليم الثانوي كنا في نفس القسم. لكنّ صديقي لم يعد بحاجة إلى تذكيري بأننا أصدقاء. وتوطّدت صداقتنا دون أن تكون في حاجة إلى التنويه. ودعمناها بالاشتراك في تعلّم التّدخين وتبادل النّكت البذيئة.
وافترقنا. ولم نكن قد فطّرنا في ذلك يوما.
بعد أن اشتعل رأسي شيبا، التقينا في المقهى. وقال صديقي لمن كان حول الطّاولة:» هذا أفضل أصدقائي.» ورددت عليه مجاملا:» نعم هذا أوّل أصدقائي.»
كنا نلتقي على طريق القرية. ولم نكن نزيد على تبادل التحيات والابتسامات العجلى التي كانت تنوب عن المودّة العجوز التي بدأت تفتر.
اليوم، توقفت سيارته أمام باب داري وبدأ صوت المنبه في الزّعيق. سلّم عليّ بحرارة. وناولني دعوة لحفل زفاف ابنه. وألحّ عليّ أن أحضر. فتظاهرت بالرغبة في ذلك رغم كوني لم أعد أرغب في حضور الأفراح والأتراح…
ومضى …
أمسكت بخناق الطفولة ودسستها في جيبي. كنت أسمعها تعيد السؤال المكتوم: « هذا أوّل أصدقائك؟» قمعتها بعنف. وأوشكت أن أضرب عنق الطفل فيّ. وأكلتْ بعضُ الذكريات من جيبي حتى بلغت فخذي. وأصابتني الحكّة. ها هي الحساسية تعود من جديد: صفّان طويلان من التلاميذ أمام قاعة علمت بعد سنوات أنها قاعة السنة السّادسة. وشغبت على هدوء الذّاكرة الحسّاسة صورة لمدير يلبس ميدعة بيضاء ويضع نظّارات ويصيح في كلّ من يتحرّك في الساحة.
كنت أجهد نفسي في ترتيب الصّور. ولكنها كانت تغلبني دائما وتخبرني بأنّ ثقوب الذّاكرة أصبحت تجلّ عن العدّ.
ها إنّني أوشك أن أسقط في ثقب من ثقوبها. ولذلك تشبثت بالواقع وبمرآتها المقعّرة التي تسوغ للناظر فيها أن يحسب الأيّام بالشكل الذي يناسبه.
في جيبي تحولت الأشياء الصغيرة الجميلة المبهمة إلى جثث هامدة. وفي المطبخ احترقت القهوة. وفي البيت شربت المرآة صورة ولم تتقيّأْها كعادتها.
ومنذ ذلك اليوم، وأنا أحيي ذكرى وأد بناتي. ومنذ ذلك اللقاء وأنا ألوي أعناق الأيّام وأرميها إلى المرآة تشربها. ولا ترتوي.
في ذلك اليوم، لا أدري من الذي كان يمشي ومن كان يُمشى به؟ التفتّ إلى من كان قريبا مني ونحن نمشي في الجنازة. وقلت له محاولا التّأثير فيه:» هذا أوّل أصدقائي…» فالتفتّ إليّ قائلا بأوجاع الحساسيّة وبقبح رائحة القهوة المحروقة والذكريات المبهمة الميّتة وبجحود المرآة المقعرة التي لا تستنكف من سرقة صوري :» يرحمك الله. «
لم يكن يعنيني من المتوفّى… وواصلت أسير. أو تهيّأ إليّ أنني أسير في جنازة.
اقترب مني الذي كان يسير ورائي. ثمّ همس لي :» هذا أوّل أصدقائك…» ثم عاد ليقول لي بعد برهة :» يرحمه الله…».
كان الطريق طويلا وبلا نهاية وضيقا حتى غدا كالخطّ المرسوم على ورق متموّج.. كان يشبه تلك السبل الضيّقة التي تظهر في الكوابيس. وربما كان يشبه الطريق الذي لا ينتهي وهو يخترق سجف الأحلام. كان الطريق ملتصقا بالأرض لا يطوى إلاّ بشق الأنفس. وكانت قدماي تتشبثان بالأرض ولا تتحرّكان إلاّ بصعوبة شديدة. والحيرة كانت تضعني حينا في النعش الذي يسير به القوم أمامي. فأراه تحتي. وطورا أراني أجاهد في اللحاق بالمتوفى وأنا أتطاول على الطّريق وأتحدّى العطالة.
عندما بلغت من الحيرة ذروتها ومن اليقين قمّته، شعرت أنّنا مرحومان… وعندما لمعت في ذهني المجروح بالكابوس تلك الحقيقة وأزهر فيه اليقين، سمعت كثيرا من المشيعين الذين دخلوا قرى النّمل يقولون :» رحمهما الله… كان صديقين حميمين.»


الكاتب : توفيق بن حنيش

  

بتاريخ : 23/09/2021