هوامش حول ديوان «الاستيقاظ في المدن البعيدة» لجواد أوحمو

ينحت الشاعر خرائطية ترحيلاته العديدة، خطوط متاهته. يلج المتاهة مسلحا بخيط أريان، لكنه لا يعود من جوانية المتاهة، يفقد خيط أريان ويلفي نفسه في مواجهة المينوتور. يندغم الشاعر عميقا في القول البرزخي الذي كتبه هولدرلين بدمه: (حيثما يتعاظم الخطر تلوح علامات النجاة). الشاعر الأساس الذي ينخرط في الكتابة الشعرية كإلزام وجودي لا يعود أبدا من المتاهة، لا يخرج من خرائطيتها، ينام في أوطاط الحاج ويستيقظ في تازناخت، يمارس الكتابة الشعرية [كاستيقاظ في المدن البعيدة]. هكذا عنون شاعر ما أراهن عليه منذ سنوات، وهو جواد اوحمو ديوانه الأخير. [أنا خائف منك أيتها الكلمات / خائف من رؤاك / أحاول أن أقتفي أثرا للمجاز / ولكنني صدفة أكتوي / بنبوءة هذا الكتاب] ص.5. يكتب الشاعر في القصيدة الأولى. لا نكتب الكتاب، بل نستسلم لندائه الجواني النبوئي، نكتبه بنار السواد على نار البياض. اسألوا بورخيص وألفه، هو الذي ظل من داخل عماه يقتفي أثر الكتاب ولم يقترب حتى فترات الجوار العميق سوى من بضع شذرات برزخية. اسألوا دانتي أليغييري الذي حاول كتابة جحيمه فأحرقه جحيم الكتاب، وكانت نساء مدينة فلورنسا حين يرينه سائرا في الأزقة بلون بشرته الداكن يشرن إليه قائلات: (ها هو الشخص العائد من الجحيم). أمي الراحلة كانت تقول لي منذ فترة المراهقة وهي ترى الكتب تتكدس في الغرفة: (هذه الكتب ستقودك إلى أرواس)، وكانت الكتب بالنسبة لي المحنة والمنحة، الخطر والنجاة. نام جواد اوحمو في أزرو سنينا طوالا واستيقظ فجأة في أفورار، وسط جغرافيا الفيضانات السفلى كما سماها الراحل عبد الله راجع، نزيل الفقيه بن صالح لتسع سنوات. نحن لا نسير نحو جغرافيا ما. يسكن الشاعر ألما كما روني شاعر [j›habite une douleur] ويقول: [وأضمد هذا الألم / بسماء أراها /هناك / فتشعل في خاطري / كل هذا العدم] ص.6. ما الشعر إلا إنصات ألوفي أمومي لنداءات الرحيل، لأناشيد الصمت. نتذكر قول بليز باسكال: [صمت هذه الفضاءات اللانهائية يرعبني]. ما الشعر عدا انبناء للمجهول، لقصائد مرتحلة. الشعراء المقيمون يفتعلون كتابة الشعر، يمارسونه كترف لغوي مجازي، أما الشعراء الرحالون فينتمون لجذامير هوائية مثل والت ويتمان، أو جاك كيرواك، اسألوا صاحب ديوان [ميكسيكو بلوز]. [أدرب صمتي /على العيش وحده / عند التخوم] ص.7. ينعلن هذا مثل Walking into the forest ألبوم فرقة الروك the pilgrim أو مثل كليب فان موريسون ..philosopher›s stone [كأنني أسير إلى بلد من هواء/ (…) هذا طريق الضفاف / ولكنني لا أصل].ص.9. الإنصات لهسيس الطرق، لبلاغة الفضاءات الفارغة، لثرثرة العدم على هامش الأيام، لا يكون بدون الإنصات لصموتات المدن، لمراوحتها في المكان. المدينة في العمق، كما قال الفيلسوف لوسيان لوفيفر، ليست فضاء ماديا مجردا بل هي تكثيف لعلاقات اجتماعية. منذ سنوات هاتفني الصديق الراحل الحسين أسكوري مندهشا منخطفا ليقول لي بأنه عبر أزقة دمنات ذلك الصباح وتهيأ له بأنه يعبر مدينة روما، أي يسير في زمن آخر. [أجلس في الجوار/ في الشارع المقهور من مدينتي، أراقب الأسوار(…) والساحة الخرساء جانبي تغط في نعاسها القديم / منذ ألف عام (..) والنادل الأعمى يطوف هادئا، / يقلب الصحون والكؤوس، والأحلام / يقلب المرامد المنخورة العظام] ص. 12-13. المدينة ماتت. المدينة موت، خرائب يجوس خللها أحياء – أموات، زومبي. لا يدري الشاعر هل هو جالس في رصيف مقهى أم في الجوار حيث تنتصب شواهد مقبرة. [أطل في الفنجان / أرى يدا تمد لي حبالها / تمد لي نجاتها / لكنني أخطئ في ثانية كل المسالك العظيمة التي / أهدتني الأيام] ص. 15. لولا إرث الخسارات، لولا تواريخ الخطايا ما كان لمتن شعري أن يكون / أن ينكتب. كان لزاما أن يلج هولدرلين ليل الجنون ليكتب قصائده العظيمة. نكتب في دفتر الخسران حتى نحرس النسيان. قصائد الديوان تبدو مسكونة بأسئلة وجودية فادحة حول البؤس والحرمان، والضياع في صحارى المدن، مسكونة بأركيولوجيا الحيوات المشوهة، الهامشية المقصية. إنها قصائد مسكونة أيضا بهم سردي متألق، كأن الشاعر يكتب نوعا ما القصيدة السردية تلك التي كتبها آخرون مثل الماغوط، أنسي الحاج يوسف الخال، وديع سعادة وغيرهم. علما أن القصيدة المغربية الحديثة غالبا ما يتوزعها تياران: غنائية مفرطة استعارت إنشادها من محمود درويش وشكلانية مفرطة استعارت أدواتها من أدونيس. ينبغي أن لا ننسى في سياق الحديث عن هذه القصيدة السردية الإسهام الباذخ لشاعر يرنو الكثيرون إلى نسيانه عن قصد، هو سركون بولص. يبدو كما لو أن جواد وحمو ينحو منحى ابتكار سرديات شعرية تؤول أولا إلى ذاته، وثانيا الى وضعه الاعتباري كملاحظ لما يعتمل في جوانية المجتمع. هكذا تتماهى النظرة الوجودية التأملية مع النظرة الملاحظة لتفاصيل الحياة اليومية. [الشخوص يعودون إلى أماكنهم على الركح. / يلوكون حوارا صامتا على مرأى من أسماعنا / ويصمتون. / يتعاقب على الركح / سارقو أحلام، سعاة بريد، كهربائيون، بائعات هوي، / مجانين، حكماء، حدادون نجارون، قطاع طرق، / سماسرة، متسولون وآخرون … / تضيق العبارة وينطق المفتاح / يلفظ أبوابا محكمة الغموض.] ص.25. إنها كائنات المسرح الجماعي، شعب الركح الواقعي الشعري، والسرديات لا تتخلق بدونه. التجريد الشعري التأملي لا يمكن أن يكون بدون أطياف التفاصيل اليومية، الكائنات التي اختبرت حرفة الوجود، مهنة العيش كما سماه الشاعر الإيطالي المسلوخ حيا شيزاري بافيزي الذي انتحر في غرفة فندق بمجرد الانتهاء من كتابة مذكراته. الكهربائيون من ضمن هؤلاء الذي يذكرهم اوحمو الشاعر الخبير في الكهرباءين الشعرية والواقعية، المقيم على مرمى حجر من سد بين الويدان في تلك الأعالي الناتئة كحد سكين. جواد وحمو شاعر يقيم في شساعة الوجود، ينصت عميقا لهسيس الزلزال، يطوي المسافات يوميا كرحال. أسألوا عداد الكيلومترات في سيارته، التي تسمع الكائنات في الكواكب الأخرى زعيق منبهها. لعل أقوى اللحظات الشعرية في الديوان هي تلك النواة، البؤرة الناظمة التي فيها شاهدة على قبر أمه عبارة عن قصيدة طويلة تمتد من الصفحة 31 إلى الصفحة 41. الأم مهمة وجودية وإبداعية خطيرة جدا قد تقضي العمر بأكمله في محاولات لإنجازها، لفهم طريقة اشتغالها، ألغازها، تمظهراتها وحين تموت نشعر مباشرة بأننا قد صرنا يتامى بالفعل. حين تموت الأم تصير مطلقة الحضور. الأم لا تموت بل تختفي فقط. اسألوا الروائي المثير للجدل سيلين الذي تبنى الاسم الشخصي لأمه كاسم أدبي، اسألوا (أحن إلى خبز أمي) لدرويش، ألبيركامو الذي لولا الجملة الاستهلالية الغامضة عن وفاة أمه لما أبدع رائعته (الغريب). أسألوا كلمات أغنية Mother للبينك فلويد وغيرها. [تراك إذن تشرقين/ أم أن نور بهائك يملأ كل مكان/ ويحجب كل السنين/ ويعلو على كل شيء/ ويزداد طولا إلى أن أراك/ بكل الجهات] ص.31. تضيق العبارة تتسع الرؤية. مملكة الأمهات واقعية، روحية ولا نهائية. اسألوا لاعبي المنتخب الوطني الذين كانوا يحتفلون عند نهاية كل مباراة في مونديال قطر بأمهاتهم. أروع الحضارات في العمق هي التي كانت أميسية لا أبيسية. [أراوغ نفسي/ أبرر هذا الغياب/ بأنك حتما خرجت لكي تقتني أي شيء/ وأنك رواغت في الوقت/ طيلة هذا الشتاء] ص.37. لا أحد بإمكانه القفز فوق بطن أمه. لا أحد بإمكانه مراوغة الغياب. يستيقظ الشاعر قبل أن يستيقظ العالم. يستيقظ في البرزخ بين الحياة والموت، أوليس في (إلياذة) هوميروس قبل الاضطلاع بالنزول الى مملكة هاديس مملكة الموت، حتى يرى أمه. يقظة الشاعر يقظات. موقفه/ مقامه، مواقف/ مقاماته. فقدان الأم، فقدان لبوصلة الوجود، للكلمات و [حين تفقد بيتك/ تفقد ذاكرة الكلمات لديك…] ص.43. بيتك طريقك، بيتك قبرك، قال النفري في [المواقف…]. ضاع الكلام. صارت الكلمات غريبة عن الأشياء، تماما كما ضاع بيت الطفولة، وضاع الطريق إليه. لا شعر أساس وعميق بدون لوعة فقدان البيت، مسقط الرأس، فقدان الأم التي منحت الاسم الشخصي. الفقدان وجود بلا ذاكرة، في غيابه يبرعم، يورق، يخضل جرح الاسم الشخصي. أسألوا الريح، أسألوا الغبار كما عنون روائي أمريكي باذخ هو جون فانتي روايته التمائمية. Ask the dust. آه! يا لهذا البياض/ الفقدان الباذخ: [لكم تشبه الريح أحلامنا] ص.47. تنعلن القصائد داخل الديوان كزخات ريح سحرية تجرف كل شيء، الأجساد الأرواح، الرغبات، التواريخ السرية، الجراح المنسية، الحيوات التي عشناها، الحيوات التي لم نعشها. إقامة الشاعر في أفورار بجوار أعالي الأطلس المتوسط، جزء لا يتجزأ من أركيلوجيا الريح هذه. ليس هناك من حقيقة للوجود، حقيقته الوحيدة هي الريح، كما الصخب هو حقيقة البحر الوحيدة، والصمت حقيقة الغابات. هيدغر كان دائم البحث عن مسالك فكره داخل المسالك الغابوية. من ضمن آليات الشعر السردي التي يوظفها الشاعر الحوار كما في قصيدة (الغريبان). اللافت للنظر أن التجربة الوجودية المسكونة بالغياب، الفقدان، الموت، تلك التي يمكن تسميتها الرؤية التراجيدية للعالم ختمها الشاعر بقصيدة عنوانها (ضياع) ص.53. هكذا بدون تعريف. الضياع في العمق لا يعرف. المقاطع الصوتية في الكلمة نفسها تدل على زخمها الدلالي. الضياع وقود الأسئلة. [وتضيق بي كل الخطى/ وتضيق بي كل المدن/ هل يا سادتي حقا أرى؟ / أم أن ما يسري إلى عيني/ محض مشاهد من صورة/ تركت مداها عائما في الذاكرة؟ / فظللت أنبش في مخيلة الصدى/ وأرمم الصدع القديم /من الدليل. / ما أبأس الصدع القديم] ص.53. القصيدة كما الوجود صدع/ شرخ لا يكاد يرى في فنجان خزف قديم. النبش في تربة التيه كالنبش في تربة القبور. لا ندري أي هيكل عظمي سينبجس من ثناياها. تتلبس القصيدة النداء الفاجع، تصير مثل كاساندرا في الأسطورة الإغريقية التي تقول الحقيقة دون أن يصدقها أحد: [وأظل أصرخ في المدى/ وأقص أجنحة الغياب/ لعلني أبقي على وجع / يكون دليلي المحسوس فيما يرتقي مني إلي] ص.54… يكفي الوقوف عند المعجم الشعري لهذه القصيدة/ الخاتمة لنرى كيف يبدع الشاعر ضياعه مبنى ومعنى [تضيق، يمتد، أظل/ أقص/ نختفي/أتحسس الوجع/ يرتق/… إلخ]. إنها صيرورة الشعر شيئا فاقد المعنى.. إنها صيرورة الذات الشاعرة معنى في دلالته. ثم إن هذه الرؤية نفسها تظل مسيجة بألغاز الأسئلة. القصيدة لا تمنحنا الأجوبة. إذا كانت قصائد الأسئلة مشوبة بالندرة فإن الكثرة هي ما يميز قصائد الأجوبة. الجواب قبر القصيدة: [هل يا سادتي حقا أرى؟ / أم أن ما يسري إلى عيني محض مقاطع/ من عزلة نبتت هنا؟ / فنسيت أن أنسى/ بأني جرح أغنيتي/ وأولد صورة أخرى] ص.57، لعلها صورة الشاعر كرحال ما يني وسط خرائطية الفقدان يبحث عن مسقط الرأس، عن heimat… لا يسعنا عند نهاية هذه الهوامش إلا أن نردد مع جون- لي هوكر مطرب البلوز .Chillout …

ملاحظة:

كتبت هذه الهوامش حول ديوان “الاستيقاظ في المدن البعيدة” للشاعر جواد اوحمو الصادر في طبعته الأولى سنة 2021 عن مؤسسة مقاربات للنشر، وقد أشرنا داخل المقال لأرقام الصفحات التي تتضمن الاستشهادات الشعرية المأخوذة منه.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 22/12/2023