هوية مرة بالرباط

 

دقت الساعة الثالثة بعد الزوال، وجدت نفسي، كالعادة كلما زرت مدينة الرباط، أمام مكتبة كبرى في الشارع الرئيس الواسع، الممتد زخرفة واخضرارا، والمزين بنافورة وسطية زاهية. إنه الشارع المعبر عن مقومات التحضر اللائق بعاصمة مملكة تاريخية وبقداسة حداثة المؤسسات المحيطة به. ولجت بهو هذه المعلمة التي تنبعث من كتبها المصففة والمتراصة بعناية بالغة عناوين كلمات تنفذ عبر حواسي الخمس إلى جوارحي، محدثة رجات ناعمة وعميقة. أمام كل رف ينتصب جسدي بتفاعلات داخلية كيماوية في الأصل ومشاعرية في النتائج، يتعالى من خلالها في الغالب منحى الحب والأمل والخير والجمال والإبداع والمروءة ولذة العيش الرغيد وأنوار التفكير والشجاعة هازما الشر والمعاناة المادية والنفسية والدناءة والدونية والتقليد المميت، والعقد النفسية القاهرة.
وأنا واقف أمام رف الإبداع الأدبي والفني، منغمس بتركيز شديد في تصفح كتاب برمجت اقتناءه، اقتحم فضاء تفكيري ظل دافئ. انعكس بريقه على واجهة رخام أصيل مصقول بفعل نور مصباح بلوري باشق، غمر وجودي الشغوف للمعرفة في هذا الفضاء الثقافي برائحة عطر ثمين. اشرأبت مكسرا تأملاتي، لتبحر عيني في جمال أنوثي خلاب بجسم منحوت يحمل طاقة إقبال عارمة على الحياة. بمقلتين مشرقتين وضاءتين، وهي تصافحني بلطف وخفة وعلامات الاطمئنان بادية على محياها الذي تتنطع منه بتوازن آني تعبيرات الفرح والقلق.
أذهلني هذا الإقبال المفاجئ بشفتين وخدين يغزوهما سؤال محير، سرعان ما سيطر على مخارج حروفها العذبة بعد إلقاء التحية. كان وراءها بخطوات قليلة شاب من جيلها، يحملق فيها والحرج باد عليه. وضع يديه على جبينه، محركا لمسات احتكاك أصابعه يمينا ويسارا، وتابع خطواتها الأخيرة في اتجاهي إلى أن امتثلت واقفة أمامي. بادلتها التحية، وطلبت من مرافقها الاقتراب تجنبا لسوء الفهم. اعتذر مني مبتسما ومعبرا عن تكليفها بالنيابة عنه.
همست لي أنها تتابع كتاباتي، وأثار انتباهها عدد من مقالاتي في شأن الهوية المغربية والحالة المدنية. أسرت لي أن الماثل وراءها خطيبها، وهما الاثنان تقنيان ومستخدمان في شركة كبرى بالدار البيضاء. استرسلت في الكلام، والحسرة تتقاذف من تعبيرات محياها وحواسها، هامسة أن رجل مستقبلها مجهول الأب. فرغم وسامته وتكوينه وثقافته ومنصبه التدبيري ودخله المرتفع وحلله المختارة بعناية من الماركات العالمية، يعبر دائما عن دونية هوجاء، تحولت لديه إلى إعاقة نفسية تفرمل دوما ارتقاء طاقة سعادتنا الكامنة. إنه يكرر حديثه عن لوم أمه ونهرها وزجرها ومضايقتها المتكررة بسؤال نسبه، محملا إياها مسؤولية هويته الناقصة المرة. كلما افتكر اختيار اسم أب من أسماء العبودية، واقتصار المشرع على هذا الحد، كلما عبر عن امتعاض مزلزل لكيانه ووجوده، وكلما فقد صوابه موجها غضبه الحارق لأمه، مانعا إياها من الخروج من المنزل إلى العمل كما تعودت على ذلك طوال سنوات عجاف من أجل تربيته وتكوينه.
تأثرت كثيرا لواقع هذا الشاب، وطلبت منه الاقتراب مجددا. أحس بدفء عاطفي واهتمام بالغ بشخصه كشاب طموح فرض نفسه تعليميا ومهنيا. لقد حقق تحت رعاية ودعم أم حنون ما لم يحققه ملايين أطفال فراش الزوجية الشرعي. ابتسم، واكتنف محياه نور محا الحزن والأسى عن ملامحه، والتحق بنا. وضعته بتعمد أمام مقايضة نافعة ومربحة. طلبت منه أن يقبل رجلي ويدي أمه الغراء صباحا ومساء، وأن يثق فيها، ويعترف لها بقدراتها وأفضالها عليه، ويمنحها حريتها الطبيعية، ووعدته بإعداد اقتراح تشريعي في هذه النازلة الشائكة وتوجيهه لوزير العدل ورئيس البرلمان عبر وسائل الإعلام.
تلقيت في اليوم الموالي مكالمة هاتفية من خطيبته، شاكرة إياي على التحول الجذري الذي طرأ على حياتهما التي غمرتها السعادة والمحبة بعد اللقاء المعلوم. أخذت القلم مباشرة بعد حديث دام لدقائق مع وردة الفأل الجريئة، وافيا بوعدي، وخاتما هذا المقال مناشدا وزير العدل بتقديم تعديل للمادة 16 من قانون الحالة المدنية 99-37. إن تسجيل البيان الهامشي في رسم ولادة مولود من أبوين مجهولين أو مولود من أب مجهول ومعروف الأم كافية لتمييز وضعيته الهوياتية. إن تعديل المادة المعنية بسن إضافة اسم الجد من أسماء العبودية في خانتي الأب والأم لن يلحق أي ضرر أو أذى لا بالغير ولا بالأمن العام. في نفس الآن، تمتيع المعنيين بهذه الوضعية ببطاقة تعريف بيوميترية كاملة البيانات الهوياتية، لن يعبر إلا عن وطن حاضن لكل أبنائه ولا يميز بينهم إلا بالكفاءة واحترام مبدأي الاستحقاق والمساواة.


الكاتب : الحسين بوخرطة

  

بتاريخ : 02/06/2021