هيّا بنا إلى… السينما

كانت السينما كل شيء في حياتنا الباكرة، أقصد طفولتنا الثانية، وصبانا الأول. وكان ( الشّْريفْ) مرمى شغبنا ومشاكستنا، وَوَسْمِنا إياه بشتى الألقاب والنعوت إلى حد يوجعه ويؤذيه، فينتبذ ركنا ويبكي بعد أن يشبعنا سبّاً وقذفا بالحجارة، وبكل ما تطولُه يداه. علاقته بالسينما علاقة يعجز عن وصفها القلم واللسان. كانت علاقةً أشبه ما تكون بعلاقة الرضيع بأمه بل أكثر.
ولم يكن الرجل رحمه الله الذي صاحبنا منذ طفولتنا الغضة إلى مرحلة الشباب بَلْهَ النضج، غير الأعزب الأبدي الذي اقتحم يوما ديارنا، ديار جرادة، عاملا ممتهنا لكل الصنائع والحرف والأشغال بآبار الفحم الحجري، وبحفر الأرض، وشق المجاري، وزرع الخضر والفواكه في الأحواض، ومد القواديس والمواسير، وتقطيع الخشب إلى أجزاء صغيرة مقدودة بحسب مقاس مدافيء المنازل الحديدية التي كانت وجودا ماسا وحيويا في جرادة الباردة المقرورة. وفي أوقات الاستراحة، كان يملأ الحارات صخبا وحياةً وهو يردد المواويل، ويترنم بالأغاني الهندية رافعا صوته إلى عَنان السماء، ليصل إلى جل الأزقة والمقاهي المتقاربة المتحاذية. ثم كان براحا لا يُبارَى في التبريح والتشهير، وحكّاءً بارعا في نسج الحكايا المبتدعة والمتخيلة، وكذّابا يبهر الجمع والمجالس بأكاذيبه الجديدة الطرية التي يدّعي أنها وصلته للتو من « أحدهم «، حول السياسة والسياسيين في البلاد وخارج البلاد.
لم ننبذه ونبعده عن جلساتنا وأسمارنا ـ وكان ملحها بكل تأكيد ـ عندما اكتشفنا « وشاياته « ببعضنا لدى البوليس؛ إذ كان، وهو الملقاط المغناطيسي المسنون، يلتقط ما كنا نتداوله ونتحادث بشأنه في خصوص الإزماعات العمالية على الإضراب، ومخطط الإضراب التلاميذي في الثانوية، ويبلغ عنا مُتَبّلاً وشايتَهُ بشطحاته واختلاقه، ثم يحذرنا من مداهمة بوليسية ليلية تلوح في الأفق.
وكان يقسم بأغلظ الإيمان أنه مناضل، ومن طينة وأرومة الشرفاء الأتقياء، وأن أباه ( ولم يكن أحدٌ من آبائنا وهم كهولٌ، يعرفون إنْ كان له أب أو أم ؟ )، قتل تحت سنابك الغزاة البلجيك والفرنسيس عند بداية اكتشافهم الفحم الحجري مقبورا مطمورا بأطنان لا عد لها، وجبال لا حساب لها في « فدّانْ الجمل «، وهو الاسم الذي اشتهرت به مدينة جرادة قبل أن تلبس الاسم الأخير. أما سبب مقتله، بحسب رواية « الشريف « فلأنه رفض وجودهم وهم كفار يرطنون بلغة جهنم، لغة الشيطان، ودخلوا محتلين أرضا عذراء كان سكانها يتنعمون بأطايبها، ومائها ومرعاها، ويتنشقون هواءها الشافي المصفى من خلل أشجارها؛ وكانت غابة كثة كثيفة ومترامية: أشجار البلوط والعرعر، وساسْنو، والسدر، والسرو، ونبات الدوم، والحلفاء، والشيح والزعتر، والجرجير والهندباء، وغيرها.
وككل أحد ـ في يوم الأحد ـ يتهيأ « الشريف». يرتدي عباءة فضفاضة بيضاء تسر الناظرين، أو لباسا أزرق جديرا بعامل منجمي عتيد. يتهيأ لملاقاة أفواج تحج زرافات ووحدانا إلى السينما التي كانت محجنا وقبلتنا وملاذنا نهاية الأسبوع. فقبل بداية إطلاق الفيلم بساعات، كان فريد الأطرش ، أساسا، يصدح عاليا، عبر أبواق رُكِّبَتْ في جنبات المبنى السينمائي، بأغاني خلدت، حفظناها ورددناها عن ظهر غيب، ولا نزال: ( زينةْ .. والله زينة )، يصدح بها برفقة الفنانة والممثلة شادية؛ و( بساط الريح يا بو الجناحين )، مع الفنانة والراقصة سامية جمال. وهي الأغنية التي أوهمنا الشريف، وصدقناه في باكورة طفولتنا وخريفها، أن فريداً طار فعلا، وحلق في سماوات العُرْبان، وأنه رآه بأم عينيه يحلق ذات ليلة ليلاء غابت نجومها، وأفل قمرها، في سماء جرادة، و» حاسي بلال»، عابرا عبور ساحرة فوق عصا مدببة تنتهي بأهذاب ذهبية من نسيج الجن المؤمن، أو الملائك المقربين. وكان رآه ما بين الثانية بعد منتصف الليل والرابعة صباحا، محييا بيديه، وناثرا رذاذا ملونا كثيرا سرعان ما تحول إلى فراشات بهية ندية حطت على كتف « الشريف»، ثم طارت وتلاشت كأنها لم تكن. وأذكر أننا ، يومئذ، صدقناه لأن الفن يطير، والفنانين هم أصحاب « كرامات « ومكرمات، وأجنحة بإمكانهم فعل ذلك إذا تمكن الفن من أفئدتهم ووجداناتهم، وسكن قلوبهم ومسامهم، ودماءهم؛ وفريد الأطرش واحد منهم. فإذا كان الأولياءُ أولياءَ، كما علمنا « فقه» الحلقة، والكتب الصفراء الرخيصة، يطيرون، ويعاشرون الضواري، بل ويستحمرونها ثم يركبونها، وقد حرثوا ما حرثوا وهم على ظهورها، وحصدوا ما حصدوا وهم يقودونها من أعناقها، فَلِمَ لا يقدر الفنانون فعل ذلك وهم أولياء الله أيضا؟ أليس الفن طائرا من طيور الجنة، والفنان ورْقاءَ علوية تحط على الأرض لكنها تسكن الأعالي؟.
كذبة الشريف هذه، وغيرها من أكاذيب معلبة ذات أشرطة ملونة وبراقة، كانت تُبْهِجنا وتستنفر حواسنا، كانت ملح أيامنا: نهاراتنا وليالينا، نستعيدها، وهو بعيد، ونذكره بها ، وهو معنا، فينتشي وينتفخ كديك رومي، إذْ يسمعنا نحيل عليه، ونتكيء على مروياته، ونستحثه على أن يروي لنا حكاية أخرى، ونحن نعلم بأنها كاذبة، ومغرقة في هلوساته وتمثلاته، وأوهامه التي يصدقها والمتأتية من قلة نوم، وكثرة جوع، ومعاناة وحدة وبرد. دائم المشي والحركة، فلم نكن نراه إلا ماشيا، محدودبا، ساخطا، ضاحكا، مهتزا، معتزا، يحمل البندير لاعبا لاهيا، كما يحمل نعش الموتى باكيا نادبا، متأسيا على فراق عامل صديق ورحيم.
كنا نصدقه في ما يقول ـ مرتابين وغير مرتابين ـ منقادين مُسَرْنَمين وحالمين. وماذا يملك من كان في مثل حالنا سوى التصديق والتحليق؛ ففي التصديق اقتياتٌ وارتخاءٌ، ورخاء نفسي، وهروب من واقعنا المشطوب، واقعنا الأسود العاقر.
أما الأفلام التي تأخذ بمجامع قلوبنا وعقولنا، فكانت أفلام « الويسْترنْ «، وبعدها أفلام « الكراطي «، ثم أفلام العشق والغرام والهيام العربية والهندية. وفي زحمتنا وتزاحمنا على الظفر ببطاقة الدخول، كان ظهر الشّْريفْ مطيةً لقصار القامة منا، لقاءَ عشرين سنتيماً، حتى نتمكن من حجز مقعد لنا وإلا صرنا أضيعَ من الأيتام في مأدبة اللئام، إذا عولنا على أجسادنا الهزيلة، وقوانا الخائرة، وبطوننا الضامرة التي جَوَّعْناها لِنُبْقِيَ على السنتيمات التي جمعناها طيلة الأسبوع، وحَرَصْنا على أن لا تذهب ولو إلى الجبن والموز و» الكافيارْ «.
« بَلْيَةُ « السينما هذه، والهوس بها، تغلغلا في وجداني، وسكنا روحي وبدني منذ تلك الأيام. فقد ظللت عاشقا متيما بالأفلام في مرحلة الطلب والتحصيل بثانوية عبد المومن بوجدةَ حيث أمرق ليلا، وأنا الداخلي، بعد العشاء، وأجتاز السياج الشوكي أو الإسمنتي، كالقط الخرافي ـ قاصدا، والخوف يتملكني من مباغتة حارس الداخلية ( وكم باغتني فأشبعني وعيدا وتهديدا بطردي )، سينما ( باريس ). وكانت الأفلام التي أختار سياسية في الغالب. فالفترة إياها كانت فترة الاشتعال والنضال، وسارتر وماركس، وماوْ، وتروتسكي، وكامو، وهربرتْ ماركيوزْ، وكولنْ ولسنْ، وحركات التحرر الإفريقية، والأمريكو ـ لاتينية، والطفرات العربية.
واستمر عشقي للسينما حارقا وجارفا إلى فترة الطلب الجامعي بفاس، وإلى يوم الناس هذا.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 13/11/2020