«وادي الأرواح» لنيكولا رينكون جيلّ المتوّج بنجمة مرّاكش الذهبية :

رحلة البحث عن الخلاص في قلب الظّلام

 

أسدل الستار مساء أمس على دورة رائعة واستثنائية من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، بانضمام «وادي الأرواح» (كولومبيا، البرازيل، فرنسا، بلجيكا)، فيلم الكولومبي نيكولا رينكون جيلّ التّخييلي الأوّل (بعد ثلاثة وثائقيات عن الموروث الثقافي والشعبي الكولومبي) إلى لائحة الأفلام المتوّجة بنجمة مهرجان مرّاكش الذهبية محقّقاً إجماع لجنة التّحكيم وإشادة حارّة من رئيستها تيلدا سوينتون.
الفيلم قويّ جداً رغم طابع الهدوء الذي يطفو على سطحه وارتكازه على مشاهد ثابتة وطويلة، ولعلّ مرجع ذلك هو مزجه الخلّاق بين السياسي والإنساني من خلال رحلة في ظلمات كولومبيا المكلومة بالمذابح في عهد تمرّد «الإيوسي» (قوات الدفاع الذاتي المتّحدة) المتسبّبة بمقتل 150 ألف كولومبي بين 1997 و2006.
نكتشف هذا بعيون خوسي، شيخ يمتهن الصّيد يُكلم ذات صباح باختفاء ابنيه الشابين عند عودته من ليلة صيد مضطربة. يفصح الفيلم منذ البداية على نغمة الإيمان التي تعبر الحكي حين تبارك الابنة رحلة والدها بتراتيل وطقوس حتّى تشجعه على العودة بأخويها، من دون أن تحدّد إن كانت تقصد أن يرجع بهم أحياء أم أموات، مما يؤشّر على فكرة سوف تلعب دور محرّك الفيلم: في العقائد اللاتينية، يتعلّق الحداد بشكل خاص بطقوس الدّفن مما يجعل من العثور على جثث الموتى مسألة مصيرية تكاد توازي، في أثرها على سكينة أرواح الثّكالى، أثر العثور على المفقود على قيد الحياة أو انبعاثه من جديد. وستكون هذه الجزئية الأخيرة مبعث مشهد ختامي مدمّر حين سيقرّر خوسي في حركة يائسة (ستغدو لفتة إنسانية رائعة وفق تفصيل لن نفصح عنه هنا حتى لا نبطل تأثير المشهد على الراغبين في مشاهدة الفيلم) نبش قبور الموتى بحثاً عن جثّة إبنه الثاني.
يبدي رينكون جيل براعة في استغلال خارج الحقل لإذكاء التوتّر وإبداء سادية المتمرّدين وعبثية قوانينهم التي تصل حدّ منع الأهالي من البحث عن جثت أقاربهم أو انتشالها من النّهر. المشاهد البديعة في تأطيرها لجسد خوسي الهزيل مع أجذاع الأشجار الطافية على سطح النّهر، ولهاث جسده الهزيل وهو يغطس بحثاً عن الجثت وتماهيه مع إيقاع الطبيعة والأدغال شكّل لازمة قويّة تقرن «وادي الأرواح» بفيلم رائع آخر شارك في المسابقة الرّسمية هو «طلامس» لعلاء الدين سليم (المتوج بجائزة أفضل إخراج) في إشارة قويّة إلى عودة الحاجة إلى الالتحام بالطبيعة فراراً من قساوة العالم الذي نعيش فيه. لا يمكن أيضا أن لا نتذكّر، ونحن نشاهد «وادي الأرواح، أجواء «عناق الأفعى» (2015) تحفة كولومبي موهوب آخر هو سيرو غيرا بنفسها التّأمّلي وجولان بطلها وحضور الطبيعة الطّاغي.
يلفي خوسي جثّة ابنه الأوّل فيحملها معه في القارب ويصر على الاحتفاظ بها بجانبه أثناء إعداد الوجبات وفق رزانة وصفاء روحي يحثّان على تأثيرات صوفية ورواقية واضحة على الفيلم، مما يمنحنا صورة بلاغية معبّرة عن مدى تعايش الموت والحياة في الجحيم الذي صنعته فظاعات المتمرّدين.
مرجع عتبنا الوحيد على لجنة سوينتون هو غياب أرلي دي جيزوس كافاييدو لوبو الذي يجسد شخصية خوسي عن لائحة المتوّجين بالرغم من أنّه قد قدّم أداء كبيرا لشخصية عظيمة ذات أبعاد عميقة وحمّالة لأوجه، نستحضر من خلالها فلسفة سبينوزا في البحث عن دواعي استمرار الحياة رغم الأسى ولوعته، ونصعق بالتناوب بين الكتمان الذي لا يمنع من إبداء مشاعر الحزن الدّفين وانفطار القلب الذي يحبس الدموع في المقل وتنتفخ له الأوداج وتحمرّ له السّحنات حنقاً، والشاعرية المؤثّرة حين يدندن خوسي بأغاني في لحظات التّماهي مع الطبيعة، أو لمّا يشرع في مناجاة القدّيسين المعروفين بكراماتهم في جلب المفقودين، وخصوصاً حين تدفعه فلتات مفاجئة إلى التهور بتصرّفات تبدو للوهلة الأولى وكأنها ستودي بحياته، فتنتهي بإنقاذها مثل حينما ينظر في عيون المتمردين المدجّجين بالأسلحة ويقول بصوت يتردّد كما لو كان آت من عالم آخر: إذا قتلتموني ستلازمكم روحي ليل نهار، ساقلق حياتكم وأحوّلها إلى جحيم… أو لما يهمهم فجأة بأن أحد أبطال سباق الدراجات كان عزيزا على والده، فينجذب انتباه قائد المتمرّدين إليه ويتسبب ذلك في تأجيل تصفيته. قدرة غير عادية لدى خوسي على الإفلات من الموت استطاع الفيلم تكثيفها (دون أن يقولها بشكل صريح بحوار أو غيره) يبدو معها كبطل خارق دون مجد أو كأنّ دعوات ابنته وبركات القدّيسين قد أتت أكلها، أو ربّما أنّ قداسة رحلة بحثه قد انتهت بتحصينه من سلطان الموت.
يصحّ أن ننعت «وادي الأرواح» بفيلم نهر على وزن فيلم طريق، بحكم أن غالبية أحداثه وأهمها تجري في نهر ماغدالينا الهادئ في مظهره ولكنه، مثل الفيلم بالضبط، يغلي بقصص الأرواح المسفوكة على عتبات الجشع والحماقة البشرية. ومثل «أبطال» أفلام الطريق، يلتقي خوسي عينات تجسد موقف مختلف فئات المجتمع الكولومبي من امتحان التمرّد الرهيب : الصيادان اللّذان يرفضان كلما التقاهما خوسي مدّ يد المساعدة خوفاً من التّورّط، والصديق المؤمن الذي ينصح خوسي بنسيان كلّ شيء والعودة إلى منزله حفاظاً على حياته ومستقبل ابنته، فينتهي به الأمر جثة هامدة يكتشفها خوسي على سطح النهر ويجبره المتمردون على تركها، والجندي الهارب الذي يلوذ بخوسي من المتمرّدين فيتشكّل مثلّث جهنمي يدلّ على مدى براعة كاتب السيناريو (المخرج نفسه)، يجمع الضحيّة والجلّاد والباحث عن الخلاص في إطار واحد… يشتكي الجندي من رائحة جثة الإبن فينفجر في وجهه خوسي بأنّ روحه (الجندي) أسوأ ملمّحاً لتلطخ يديه بالجرائم رغم توبته المتأخّرة. ثمّ أولئك الذين يمدّون يد العون على غرار السيدة التي تحفظ سجلا بمواصفات الجثث المدفونة لتضعه تحت تصرّف الأهالي… المشهد الذي يتهجى فيه خوسي باستماتة صفحات السجل بحثاً عن علامات تقربه من جثة ابنه مؤثّر للغاية لأنه يخرجنا بتفاصيل دقيقة (نتفة شيب في الشعر، لون أقراط، علامة وحم في الساق اليسرى…) من القصّة الصغيرة إلى الكبيرة حتى يسع تصوّرنا آلاف من فقدوا حياتهم، وكيف أنهم ليسوا مجرّد أرقام بل آدميون من لحم ودم مثلنا بالضبط.
حتى إسم الابن الذي يستعصي على خوسي إيجاد جثّته «ديونيزيو» يشكل برنامجاً كاملاً من القراءات بغمزته الرائعة إلى ديونيسوس (باخوس) إله الخمر وملهم طقوس الابتهاج والنشوة عند الإغريق. وكأننا في رحلة بحث عن طيف فرحة حياة اختطفتها أيدي الحماقة من الشعب الكولومبي. والأنكى أنّ نهاية الفيلم تقول بكل بلاغة أنّ جمرة الحياة قد انطفأت وأنّ الحلّ الوحيد يكمن في صنعها من جديد بأيدي الكولومبيين أنفسهم رغم قساوة التضحيات التي قد تحملها المحاولة.
في مشهد بديع في منتصف الفيلم، يلقي المتمردون القبض على خوسي ويقودونه إلى زعيمهم المنهمك في متابعة طواف فرنسا بشغف ينفلت بفضله المخرج-كاتب السيناريو من براثن تصوير المتمرّدين على شكل وحوش، باللإضافة إلى مسحة السّخرية السوداء التي تطغى على المشهد حين يختار الزعيم طريقة فريدة في تعذيب خوسي بإجباره على تناول صحون الشربة الواحد تلو الآخر حتى بلوغ التّخمة. لكنّ عماد المشهد هو شدّ وتر الترقب والتّشويق على آخره حول مصير خوسي الذي يغدو، بحكم سريالية منطق المتمردين، مرتبطاً بعودة التيار الكهربائي من عدمها وقدرة الدّراج الكولومبي على كسب السّباق.
يصل الفيلم إلى ذروته في مشهد نبش القبور في الختام، حين يتذكّر خوسي (يركّز المخرج لقطة مقرّبة على وجهه المحمر بالحنق والمخطوط بالعبرات لكن من دون أي مبالغات بكائية في الآداء) يتذكّر أجمل لحظات عيشه مع ابنه «ديونيزيو»، وتفاصيل من طبائعه وحياته اليومية، من قبيل: « كنت تحبّ أكل المانغا بالملح، لكنّك كنت تكثر من الملح …حتى أنّني كنت أقول لك أنّك تأكل الملح بالمانغا وليس المانغا بالملح»، مما يدلّ على أن شيطان إبداع كل ما هو جميل ودال وسينمائي في عمقه يكمن في الاهتمام بالتّفاصيل.


الكاتب : سعيد المزواري

  

بتاريخ : 14/12/2019