وجهُها يملأ الماءَ واليابسة

هذه غابةُ الموتِ.. لكنَّهمْ يعرفون الطريق
منْ هنا يبدؤون ..
تجيء إليهم قُراهمْ
تقول: ادخلوا إنَّ هذي الكروم لكمْ
وهي تعرفِكُمْ
وتحسُّ بكلِّ المخاطرِ
علَّمها الموتُ كلَّ الذي تعرفونْ
فإذا نزلتْ كي تضم الصغارَ إلى صدرها..
بلغوها تحيات آبائكمْ
. . . . . . . .
إنَّ ذاكرة الكرمِ مسكونةٌ بالوجوه التي رحلت
والوجوهِ التي ترحلُ الآنَ صوبَ فلسطين..
جَدُّكَ ماتَ هنا..
وهنا كانَ بيتُ أبيكَ..
وأنتَ الذي كنت أنتَظِرُ
إنَّ رائحةَ الأرضِ ملءُ ثيابِكَ
في صوتِكَ البحرُ..
في مقلتيكَ الدّوالي التي سرقَ الجُندُ فَرحَتَها
في ثيابِكَ اُبهَّةُ الموتِ..
أنتَ الذي كنتُ أنتظرُ
وهي تنتظِرُ..
إنَّ فرحتها أنْ تجيءَ إليها..الصبيَّةُ مزهوةٌ بمجيئكَ
ها أنتَ جِئتَ
تقومُ الصبيَّةُ .. ترقصُ في عُرسِكَ الدمويِّ
ترشُّ دماءَ بكارتِها فوق قمصانها
وتُخَضِّبُ كفيكَ بالنزفِ
تهمسُ.. عادَ إليَ حبيبي
وأنتنَ يا نسوةَ الحزنِ.. اخرُجن من غابةِ الدمعِ
يأتي الأحبَّةُ .. فافتحنَ أبوابَكُنَّ..
فمِن بينَ يافا وقلبي يمرّونَ
جيشُ العدوِ يُعسكِرُ ما بين يافا وقلبي
وخبّيْنَ أثوابَكُنَ الجديدةَ..
إنَّ جنودَ العدو يشمونَ رائحةَ الفرحِ العربيِّ
ولا تتطيَّبنَ..
طيبُ الدماءِ سيغمُرُ حوفاتكنَّ
وقبلَ طلوع الصباحِ لتحملَ كلُّ امرأةْ
ولداً تحتَ محزَمِها.. وتُعلِّمٌهُ صلوات القتالْ
. . . . . . . .
وغداً يَكبرونَ
يرسمونَ على حافةِ الكتُبِ المدرسيةِ أحلامهمْ
مُدُناً وبنادِقَ
خبزاً وشمسًا
وبيوتاً وأسيجَةً وحقولاً
خرائطَ لوَّنَّها الحلمُ الغضُّ بالبرتقالِ
يعرفونَ قُراهمْ
ينامون فيها على صفحات الخرائطِ
يكتشفون البيوت التي حوَّرتها القنابلُ
أبوابَها ونوافِذَها.. موقِدَ النارِ .. بيتَ الحصيدْ
يحملون إليها دفاتِرَهمْ
يقرأونَ عليها عذاباتهم.. يشتكونَ إليها..
لقد هجرتنا طفولتُنا
أدركتنا هنا.. فلنعدْ لطفولتِنا مرَّةً..
ما عرَفنا البكاءَ.. لنبكِ
ولمْ نعرف الفرحَ العائليَّ.. امنحينا دمًا عائليًا.
وشيئًا من الفرحِ العائليِّ
لنكسرَ شيئًا.. لنصرخَ.. ولنتشاجرَ.. نُرضي طقوسَ الطفولةِ
إنَّ المنافي البخيلَةَ..
ما منحتنا سوى الموتِ والغضب الحجريِّ
فَلنَعُدْ لطفولتنا مرَّةً
نسألُ الأمهاتِ الفقيرات خبزاً
ونسألهنَ حليبًا وحلوى
نُطالِبُهُنَّ أن يشترينَ لنا ليلةَ العيدِ ثوبًا
هجرتنا الطفولَةُ
هل يحلمُ الطفلُ بالنارِ تأكلُ أطرافهُ
هل يرى قمراً ميتًا..
بُلبلاً دونَ حنجَرَةٍ
فلنعد لطفولتنا.. مثلما يلعبُ الطفلُ نلعبُ
أوَ يحلمُ الطفلُ نحلمُ
أو نشتري دُميَةً ونحدِّثُها عن قرانا البعيدةِ
أم أنها لا تُحبُّ المخيَّمَ..
هل للدُّمى عائلات ؟
نُعلمها كيف تبحثُ عن أهلها
وفي فرحة الموت نصعدُ في نسغ زيتونةٍ
فإذا أزهرت وصعدنا مع الزهرات المضيئةِ..
كانَ الحضورُ
وطناً ساحراً
وطناً للجميعْ
للأغاني وللشهداءْ
للمراثي وللفقراءِ
وكالفرحِ المتأخِّرِ يأتي خجولاً
في يديه زنابق ماءٍ ووعدُ
يقولُ تعالوا إليَّ..
نُقيمُ على ضفةِ الجرح.. نبني بيوتاً..
نُغيِّرُ طبعَ المياهْ
فهذا زمان فلسطين..
كل الذين يثورون ينتسبون إليها
وكل الذين يموتون أو يولدون.. بهم من شمائلها حالةٌ
وجهها يسكنُ الفرحَ البشريَّ.. كما يسكنُ اللحظةَ البائسةْ
وجهُها يملأُ الماءَ واليابسة


الكاتب : الشاعر العراقي حميد سعيد

  

بتاريخ : 20/10/2023