وضعية اليهود المغاربة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر -14- محنة اليهود مع الثائر بوحلايس: التأريخ والتحقيب

تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..

إذا انطلقنا من مسلمة مفادها أن التحقيب متحول وليس ثابتا؛ بمعنى أن الأحداث التاريخية التي كان اليهود، إما أبطالها أو ضحاياها في سوس، قدمت بنظرة المؤرخ في لحظة حدوثها، وليس كما أراد اليهود أن يتمثلوا أو يظهروا في هذه الأحداث، وهو ما سيجعلنا أمام ثنائية “تحقيب تفضيلي أو تحقيري” (عبد الحميد هنية، حول التحقيب التاريخي، مجلة اسطور، ع 3،يناير،2016، ص224) . وإذا كان التحقيب يختلف باختلاف المجال والموضوع المدروسين فإنه في هذه الدراسة التي تهم موضوع الأقليات الدينية، وبغض النظر عن أحداث التاريخ العام التي اثرت في سوس (مثلا أثر حرب تطوان على أوضاع اليهود في سوس)، يجعلنا نقرأ الأحداث التاريخية كجملة من الوقائع المتعاقبة في زمن طويل ممتد عبر قرن (1860-1960)، مما يحجب عنا رؤية المؤرخ النقدية للزمن. لقد ألزم لغمائد نفسه بالتقسيمات الغربية للتاريخ، وهو ما حجب في حدود معينة تواصل زمن الناشئة اليهودية مع زمن أجدادهم. فحدث حرق اليهود ونهب ديارهم على يد الثائر بوحلايس كما هو متضمن في إحدى فصول الكتاب لا يمكن تناوله وفق التقسيم الكلاسيكي الفرنسي للتاريخ؛ وإنما من خلال تحقيب يُستحضر فيه السياق التاريخي الذي لايفسر بالسياق العام لحدث الفراغ السياسي الذي خلفه موت سيدي محمد بن عبد الله سنة (1790م)، فبالرجوع إلى الصفحات التي خصصها عبد الله لغمائد لتناول محنة اليهود مع الثائر بوحلايس (يهود منطقة سوس،…ص63-68)، يتبين للقارئ أن الفراغ السياسي الذي عرفه المغرب هو من سبب هذه المحنة؛ في حين أن وفاة المولى اسماعيل (1727) أو مولاي الحسن (1894) مثلا لم يتعرض فيها اليهود لمحن التصفية الجسدية باعتبارهم خارجين عن الملة الإسلامية كما حدث بعد وفاة محمد بن عبد الله. فهذه الفاجعة الكبرى التي ماتزال موشومة في الذاكرة اليهودية لا يمكن أن تخضع لمنطق المؤرخ الأوربي الذي يعترف بمحدودية التحقيب الغربي الغير قابل للتعميم. ومعنى ذلك أن التحقيب المعتمد في الدراسة يجعل المعنيين بالأمر، أي اليهود، يفقدون دور»البطولة التاريخية» خلال الفترة المدروسة أي أنهم سيتمثلون كمفعول بهم وليس كفاعلين، لأن المقاربة الإيستوغرافية ستجر الباحث إلى سؤال عريض: كيف كتب تاريخ اليهود السوسيين؟ وهل هذه الكتابة التاريخية تمت بمعزل عما كان يتعرض له المغرب من أزمات داخلية؟ إن تقاطع تاريخ يهود منطقة سوس مع التاريخ العام تستدعي «شحذ أدوات أخرى في مجال التحقيب» لا يمكن أن تتوفر إلا لدى الباحث، ولا يمكن أن تكون إلا من إنجازه بناء على المقاربة التي اعتمدها، والمنهج الذي وظفه، ونوع الوثيقة التي استعملها، وهي مهمة نجح فيها الأستاذ محمد كنبيب عندما أنجز تحقيبا يمزج بين المحلي والشمولي إذ اختار سنة (1859) في النسخة الفرنسية منطلقا لبحثه، وسنة (1912) في النسخة العربية فكلا السنتين لهما دلالة وطنية، أما توقفه عند سنة 1948 فله مايبرره فهي تؤرخ لحدث دولي؛ يتعلق الأمر بإعلان دولة اسرائيل، وما تمخض عنه من هجرات منظمة لليهود نحو أرض فلسطين. فالتحقيب الذي اعتمده الأستاذ محمد كنبيب يستحضر موقع اليهود في المحلي والشمولي والعالمي. ولذلك فلو تم اعتماد تحقيب يراعي خصوصيات اليهود كأقلية إلى جانب أغلبية يتناولها التاريخ العام، أي التحقيب وفق مميزات البنى الاقتصادية والاجتماعية المولدة للحدث، مثلا (حدث حرق يهود إفران من طرف الثائر بوحلاس، أو هجرة اليهود وإفراغ الملاحات، أو انتقال اليهود للدراسة والتدريس في مدارس الرابطة اليهودية، أو استئثار يهود الجنوب بصفة تجار السلطان، أو احتكارهم للتعاملات التجارية مع الأجانب وشرفاء واد نون ودار إيليغ)، لكانت النتائج تركيبية وليس خطية – تراكمية. إن الأمر يتعلق بزمن اليهود أفرادا وجماعات، كصانعين ومفسرين للواقعة التاريخية، فليست البنية الاقتصادية والاجتماعية ما يفسر فعل اليهود ولعل هذه المشكلة سقط فيها رائد الحوليات فرناند بروديل (Fernand Braudel ) في بداية مساره وابتكاره للزمن الطويل الذي كان يفتخر به وهو في كوليج دوفرانس. إن الزمن الطويل أو المدد الطويلة المعتمدة من طرف الباحث اعترضته عوائق كثيرة خاصة وأن الدراسة عمل تراكمي لأهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها اليهود في مجال محدد هو سوس، لهذا فالتيمات المعتمدة في الدراسة من قبيل:( التاجر اليهودي ، الملاح ، البيعة…) يمكن معالجتها وفق أزمنة تهم الأشخاص ومرافقهم العامة وليس الأحداث وأبطالها؛ كزمن التاجر اليهودي وزمن الملاح وزمن البيع. فالدراسة تشير إلى بداية تشكل نوى/أنوية الملاحات بعد تهجير اليهود من الأندلس ، وتؤرخ كذلك إلى بلوغ ذروتها، ووصولا إلى الاندثار بعد إعلان دولة إسرائيل سنة 1948 وانتصار هذه الأخيرة في حرب 1967. ومعلوم أن رائد التاريخ الجديد جاك لوغوف( Jaque Logoof) قد طبق هذا المنهج في دراسته (رجل العصر الوسيط) عندما أرخ لهذا العصر وفق أزمنة خاصة؛ هي زمن التاجر وزمن الكنيسة مبينا كيف انتصر الزمن الأول على الزمن الثاني (مجلة أسطور ، ع3،ص287).

 


الكاتب : الدكتور ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 29/04/2021