وعي الوعي في سينما إدريس المريني

انطباعاتي وليست نقدا، وهي ممنوعة
على القاصرين وأصحاب النوايا السيئة

تقربنا الرؤيا الإبداعية لإدريس المريني في فيلم جبل موسى من توازنات الربط بين اللغة المألوفة واللغة السينمائية المعقدة بطبيعتها، واللغة المألوفة هي مجموع الكلمات التي نكتب بها نصا قصصيا أو روائيا لتصبح خطابا، لكنها تأخذ بعدا آخر في المسرح فيعبر الممثل بالانفعال والإيماء والرقص بخطاب أكثر دلالة: لغة الجسد (رب إشارة أبلغ من كتاب) أما السينما فبمقدورها تصوير الخطاب نفسه، مستعينة بالتوليف والتقطيع وتسريع الزمن والمناظر الخارجية إلخ…وهذا ما ذهب إليه أحد جهابذة الإخراج في العالم العربي صلاح أبو سيف الذي غامر بوعيه المعرفي والسينمائي لإيجاد عينة من الأفلام تصلح للمثقف وغير المثقف مستفيدا من علاقته بالمحيط الذي يعيش فيه (مرجعيات، إشكالات وإسقاطات) ومقتربا من الفهم الصحيح لما يروج داخل المجتمع وإعادة تركيبه في صور مشهدية تقوم على المساءلة و- التواطؤ- أو النفور وليس الاكتفاء بالتلقي الحر الذي ينأى عن التقاسم والتشارك، ولعل هذا في تقديري المتواضع ما سعى إليه مخرج فيلم جبل موسى بانتهاكه الصورة النمطية التبريرية في مستويات متعددة من سينمانا المغربية، والتي لا تجرؤ على تجاوز ما هو قائم وخلخلته على الأقل من خلال الرمز والدلالة وليس التلميح المباشر أو المستعصي الذي ينزلق أو يزكي رداءة الكتابة التقنية المتوافق على تسميتها عالميا بالسيناريو، ولا زلت عند رأيي بأن السيناريو الجيد يصنع سينما مختلفة
عودنا ادريس المريني في فيلمولوجيته على سيناريوهات لا نجانب الصواب إذا وصفناها بالمستفزة وذلك باعتماده مواضيع مسقتطعة من الزمن الحقيقي لحدوثها قريبة من بديهة المواطن وبداهة الموقف إزاءها، وهذا ليس امتيازا في حد ذاته بل هو تمرين احترافي مسؤول يبعدنا عن الرتابة والتعود على استهلاك الوجبات السريعة في حينها، وما تفرد خماسيته بالجرأة الواعية إلا خير دليل على ذلك:
1982 بامو؛ عن رواية بنفس الإسم لأحد صناع المقاومة المغربية(أحمد زياد) وهو اختيار صعب لسينما المقاومة والتي لم تنجز عنها أفلام مقنعة لحد الآن رغم وجود «شراكة» بين المركز السينمائي المغربي و المندوبية السامية لقدماء المقاومة وأعضاء جيش التحرير. «شراكة» على الورق فحسب، ولا أحد ينكر بأنه وعي مبكر بقضايانا الوطنية.
1911 العربي بنمبارك اسطورة كرة القدم؛ اشتغال على الذاكرة التي تربط الجمهور الرياضي الواسع بموهبة الجوهرة السوداء الاستثنائية والتي قال عنه البرازيلي بيلي: لست ملكا لكرة القدم طالما هناك لاعب اسمه العربي بنمبارك.
2015 عايدة؛ لي علاقة شخصية بهذا الفيلم لكونه يذكرني بطفولتي في الملاح القديم بمدينة سلا، وأعتبره من الأفلام (العشرة الجيدة جدا) في تاريخ فننا السابع، خاصة أنه اقتلع مادته الأساسية من إحساس ونوستالجيا عودة اليهود للبلد الأصل.
2017 لحنش، مغامرة محفوفة المخاطر إذ ليس من السهل إضحاك الجمهور في ظل ظروف تراجع النقابات وانهيار الأحزاب وضرب القوة الشرائية للمواطنين
ثم إن هذا التنفيس خفف ما نزل عن شريحة اجتماعية هائلة تبغ الضحك ولو على نفسها (إلى قوى الهم يضحك) وليس الفلسفة لأنها تعمق وتيرة التأمل والتفكير
وتستحضر مؤشرات اليأس والضنك الحاصل في حياة المستضعفين في الأرض.
ومرة أخرى يجد ادريس المريني نفسه أمام ثنائية المتعة من أجل المتعة وهذا ما يضمن الإقبال المنقطع النظير على هكذا طرح وهكذا أفلام، أو إنجاز أفلام ترفيهية جادة مثيرة لأحاسيس الجمال والإمتاع الفني المولد للطاقة الإيجابية.
لا أشك في أن ادريس المريني بعد شريط لحنش، طرح على نفسه سؤالا يؤرق العديد من كتاب السيناريو والمخرجين والسينيفيليين: إلى أي حد يمكن الإبقاء على نهج سينمائي معين ينزل فيه السيناريست والمخرج إلى الجمهور ويجاريانه بدل استقطابه إلى مرتفعات أسمى وأرقى في الرؤية والتحليل؟ (عبر التاريخ كان الملوك والرؤساء يبسطون جناحهم للفنانين حتى لا يختلطوا بعموم المواطنين، والعبرة في ذلك واضحة وضوح الشمس فنهار جميل) ناهيك على أن الأعمال الكوميدية المقدمة في مجملها ضحلة المعالجة وخالية من التحليل؛ التحليل بجميع مقاصده السيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية، ومعلوم أن هذه الافلام تحتاج إلى
ممثلين أبالسة مثل دريد لحام والمستر «بين» أو على الأقل إلى نجم مصنوع كعادل إمام، دون العودة لأبطال الكوميديا التاريخيين: شارلي شابلن، بوستور كيتون و ثلاثي أضواء المسرح، في حين أن السينما المغربية لم تقدم لنا ممثلين من هامات كهاته وإن وجدت فإنها غارقة في الذاتية ويمكن التمثيل ب:
(حسن الفذ، إيكو، وحنان الفاضلي)
أما فيلمه الأخير جبل موسى المنجز عام 2022، والذي عرض مؤخرا بمتحف محمد الخامس للفن الحديث والمعاصر، فهو نقلة نوعية لسينما مغايرة لها جمهور خاص كما أنها انتصار على الوعي الكسول العامل بالرأي القائل: من لا يتقدم يتأخر، واستنادا على هذه الخلفية فالمخرج اشتغل كثيرا على الثنائيات بدءا من جبل موسى المسند بصحيح الثوراة، ولكنه هنا يكتسي Biblique العنوان (البيبلي)
شحنا ما ورائيا بديلا؛ فالجبل يعني العقبات وصعوبة الوصول للقمة، لا نستطيع هكذا بالنوايا الحسنة الصعود إليه، وموسى رمز لاهوتي له علم بالقضايا الإلاهية وممانع للإثم والضلال، وعندما تلتقي الصعوبة بالمناعة فمؤداه التخلي عن الفكر الفقهي المتناسل النافخ في حناجر التبع والمؤيدين (ابن تيمية الذي كفر الطير والحجر والشجر، وابن هريرة والبخاري «زعماء المرويات» حتى شط المسلمون أي طريق يسلكون؟ فانصاعوا دون إحكام للعقل واستسلموا للمنقولات والمسلمات التي لا اجتهاد فيها، ولا شأن لها بالتطورات الحاصلة ميدانيا لمجتمعات تتبنى مفاهيم الحرية والديموقراطية وتستشعر كرامة الآخر عن طريق الجدل والاختبار، ويظهر هذا جليا في الصلات المتشنجة/ التغازلية لحكيم بمروان كقطبي تجاذب وجدا في خندق واحد مكرهين، فأدت علاقتهما لتعايش سلمي
عبر تماثل متأزم، يتستران عليه، لكنه موجود، وإن coexistence pacifique
وضع تحت المجهر فتفاصيل التفاصيل فيه لن تكون بادية للعيان.
في مقاربة جريئة يطرح فيلم جبل موسى مسألة النخب وتحديدا النخبة المثقفة التي تعتري سلوكها نقائص كثيرة لا تلتقي بالضرورة عند سقف واحد، ولكن خيطها الناظم هو اعتقادها بانها شموس منتصف الليل التي لن يطالها الاحتباس
الحراري، وأنها في برجها العاجي محصنة من أصابع الاتهام، وحين ينتقي
إدريس المريني نموذجا لهذه النخبة (حكيم) فإنه يصوره مقعدا للتدليل على أن
نخبنا ليست سوية وأنها تحتاج قبل غيرها لمن يساعدها على الوقوف على رجليها
وحتى عندما تريد أن تواجه واقعها (مشهد حلق اللحية، أو إزالة القناع) فإنما يغير ذلك من سحنتها ومظهرها الخارجي، في حين أن سلوكها المعلن يظل قائما وينهل من أسطورة سيزيف الذي يحمل كلكل (الصخرة) ويريد أن يصعد بها الجبل رغم إدراكه استحالة نجاح المحاولات، ربما إدراكه عالي الجودة لكنه موجب لنفس
التعلة وبالتالي نفس الأخطاء، وهي إحالة ذكية في الفيلم «للثقل» الذي يقع على كاهل النخبة وللا جدوى الجهد الثقافي ما لم يكن مؤثرا وعملانيا، وللتوضيح أكثر أستجلي ما يلي:
حكيم: شخصية محورية وبنية مركزية تحتاج لنقيضها لكي تقوي من وجودها، مرسومة بإتقان وترمز في تقاطعها مع الأحداث والسياق الخفي للفيلم للنخبة المثقفة والتي تعتقد عن وعي أو غيره بأن قراءتها لنيتشه ودوستوفسكي والحلاج كاف لينزلها في مرتبة فوق المراتب؛ تكتب للطبقة الوسطى إن بقيت هناك طبقة وسطى، وتناقش في الصالونات والمهرجانات وفي حالات أخرى تحاول حل تناقضاتها بتعاطي الحشيش أو الإدمان على الشرب، وهذا ليس جديدا: (تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة) في حين أن المطلوب هو المساهمة في الحوارات الاجتماعية وإبداء الرأي بشجاعة في القضايا الكبرى للبلد، تنضاف إلى ذلك عقد نفسية، «والد حكيم الذي سينجب من صديقة ابنه السابقة» مما يجبره على الانطواء ورفض الحديث مع أي كان، والتمادي في جلد الذات (مشهد ضرب الرأس مع الحائط) ومثل هذه الحالات تؤدي للإفراط في الحزن واستغراق الإحباط، فيغدو هذا الأخير عنوانا مشتركا لسلوكات نخبنا التي تحاجج وتنتقد لكنها تظل وفية لعزلتها الاختيارية فلا تكاد تنخرط في النضال المباشر الذي تنتظره منها الفئات الشعبية العريضة.
مروان؛ نقيض النقيض للشخصية الأساسية؛ لوجوده في الفيلم أكثر من دلالة فهو من ربانا وعلمنا وهو من قيل فيه: قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا، هذا النطيس يصبح بالنسبة للأجيال الجديدة مجرد ملقن في أحسن الأحوال، بل يتعرض للمهانة من قبل أبناء الذوات. في الشريط سيطوحون به إلى قرية، أي لمصير مجهول، وأعرف معلمين حتى منتصف التسعينات لم تكن
تصلهم حوالاتهم المالية فكانوا يعيشون على حساب القرويين. في الفيلم مروان إنسان له مشاعر وسيحب، لكنه لن يمارس الحب بمعنى أن الكبت الاجتماعي
والعاطفي سيرافقانه في حله وترحاله، وبمعنى من المعاني سيلبس لبوس الحرمان، وبدوره لن يجد بدا من معاقرة الخمرة، وبلا سراط مستقيم، سيقدم مروان خدمة صلاح لرفيقه المثقف؛ سيكسر عزلته ليتقرب منه أكثر، كيف لا وهو جزء من بطانته يخشى منه وعليه.
مضطران ينصهران، فيقرران أن تصبح الروابط بينهما جدلية قابلة للارتقاء والتطور رغم الضيق والخنق وعبث الظروف، وقد يبدو الموقف غريبا لكن اسباب النزول تجعل التوافق ممكنا متى حتمته ملابسات العيش، وقريبا من تشابك المواقف ألصق المخرج حزنا بمجموع شخصياته غير أنه لم ينحته حزنا قارا بل جعله عابرا وصاحبه بموسيقى جنائزية أحيانا، وأقول صاحبه لأن إمكانيات الفيلم في حين كنت أحبذها في مقام musique originale بالتأكيد لم تكن تسمح بإنجاز
كردي أو نهاوند حزين خاصة في مشهد الجنازة الذي آثر فيها حكيم سماع
للمغنية الروحانية مهاليا Psalmodyأو Gospel لمجموعة موسيقى غربية، تمنيتها
جاكسون ليبقى المشهد في إطاره الديني
لا أريد بشكل مجرد أن يفوتني حضور الدين كخطاب مصور من خلال الفقيه السلفي المتعصب والذي لم يقرأ يوما أن الإسلام وصف بدين العصر وفلسفته، وعمت ثقافته الكون حتى أن مسلمين من غير العرب كتبوا بالعربية ومنهم: ابن سينا والفارابي وابن المقفع، وأن المتحدثين عالجوا في الخمسينات وأوائل الستينات مسألة (أزمة الدين في مجتمع علماني) بانفتاح نسبي محدود اللياقة وأدب الحواردونما مغالاة ولا تشدد أوعنف بالشكل المنسحب على البلدان المسلمة حاليا، ويعلم المهتمون بالشأن السينمائي المغربي أن التعاطي مع مواضيع الدين خط أحمر، لكن السؤال هو: كيف تجعله خطا أخضرا؟ تلك هي المسألة كما وعاها مخرج الفيلم، وأفلتها من فلك الممنوع ووضعها تحت عدسة المتلقي دون المساس بالتوابث والمقدسات، كما هي في مجتمع متنور ومحافظ في الوقت ذاته؛
فقيه جاهل بأمور الدين، متربص وحقود يهدر بالمطلق دم من يعارضه، وقد أدى دوره بإتقان كبير الممثل الكفء الشكرة، فجاء نموذجا لما صدرته لنا الدواعش
من كون غير المصلين كفرة، وقد ساعده في ذلك ما نسميه مهنيا بالبنية الوظيفية:
وبإحساسه الوارف استطاع أن يجسد دور من يكرهك فيLa tete de l’emploi
الإسلام وتعاليمه، كما ورد في نصوص ابن تيمية ومن لف لفه، ونظرا لطبيعة
المشهد دراميا واتسامه بالعنف فقد اتقى المخرج شر المتشددين بأن جعله حلما، ويقودني هذا لاستجلاء ثنائية الضوء والظلام المحيط ببعض مشاهد الفيلم فالقرية (مير اللفت) في الليل تبدو غارقة في الظلام، لا نكاد نتبين معالمها، وفي النهار هي بيضاء ناصع بياضها كقبور جديدة و- الخطاب المصور- هنا بمثابة أن يعميك الضوء ولو قليلا أو يكتنفك الظلام إلى ما لا نهاية في إطار الوعي بما ينجم عن سلوكك وأفعالك، وعموما جغرافية المكان كما رصدتها عين المخرج ليست فضاء استعان به ووظفه لتأثيت المشاهد بل هو عنصر لفلسفة الوجود والعدم في سياق الشريط، الضياء في لوحات أمين الدمناتي و العتمة كما في الخطوط السوداء المتكررة عند محمد الغرباوي. هذه هي السينما تحتاج إلى مجموعة معارف لتصور خطابها.
على ذمتي وبالصوت والصورة في جبل موسى، فقد ران طابع العفوية في تقمص الأدوار النسوية فانبرت كما هي بلا زيادة ولا نقصان، أما عن دور المرأة الأم، فادريس المريني توفق في نزع الصلابة والتجهم عن المرأة الحديدية (السعدية أزقون) كما قدمها مخرجون لم يقووا على استثمار القدرة الرهيبة لممثلة من العيار الثقيل، فجاء أداؤها في الشريط بعكس أدوارها السابقة راقيا من خلال النبرة والنظرة وانسيابية المشاعر التي جعلت المتلقي يتقاسمها معها دون اندماج ميلودرامي مفرط.
في نهاية انطباعاتي أنحني انحناءة الفنانين في المسارح، ليس فقط لمن أدوا الأدوار التي شاهدنا ولكن وأيضا لكل الطاقم التقني والفني ولكل من ساهم صادقا في إنجاز فيلم محترم يستحق المشاهدة وتمثيلنا في المحافل والمهرجانات الدولية برأس مرفوع، وخمسة نجوم لصديقنا ادريس المريني.


الكاتب : عبد الكبير بن بيش

  

بتاريخ : 13/04/2023