وقت مستقطع من الحرب (11) اعتماد سلام: لا أحد ينجو من حرب وإن كانت بعيدة

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

هناك أمور تستحق القتال من أجلها، الحرية أو الحب أو حق مثلا في زمن تنتزع فيه الحقوق ولا تعطى. «خالي عبد السلام» كما كنا نناديه في قريتنا وبعدما قاتل عدوا يجهله وهو في العشرينيات من عمره في حرب «لاندوشين» وجد نفسه يقاتل بقية عمره من أجل أن يحصل على تعويض أو معاش نظير خدمته العسكرية الإجبارية ضمن جيش لا يمثله وتحت علم بلد كان محتلا لبلده وفي معركة لا تعنيه ولا تعني وطنه. عبر قصصه التي كان يحكيها خلال أحاديثه مع الكبار سمعنا نحن الصغار حينها بشيء اسمه الحرب وأدركنا بشاعة هذا الشيء الذي ترك أثرا بليغا على جسمه ونفسه وشوه جزءا من وجهه حيث نتأت أسفل ذقنه ثلاث كرات لحمية بارزة بشكل كان يخيفنا عندما ننظر إليه لكنها كانت شاهدة على آثار معارك طاحنة في جبهة حرب وجد نفسه فيها دون سابق إنذار ونجا منها بأعجوبة.
لم تصدق توقعات إيميل زولا، ولم تنته الميولات الحربية التي أبان عنها العديد من القادة الأوروبيين، وها نحن بصدد حرب جديدة. في الحرب نشعر أن العالم فعلا قرية صغيرة وندرك أن حربا في أقصاه يمكن أن تقض مضجع الناس في أدناه، الحرب هناك في أوروبا الشرقية لكن شظاياها بلغت كل مكان. شظية كبيرة أصابت ميزانية الأسر التي صار خبزها اليومي أكثر كلفة وتضاعفت أسعار مكونات مائدتها مرة ومرتين وثلاثا، بينما حلقت أسعار المحروقات في سماوات بعيدة ودخلت اقتصادات بلدان عديدة متاهات التضخم والأزمات.
الحرب موجودة في نشرات الأخبار التي أكتبها وأقرأها على المستمعين، أخبار الحرب تشبهها، بشعة مثلها مهما حاولت الاستعانة بمحسنات اللغة لتخفيف وقعها، لا يمكن تجميل ألفاظ مثل القصف والتفجير والصواريخ والجثث والقتلى والجرحى والأنقاض والنزوح واللجوء والفقدان، تتحول النشرة إلى معركة أيضا.. كيف تلخص يوما كاملا من الحرب في خبر صغير؟ كيف توجز تفاصيل كثيرة في دقائق؟ بعضها يجد مكانا له وبعضها يضيق عليه الوقت. هذا حالنا في عالم لا تنته فيه حرب إلا لتبدأ أخرى، تتناسل فيه الحروب وتحدث لأبسط وأتفه الأسباب.. ناقة كانت وراء حرب البسوس أو حسناء مثل هيلين اشتعلت بسببها حرب طروادة، يقابل فجائع الأبرياء ومآسيهم خطاب هادئ ودبلوماسي لساسة يصورون أمرا جللا كالحرب على أنه الحل الوحيد.. ما أكذبهم! تدهشني قدرة العالم على صناعة حروب تدمر الإنسان، تنهي حياة أناس أبرياء بصاروخ، وتوقف أحلام أطفال نائمين بطائرة مسيرة، وتدك عمران سنوات بقرار عسكري خاطف. تذهلني هذه القدرة العجيبة على زراعة المآسي واستنبات الخراب وحرق الأراضي ومعها القلوب دون أن يرف جفن من يقرع طبول الحرب أو يوجعه قلب إن كان له قلب. يدهشني إيمان أشخاص لا نعرف كيف اكتسبوا القدرة على تقرير مصير البشرية بأن الحياة غير ممكنة ولا تستقيم دون إشعال حروب وحرائق تأتي على كل شيء في سبيل تحقيق العظمة المنشودة التي لا تلتفت لكل الدمار والجثث التي تسقط في الطريق إليها.
كيف لنا أن نتجاهل الحرب بعد كل ذلك؟ لن نستطيع حتى وإن أردنا. في كل نشرة وفي كل خبر تطل بوجهها البشع، في كل مشوار إلى السوق أو إلى محطة بنزين.. سنتذكر أننا تحت رحمة أشخاص يصنعون الحرب ومعها يصنعون حكايات حزينة، وما أكثرها!.. مثل حكاية الخال عبد السلام الذي لم تحفظ ذاكرة الجمهورية تضحياته وزملاءه ممن نقلوا على حين غرة إلى جبهة الحرب، رغم أنه استمر لعقود يراسل السفارة وينتقل من بيته في غياهب قرى الرحامنة إلى قنصلية فرنسا في الدار البيضاء مطالبا بتعويض ومعززا طلبه بشهادات ووثائق. بعد محاولاته المتكررة، اعتزل الناس وانتبذ مكانا قصيا لا يغادره إلا إلى الجبل ليقطف ما يجود به من أعشاب كانت مصدر رزقه الوحيد في انتظار التعويض الفرنسي الذي ظل يمني النفس بأنه سيأتي وفعلا أتى.. لكن بعدما أسلم الروح إلى بارئها. متى كانت وراء الحرب فضيلة؟!


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 14/04/2022