وقت مستقطع من الحرب -27- مصطفى قلوشي: الحرب فزاعة بشعة ترهب الحياة

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

ارتبطت الذاكرة العربية بالحروب ن منذ حرب البسوس، وقد كانت علاقة الشاعر العربي
علاقة جمالية ــ ملحمية ــ من جهة، وعلاقة بطولية من جــهة أخرى بحكم أن الشاعــــر
العربي، الجاهلي على وجه التخصيص كان محاربا وفارسا أصيلا بطبعه البدوي، أو
محرضا عليها محمسا للعزائم واصفا غمارها، مذكيا للروح والأنفة والحمية القبلية للدود
عن حماها ودحض العار والمهانة.
وفي النادر ما تجده يتخذ موقف الحياد رغم فروسيته وبطوليته كما حدث مع الحارث بن
عباد لما اعتزل حرب البسوس الدائرة بين بكر وتغلب بالتحاق العديد من القبائل لنصرة
هذه القبيلة أوتلك.
ليلتحق بهذه الحرب مضطرا بعد أن أهان المهلهل التغلبي ابنه ربيعة …ويعلن الحرب ضد
قبيلته تغلب:
قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حــيال
قربا مربط النعامة مني ليس قولــي يراد لكن فعالي (1)
بل إ ن رحى الحرب ذاتها وهي تطحن بلا رحمة أجساد الفرسان وتزهق أرواح الرجال بلا
هـوادة، رغم قسـاوتها وبشاعــتها تظل ملهمة الشاعر العربي.. فهذا عنترة بن شداد العـبسي
في معترك القتال وبين نقع حوافر الخيل وقعقعة السيوف بوصفها آلة قتل يرى فيها ثغــر
محبوبته عبلة وينشد:
فوددت تقبيل السيوف لأنــها لمعت كبارق ثــغرك المتبســم (2)
*************
في عصرنا الحديث ما عاشه الإنسان العربي من حروب يكفي كي تطفح به سجلات التاريخ
كلها بالمآسي والخيبات منذ جرحنا الأول والغائرفي جسمنا العربي» القضية الفلسطينية «
وما جرته علينا من نكسات وخيبات في حروبنا ضد الصهيونية، ليصبح الشعر والأدب
سلاحا للمقاومة وبلسما لتضميد جراحاتنا النازفة …
أذكرا هنا بالمناسبة ــ والمناسبة شرط كما يقال ــ وانا ابن الثالــثة عشر من عـمري أستاذي
الفلسطيني صبري محمد محمود والذي كان يدرس لنا اللغة العربية بمرحلة الإعدادي.. قلت
له مرة: خذني معك إلى فلسطين. أريد أن أحارب.
أذكرها اليوم وأضحك على وعي ذاك اليافع الذي كنته ووعيه بالعالم من حوله.. كيف بدت
له الحرب؟؟
هل كانت تبدو له وسيلة ثأر من عد وغاشم؟؟
أم هو شعور محبة وتقدير لأستاذه، أراد ساعتها أن يعبر عنه بتلك الطريقةــ ربما ــ؟؟

*************
تبدأ الحرب الحديثــة بفـــــكرة مجنونة في رأس قائد أرعن مزهـــو بترسانة أسلحته الفتاكة
وجيـــشه القوي وترسانة رؤوسه النووية، وأزاره التي يتحـــكم في وبلمسة من سبـــابته قد
تفني البشرية…. وتعيدها قرونا إلى الوراء..
تبدأ الحرب بضربة تجريبية على مطار… أو محطة قطار… أو مجمع سكني فتربك الحياة،
قد يكون الإنسان غير آبه بتهديدات الساسة والقادة …فتنهال على رأسه القنابل كالمطر وهو
في موعد مع حبــيبة، أو بمتجر يشتري الحلـــيب لصغاره …. تدوي صفارات الإنــذار هنا
وهناك تبدد ذاك التجاهل وتحوله خوفا مستبدا بالصغار والكبار..
وأنا أتابع أخــبار الحرب عبر شاشة التلـفاز أنتشي بقهــــوتي في كل مرة أتصورها بوجه.
…أتصورها فزاعة بشعة ترهب الحياة، وتهش حتى زقزقات العصافير عن الشجر.
الحرب موت مفخخ لا يدري الإنسان وهو مأخوذ بتفاصيل الحياة متى سينفجر في وجهه.
وعندما تــدق طبول الحرب يرقص الموت جذلانا عاريا.. فهــي دعوة إلى حفــل الخراب
والدمار.

*************
قال الموت يوما لرجل فقد كل من يحب في الحرب:
عزيزي إذا استيقظت في صباح الغد، فانتظرني قد أزورك في ساعة متأخرة من ليلة الغد..
افتح شبابيك البيت اشرب قهوتك المعتادة بالشرفة بسلام…استمتع بسماع أغانيك المفضلة،
ولا تنــس أن تغلق أنابيب الغاز خوفا من الاختناق أو انفجار محتمل…أنت غال عندي،
حتما سأزورك لاحقا…متى؟؟؟ لا أدري!
لكني سأفاجــئك…
في الحرب،
تبهت الألوان
وتهجر الطيور أوكارها
في الحرب،
تجف البحيرات في كراريس الأطفال،
وأنتَ لا زلتَ تسألني يا صديقي
نفسَ السؤال:
لماذا تفسد الحرب الحياة؟
لِمَ الحرب قاسية هكذا كالحب؟!

(1)ديوان الحارث بن عباد / حققه د. أنس عبد الهادي أبو هلال / هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ص 46
(2)المعلقات العشر /مفيد قميحة ـــــــ دار الفكر اللبناني /ص196


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 05/05/2022