وقت مستقطع من الحرب -28- سعيدة لقراري: حياة بلون الحرب

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

فواصل حبلى بالألم تلك الحروب، على عدة جبهات تستقر بيننا نارا، ودمارا في البداية، وخلفها تترك الألم زمانا ومكانا في النهاية.
الحرب ابنة الإنسان الجاحدة لبراءة الأطفال، ولصوت الجمال والحب فينا، على وجهها بالمرآة لا تطلع ..
مرآتها ساحة غضب تحرق الأخضر واليابس بالأرواح والأبدان لتترك بنا الألم دخانا..
دخان يحمل مشعل الحرب بعدما تضع أوزارها، وهي توهمنا ملوحة بمناديلها البيضاء، أن السلام أبوابَنا يطرق، سلام ذو وجه باهت يظهر لنا من العين السرية للباب، الواضح فيه دموع ضياع حارقة للأمل، وللغد سارقة ، وأسلاك شوكية تدمي الخطوات نحو مستقبل اسمه الأمن والاستقرار.
التاريخ يكرر نفسه، وسيرة الحرب تُثار تنديدا، مناوشات، ثم مواجهات بها العضلاتُ تُستعرض باردة وساخنة، على صفيحها بقلب حياتنا ترتشف معنا قهوة المساء، بعيوننا على مختلف الجرائد تطلع، والأخبار الرئيسية تتابع، احتجاجا على لساننا طبولُها تدوي وسيرة قوارب الموت، تغرس شتائل الغربة بقلب الوطن.
بل إنها لا تتردد، في احتلال أجمل الأماكن فينا وفي بيوتنا ومجالسنا أيضا، لتجعلنا مضطرين إلى حشو البنادق بالرصاص الحي، وانتعال الأحذية العسكرية، ووضع الخوذات، والأقنعة الواقية من الغازات السامة، المسيلة لليأس والانكسار، في حياة ملغومة تفرض علينا الحذر أثناء الخوض فيها بما تحمله من جمال.. بشكل يتعذر حتى على الجدران، الأسواق، الشوارع، المقاهي، الملاعب، ….تجاهلها، فترى الخنادق تُحفر هنا وهناك لمواجهة أو لنَقُل لمحاربة، الفقر وما يرمينا به من حرمان وجوع، المرض وما يثقل به كاهلنا من تكاليف لاينفع معها أي ضمان، الجهل وما يجره بعربته المهترئة من تعتيم على أوضاع موغلة في وحل التخلف..
والموت يحرمنا من تواجد أحبتنا على وجه هاته الأرض، أيضا الحياة تعلن الحرب من خلاله ضدنا، نتجرع فيها بدونهم مرارة غياب لا ينفع معه – للتخلص منه – قطع المسافات للالتقاء بهم ولا نداء يشتعل فينا حنينا وشوقا لرؤيتهم ، حرب توجه إلى ما تبقى فينا بعدهم، رؤوس صواريخها العابرة للأرواح لتحاول اختراق وتحطيم آخر القلاع الصامدة في وجه ريح الموت القاسية..
عن خطواتها المدوية لاتخلع حذاءها العسكري، ولا تتيح لنا الاحتماء من لهيبها بالمخابئ.. مما يزيدنا موتا بعدهم ويجعل الحياة حولنا فاقدة للبصر تجترنا بين فكيها لقمة سائغة تلتهم خلال ذلك صبرنا وتضعف تحملنا،لتلفظنا خارج خنادقها جثثا تقضم أظافرها خوفا وتخوفا من فقدان المزيد من الأحبة ..
يقول ميخائيل نعيمة: « وانتهت الحرب….في ذلك اليوم رقص الملايين من الناس في شتى بقاع الأرض، وغنوا وسكروا، وعربدوا، إلا الذين تذوقوا طعم الحرب، أولئك ظلوا صامتين. «
كفرد من هذا العالم
وأنا أكتب، كيف لي أن أتجاهل صراخ الألم في العيون الخائفة، عند أقدام حرب لا تنوي المهادنة، حاضرة بوجوه الحيارى، المتألمين، المحرومين…بين السطور تنمو عوسجا ومرارة، فكيف لي إذن أن أنسلخ من أثرها وأنا جزء لا يتجزأ من ذلك الكل المكلوم ؟ !
وفيما أريد الإشارة إليه يوقفني « فرانس كافكا» وهو يقول:
« الحياة حرب مع نفسك، حرب مع ظروفك، وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف»
أيضا بالكلمات والألوان تنغرس مخالب الحرب، تداعيات غزيرة.
بكأسي، أصواتا، تنادي حد الصراخ، حد العواء، حد الصمت المبحوح، في جوفها تصب، فأجدني ضدي أصوب فوهة مسدسي الكاتم للصوت، وأشهره في وجه ذاتي المشبعة بأنواع من حروب، نمت بي، ومني تغذت..
حروب وإن اختلفت أنواعها، تظل وجهتها، الإصرار على تضييق مساحات الجمال بي، محاولة تلويث الهواء الذي أستنشقه، بقتل ساعي البريد الذي يحمل رسائل السلام إلي و إلى الآخر، بتمزيق الأشرعة التي أوجهها على لسان رياح حروفي نحو بر الأمل والأمان، بالرمي بي في خنادق العراء المشرعة على وجوه « قاسحة» لأعداء لا تستحمل الأقنعة الملونة الاستقرار على ملامحهم .. لتتسلل إلى عالمي.. وتغرس طبول الحرب بأرض الحب التي شذبتُ أشجارها وسقيتُ زهورها العطشى، بكلمات ليست كالكلمات وألوان ليست كالألوان، أقوم بذلك وأنا أستمع إلى «هلين كلير» تقول:
« حارب ضد الحرب، إنهم بدونكم لا يمكنهم خوض أي معارك «
هكذا أعيش الحرب وأنا أكتبني.. إذ أني أحيانا أضطر اضطرارا إلى انتعال حذاء عسكري تحسبا للألغام المزروعة بأرضي، ووضع الخوذة على رأسي وقاية مما يمكن أن ترميني به طائرات حربية، لا أدري متى وكيف
حلت بسماء عالمي متسكعة ..
قائدها خوف عريض طويل، يبحث عن تضييق ما في داخلي وما حولي من مساحات الأمان، ليغرقني في زوبعة الهروب .. أو دوامة المواجهة، مواجهة حروب تعددت أسماؤها « عسكرية، بيولوجية، اقتصادية، …» لكنها يدا واحدة تصبح، وهي تخلف وراءها ضحايا، دخانا وأنقاضا..


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 06/05/2022