وقت مستقطع من الحرب (29) : سليمان الدريسي: كلبة سوداء ترقص بقوائم كثيرة

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

الحرب موسيقى مقيتة للشرّ والموت، ومعزوفة للخراب
ألم يَدُقّوا لها طُبولا على مرّ التاريخ؟
إنها بنت شيطان الجشع/الجشع البشري. حرب بدافع الخوف أو الانتقام، لا يهم..
ما الفرق إن كانت في كل الحالات بمثابة كلبة سوداء ترقص بقوائم كثيرة فوق الجثث والأنقاض؟
كومة من الجثث هي (ثمرة) لكل دقّة طبل حرب، ومع كل دقّة طبلٍ خرابٌ هائلٌ للضمائر والبنايات.
عُميانٌ هم صُنّاع الحرب المهرولون إلى عبثيتها وجحيمها، عُميان أبدعوا ويبدعون في رسم صُوَرٍ للبشاعة، هي في الحقيقة صُوَرٌ ضدّ الوجود والحياة، ولكل صورة رائحة مختلفة عن الصورة التي تليها، والرائحة هنا دم ودخان ورماد…
إن أول صورة تتبادر إلى ذهني كُلّما تأملت نشوب حرب جديدة -مثل ما يحدث الآن- هي صورة القتل الأول، صورة قابيل الذي جشّ رأس أخيه بصخرةٍ..
هل تختلف هذه الصورة التي نقرأها في الكتب السماوية عن صورة «غيرنيكا» التي جسّدها بيكاسو على لوحة؟
الصورة/اللوحة لا زالت معروضة في أكبر متاحف الفن المعاصر في العالم، مثلما مازالت النقوش الصّخرية القديمة في الكهوف شاهدة على حروب بشرية طاحنة و (انتصارات)… انتصارات الإنسان على الإنسان، أو لِنَقُل (بشكل أدقّ): خسارة الإنسان لإنسانيته.
الحرب أفدح خسائر البشر مهما كانت مبرراتها ودوافعها: حرب من أجل الدفاع عن النفس/ من أجل الثروة/ من أجل البترول/ من أجل التراب والماء والهواء.
الحرب أفدح خسائر البشر، إنها عقوق سافر للأخلاق، تشريد وتهجير وملء لعيون الأطفال بالغبار والإسمنت (وكُلّنا أطفال)، الحرب دخان أسود مسعور يحجب عنّا نور الشمس.
هل القتل قَدَر؟ ومن يقتل من؟ لماذا ربابِنة سُفُنِنا عميان؟ ولماذا صارت خرائطنا مثل بقع الزيت على الماء تلتقي لكي تتنافر؟
ها قد تعوّدنا على إطلاق الرصاص في الحروب كما في الأفراح..
متى ستتوقف إذن طبول الحرب التي نسمع صوتها المرعب طوال كل الحقب ومنذ أن وُجِدنا على هذا الكوكب؟
نَعم، الحرب أفدح خسائر البشر.. إلا أنها وبالرغم من مآسيها وآلامها وقسوتها قد شكّلت منبع إلهام للكثير من الأدباء والمبدعين الذين حرّكت الحرب أياديهم ومخيلاتهم لِيُخلّفوا وراءهم -وما زالوا- أعمالا فنية وأدبية مُلهِمة، مثل روايتي «لمن تقرع الأجراس» و»وداعاً للسلاح» للأديب الأمريكي أرنست همنغواي، والتي تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي.
لا يمكننا طبعا حصر الأعمال الأدبية والفنية التي كانت الحرب موضوعها الأساس، بدءاً برسومات الإنسان القديم على جدران الكهوف والمَغارات، مرورا بملحمتي «الإليادة والأوديسا» ، والشعر العربي الجاهلي الذي كان مقرونا بالمعارك والحروب، وأعمال فناني وشعراء الحربين العالميتين الأولى والثانية، وصولا إلى أدبنا الحديث حيث ظهر توصيف «أدب الحرب»، كثورة ضد القتل والإبادة، وكحرب مضادة من أجل انتصار الحياة في وجه الموت.
الأدب حرب-ضد-الحرب، ضد حماقات البشر التي تُصرّ على تكرار نفسها، وحفر الندوب والألم على جلدنا جميعا، إذ لا أحد منا بعيد أو في منأى عن الحرب، إننا نعيشها، نمشي فيها وبمحاذاتها، ونُقيم بتوجّس على ضفّة نهرها المليء بالدّم، ونؤمن ب «لا جدوى» الخوذات والأحذية العسكرية.
وإلى أن يستعيد حُكّامنا وربابنة السفن التي نركبها أبصارهم، سنظل نرسم ونكتب وننحت الحياة على الورق والتراب والصخر وفي كل مكان…
لأننا ما نزال نحيا


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 07/05/2022