وقت مستقطع من الحرب -30- أحمد شكر: الحرب خطاطة ألم مستمر

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

الآلة الحربية ظلّت تشتغل على مر السنين بحماس غريب، تجز الرؤوس وتقطع الأنفاس والأطراف وكأنها تقوم بعمل روتيني تتطلبه صيرورة الحياة.
الحرب حتمية وجودية وسديم كونى يبذر الخراب الأبدي على مر العصور. لم تكن لتنتهى حلاقاتها الرهيبة.
ماكينتها لن تخلف وراءها الا الأعطاب واليتم والآهات العميقة.تضعنا في فرنها الرهيب مهما نأينا عن صخبها، تقصفنا صورها البشعة والمقززة من كل قنوات الكون، وتصم أداننا استغاثات منكوبيها.
أتخيل الجحيم بركان يغلى ويمور بالحمم يتنفس في ساحات الحرب المشتعلة في أكثر من جهة، ينفث سمومه القذرة ولهبة المستعرة. كأنه يستعجل زاده ووقوده قبل يوم الحشر.
عجزت دوما عن فهم نفسية مُهندسي هذه الحروب وقادتها ومُطيلي أمدها، كيف يخلدون للنوم؟ وكيف هي أحلامهم وطقوس حياتهم اليومية ومذاق قبلهم الحارقة؟
أنأى بنفسى عن التفكير فيها لكنها(الحرب) تقتحمنا غصبا، تحاصرنا عبر حجم الصور المسوقة والأخبار الصادمة وأعطاب المنكسرين وجثامين المفقودين،بل هاهي تغزو معيشنا اليومي وخبزنا ووقود سيارتنا.
لا يمكننا تجاهلها وان وضعنا مسافة بيننا وبينها، فهي مُعطى قدري يكبل حلمنا ويُكوبسه.
نحن لا نعيش في عالم مُجرد معزول عن الواقع، بل نخب بالضرورة في طريق وكون مفتول من خيوط الشك والريبة والضغينة.
أحاول ترميم دواخلى بتجاهل هذا العُته البشري ما أمكننى ذلك، لكن هيهات.فالحرب تقتحمنا رغما عن رغباتنا، تنبع من كل الشقوق والأمكنة لاتكاد جدوتها تخبو أبدا.
في طفولتى البعيدة وأنا أمد ظلي الصغير وأحث خطوي باتجاه مدرستى، غالبا ما تتعثر نظرتى ويتقاطع ممشاي مع ترنح شخص يلقبه الجميع ب ‹› العسكرى›› يلف جسده المتهاوى في معطف زيتى خشن ويعتمر خودة حديدية من مخلفات حرب بائدة، هذه الصورة الكابوسية زوبعت نسقى وجرحتنى، ورُكنت جنبا في غرفتى العميقة المُعثمة حتى انبثقت في شكل قصة عنونتها ب ‹›خودة الضياع›› ونشرت ضمن قصص مجموعتى الأولى ‹›تودة››
هي هكذا الحرب تعيش فينا….
ليست هناك حرب تُحاك في مكان آخر، بل هناك حرب تسثعر وتشتعل في رقعة هي جزء من هذا الكون وبالثالى فهي تمسنا بطريقة أو أخرى. ان لم يكن التماس جسديا مباشرا فهو نفسى فكرى يكبس على كينونتنا ويشوش أحلامنا. الحرب خُطاطة ألم مستمر ومرجل يغلى، يعدُ بالفناء المنتظر.
في مرحلة عُمرية مُتقدمة نسبيا، تمّ تعيينى لأول مرة بآخر واحة مسموح بها السكن قُرب الحمادة. عشت غربة في لفيف غربة وعاينت شبح الحرب وظلالها الخرافية على عناصر فرقة صغيرة من الجنود كانت مرابطة هناك، وتشربت عميقا خوفهم وحكاياتهم عن زوجات مشكوك في وفائهن، وعن أبناء غير مسموح لهم بتربيتهم، وعن فسحات عطل تكاد تكون مُتوارية، وحنين لأمكنة بعيدة….وعن أشكال مختلفة للرهاب: رُهاب الموت، رهاب العطب، رُهاب الأسر……
شكلت هذه المحطة مرحلة بياض وخواء وتحول في تماسى مع الآخر.


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 09/05/2022