وهج الكتابة.. حكاية فرجينيا وولف

“حبيبي أنا واثقةٌ بأنني سأجنُّ مرةً أخرى، وأشعر بأننا لا نستطيع أن نعاني مجددًا شيئًا من تلك الأوقات الفظيعة. أنا لن أشفى هذه المرة؛ بدأتُ اسمع الأصوات، ولا أستطيع التركيز، لذا سأفعل على ما يبدو لي أنه أفضل ما ينبغي فعله. لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك، ولا أظن أن هناك شخصين يمكنهما أن يكونا أسعد مما كنا”.
كتبتْ هذه الرسالة قبل ان تتوجه إلى النهرِ مُثقلةً جيوبَ معطفها بأحجارٍ ثقيلة لتغرق نفسها وتغادر إلى الأبد، وتنهي قصة الروائية الانجليزية العظيمة فرجينيا وولف. قررت هذه الكاتبة الغياب الأبدي بعد سلسلة من الفواجع في حياتها. فحينما بلغت سن الثالث عشرة توفيت والدتها ولم تمض سنتان ولحقتها اختها ستيلا، والأسوأ من كل ذلك قيام اخيها غير الشقيق بالاعتداء عليها جنسيًا واضطرارها إلى كتمان الأمر بسبب تربيتها الصارمة وكان لهذا الحدث تأثير عميق على حياتها اللاحقة وكأنها بذور متتالية زرعت فيها وحشًا قاتلاً اسمه الاكتئاب الذي تطور ليداهمها الانهيار العصبي بوفاة والدها بعد صراع طويل مع السرطان وتسارع إلى الانتحار بإلقاء نفسها من النافذة لكنها شفيت من اصابات سقوطها.
ولم يكن ذلك نهاية المآسي بل انه بعد عامين من رحيل والدها توفي شقيقها توبي ثم أصيبت أختها غير الشقيقة لورا بانهيارٍ عصبيٍّ حاد واودعت بمستشفى الأمراض العقلية.
خسارات شخصية متواصلة تركت جروحًا لا تندمل في نفس هذه الكاتبة التي حاولت ان تقاوم العذاب بالكتابة واصدرت اولى رواياتها عام 1915 بعنوان “رحلة إلى الخارج” وفي عام 1918 انجزت رواية “غرفة تخصُّ المرء وحده”. وفي كلتا الروايتين ركزت فرجينيا وولف على قضايا المرأة والدفاع عن حقوقها. في عام 1925 كتبت روايتها الشهيرة “السيدة دالاوي” حيث فجرت جميع الأفكار التي تقبع داخل الشخصيات الرئيسية وتذّكر احداث سنوات طويلة كلها خلال يوم واحد حيث تدور كل الأحداث في يوم واحد فقط. هي رواية فريدة من نوعها وأُنتجت عام 1997 كفيلم سينمائي. وفي عام 1927 اصدرت اشهر رواياتها «إلى الفنار» متأثّرةً بأعمال سيغموند فرويد حول طريقة عمل العقل البشري؛ حيث اقترب فيه فرويد من ذلك بالملاحظة والتحليل بينما اقتربت وولف عبر الكتابة والخيال. وتعتبر وولف احد مؤسسي تيار الوعي في الرواية العالمية حيث ركزت على الغوص في العوالم الداخلية لشخصياتها. وللكاتبة روايات أخرى ايضا هي “الأمواج”، “أورلندو” و”فلاش” وروايات أخرى إلى جانب مجموعة قصصية بعنوان “أثر على الحائط”.
كانت في رواياتها تخلط بين الجانب الواقعي الملموس والجانب الخيالي المليء بالغرائب مثل حياتها الشخصية واكتئابها وصولا إلى حادثة انتحارها المثيرة للتساؤلات حتى تحولت حكايتها نفسها إلى رواية فانتازية.
لقد انعكست اضطرابات وولف النفسية على كتاباتها بشكل مرئي وغير مرئي فالكاتب مهما حاول أن لا يغادر نفسه كثيرًا في مفرداته وتصميمه لشخصياته فهو يلبسها هواجسه ومآسيه. ففي رواية “السيدة دالاوي” يقرر حبيب السيدة دالاوي الانتحار برمي نفسه من النافذة وهو ما فعلته وولف بالضبط بعد وفاة والدها ولكنها لم تمت. كما ان بطلة رواية “الى الفنار” كانت تشاهد اشباحًا وتسمع اصواتًا غريبة وهي نفسها التي طاردت وولف واودت بها إلى الانتحار.
هذه الروائية الرائعة كانت صادقةً في نقل هواجسها واضطراباتها النفسية والعقلية والأصوات التي تسمعها وترجمت ما مرت به من الام وتعاسة والبستها شخصيات رواياتها بصورة مبدعة لتتحول رواياتها إلى سجل حقيقي لحياتها.


الكاتب : عبد الحميد القائد