وهم اسمه: الكتابة تكتبني

 

الرواية الأولى كانت حلمٌا جميلا في البداية، ولكن ما إن صحوت منه حتى تحول إلى كابوس يقض المضجع، يسرق الغفوة. فحين تضع نقطة النهاية للفصل الأخير، يبدأ الفصل الأول من المعاناة مع دور النشر في زمن ضعف المقروئية، واحتكار الأسماء المعروفة المصنوعة أو المبدعة المتميزة، أو الواهمة القادرة على شراء تأشيرة دار النشر…
نحن نعيش زمن صناعة النخب والاستثمار في نوع من الذائقة للتحكم في أثر الفعل، وترويج رؤية للعالم وفق مخطط محبوك إقليميا ودوليا..
نحن نعيش العبث وبيع الوهم…
الأدب الذي يملك رؤية ومشروعا مجتمعيا…محاصر… حصارا ناعما..ويتم تقزيمه وسط حملات كبرى لصناعة النجم الأدبي…
هناك روائيون صنعهتم دور النشر المرتبطة بالسلطة والمال والأجهزة الاستخباراتية و المنظمات الدولية المشبوهة ، وأعمالهم لا ترقى لما يروّج لها… هناك روايات تم الترويج لها كبضاعة مثيرة: حملات إعلامية، وأقلام، وصحف، ولقاءات؛ وهي دون المستوى بل صنعها « الماركتينغ» الثقافي… والمشروع الخفي لصناعة نوعية من الثقافة في العالم العربي الأمازيغي..
هناك روايات بمستوى عالمي مهملة؛ لأنها محاصرة بالآلة الدعائية التي غدت تصنع النجوم كما في ميادين كرة القدم…
الرواية الأولى نص متردد في العقل والوجدان. تكتب وهي مسكونة بتجارب الآخرين. مهووسة في الوقت نفسه بالاختلاف. تعيش مأزق النماذج/التأصيل، والتفرد/الخروج عن الإبدال الإبداعي السائد؛ هكذا كنت أفتض بياض الرواية الأولى بالألم ووجع التقليد والتغيير.
روايتي الأولى تناص إجباري، سكنتها التجارب… تجارب سردية سابقة، تحضرني رغماً عني: لغةً، ورؤيةً. حين أحاول التخلص من ربقة هذا الاستعباد للنصوص الجامحة الساكنة في الذاكرة والوجدان، أعاني مشقة لا مثيل لها؛ مخاضاً من نوع آخر. لا كتابة من عدم. كل نص هو حضور لنصوص سابقة. المبدع الذي يشق طريقه في التفرد ينحني من حين لآخر لصوت روائي يسكن لغته وأسلوبه، ثم يدعه يمر في خطابه السردي دون أثرٍ قاتل لتفرد النص.
ليست هناك طقوس للكتابة السردية؛ لأنها شاقة ومتعبة…الرواية ليست ترفا ولا لعبة جميلة؛ ليس هناك قصة جاهزة منذ البداية. القصة تصنع نفسها؛ تنكتب في مجرى السرد، لكن لابد من مخططات للشخصيات والأماكن، وتوثيق دقيق للمرحلة الثقافية على المستوى السوسيوثقافي…
أكتب في أي لحظة، وحين يخذلني الخيال، أبتعد عن النص لإنعاش المخيال والوجدان… الخيال حين يتعب أو يقل معينه، تصير الكتابة مستحيلة .
النشر هو ذاك الهم الذي يحمله المبدع وهو يطوف بنصه الأول.
لا تعرف هل سيقرؤون نصك أم يكتفون بتقييم وتسعير اسمك وسيرتك في السوق. نشرت روايتي الأولى (عشق في زمن الغضب) بمصر عن طريق دار «روافد». لم يخضع النص للتنقيح اللغوي وفق الأعراف المهنية. فصدمني إخراجاً واختلالات. لم ترقَ إلى درجة الفضيحة اللغوية، لكنها أصابتني بالغثيان كلما فتحت الرواية؛ فأهرب منها خوفاً من فاصلة ضائعة، أو حرف شارد، أو حركة إعرابية قاتلة.
في روايتي الثانية، نسيت النموذج. لم أنبطح لسلطة نص آخر. كتبت برؤية جديدة. كنت أنا لا غير. اخترت داراً للنشر معروفة بجودة نصوصها ومهنيتها (دار مدارك السعودية)، التي تملك الجرأة الإبداعية لكن بهوية مهنية صارمة؛ فخرجت روايتي الثانية للوجود، (ذاكرة جدار الإعدام) راقية التصميم منقحة. مرت بشكل سلس بكل المراحل، وأنا فخور بها، وسعيد لهذه الدار الكبيرة…
الخلاصة أن الكتابة مهنة شاقة، ولم تكن بالنسبة إليّ متعة إلا في لحظات قليلة؛ فأنا أخط كل كلمة وأشحنها بالطاقة الدلالية المناسبة. هوسي هو تدقيق المعنى، وعدم التساهل في التعابير حدّ الهوس. أرفض استعمال مصطلح أجنبي مسكوك عربياً. تخيفني الكلمات مثل: البلكونة، والبنطال، والبيرة، والأوتيل. أعد العملية عسفاً وتعسفاً؛ عدا إن كانت لضرورة حوارية. أشمئز من الاستسهال والركاكة والتقريرية، وجفاف الأسلوب وفوضى الكتابة بحجة التجريب أو الحداثة أو ما بعد الحداثة. التجديد هو الانتماء زمنياً لهموم وقضايا المرحلة، ولو بالنبش في التاريخ، واستدعاؤه ليكون راهناً معبراً عن قضايا جديدة، لكن لكل جنس أدبي هوية تحدد الحدود الدنيا لجمالياته. الرواية هي الرواية: حكي، وقصة متشعبة الأحداث والحكايات الفرعية؛ جمالها في ارتباطها بالتاريخ الإنساني، بالذات والآخر في الوقت نفسه.
الرواية عمل متعب؛ فأنا أشتغل كعامل يحفر خندقاً في يوم قائظ…
أزمة وجودية النص الإبداعي هي أزمة دور نشر…الكبيرة تراهن على الاسم ولا تقبل الخسارة… والصغيرة منها تنشر في غياب لجان تقويم وتقييم جمالية وأكاديمية. قد تكون داراً وهمية؛ صاحبها الكل في الكل، ولا يهمه غير ما يمنحه الكاتب المبتدئ المتحمس.
الكتابة مهنة شاقة، وكل رواية عندي هي أرقٌ واكتئاب، وكد ووجع وألم. لا أتمتع حين أكتب؛ لأن الكتابة السردية صناعة وفن علم وحرفة..


الكاتب : خالد أخازي روائي وإعلامي

  

بتاريخ : 24/04/2024